شنطة يدي مجرد كيس

حتى منتصف القرن السابق، لم تكن جداتنا بحاجة إلى حمل حقائب تحتوي على هواتف نقالة أو حواسيب أو أكسسوارت كضروريات، بل إن حقائبهن في الموروث الاجتماعي لم تتجاوز ما يطلق عليه "المّخبة" وهو جيب يحاك في ثوب "الدراعة أو الجلابية" التي يرتدينها فيحفظن فيها أشياءهن الصغيرة من نقود ومفاتيح وما شابه. كما درجت بعضهن على عادة لف نقودهن أو مفاتيحهن وربطها بطرف "الشيلة"،
2013-05-27

منى عباس فضل

باحثة من البحرين


شارك

حتى منتصف القرن السابق، لم تكن جداتنا بحاجة إلى حمل حقائب تحتوي على هواتف نقالة أو حواسيب أو أكسسوارت كضروريات، بل إن حقائبهن في الموروث الاجتماعي لم تتجاوز ما يطلق عليه "المّخبة" وهو جيب يحاك في ثوب "الدراعة أو الجلابية" التي يرتدينها فيحفظن فيها أشياءهن الصغيرة من نقود ومفاتيح وما شابه. كما درجت بعضهن على عادة لف نقودهن أو مفاتيحهن وربطها بطرف "الشيلة"، أي الملفع الذي يغطي رأسهن. وعليه لا ملامة على المسكينة "أم علي" حين سافرت مرة من البحرين لزيارة مرقد الأمام الرضا في مشهد، حيث أجبرتها بناتها على حمل "حقيبة يد" وضعت فيها أشياءها الثمينة، ومن بينها محفظة نقودها التي كانت تحتوي على "1600 دولار. "أم علي" نسيت حقيبة اليد برمتها في التاكسي، لأنها لم تتعود حمل هذا العبء الثقيل، ولم تشعر يوماً بضرورته، ومثلها فعلت "أم أحمد" حين تركت شنطة يدها تحت مقعدها في احد المطارات لتتذكر في ما بعد إنها نسيتها.
بعد طفرة النفط وعائداته، وفي سياق ثقافة الاستهلاك المصاحبة، نمت في مجتمعاتنا حالة الاهتمام بالمظاهر وبالتفاصيل، وأصبحت في إطارها فئات من النساء يتبارين بالتمييز واستعراض حقائبهن كأحد مظاهر الأناقة ومكملات البرستيج، فراجت مع الوقت سوق "حقائب اليد"، التي أخذت تكبر وتتنوع في الألوان والتصاميم المختلفة وتتنافس في جاذبية. وتضخمت شكلاً ومضموناً، وغدت أشبه بالخزانة المتنقلة على الأكتاف لفرط ما تحويه من أشياء، لا سيما مع شيوع الجوال والآيباد الذين تموقعا ضمن ضروريات ما تحويه تلك الحقائب. فما الذي تحمله النساء في تلك الحقائب؟ وما علاقتهن بها؟
في استطلاع قمنا به للتعرف الى ذلك، أجمعت أغلب المستجوبات من عاملات، وسيدات أعمال، وربات بيوت، وشابات بأن محتويات "شنطة اليد" تمثل عندهن حاجة ضرورية لا يمكنهن الاستغناء عنها، فيما وجدت إحدى الشابات بأنها مجرد كيس تضع فيها حاجياتها حتى لا تتبعثر. أما بالنسبة لمحتوياتها، فهناك "قواسم مشتركة": محفظة نقود تتصدرها صور المقربين، وبطاقة الهوية ومفاتيح البيت ومناديل ورقية... هي الحد الادنى الذي يكاد لا يلتزم به أحد. فبعد هذه تأتي رخصة قيادة السيارة ومفاتيحها وبطاقات الائتمان والصحة والنظارات الشمسية والطبية وأحمر الشفاه والكحل والبودرة، وكريم لليد، وزجاجة عطر، وفرشاة (وخيوط) للأسنان، وفيتامينات وأدوية ومسكنات للألم، وضمادات، ومرآة صغيرة، ومعقم لليد، ومقص أظافر ومبرد، وغيارات داخلية تحفظاً لأمر طارئ، ودفتر أرقام الهواتف، وقلم، وأجندة، وأحياناً كتاب، وعلكة وبعض السكاكر...الخ"... هذا بالطبع لمن لديه سيارة وبطاقة ائتمان، ما ينبئ بدوره عن الانتماء الطبقي لصاحبته، وعن محيطها الاجتماعي.
ورغم وضوح محتويات شنط اليد هذه، إلا إنها تمثل برأي البعض سراً من أسرار النساء بسبب ارتباطهن النفسي بها، إذ يندر خروجهن للشارع من دونها. كما تشعر بعضهن بالتوتر وعدم الطمأنينة لو لم تتدلى من يدهن حقيبة. ذكرت لي سيدة أعمال "أكره أن أنسى حقيبة اليد في المنزل وأحب أن ترافقني معظم الوقت"، وأخرى "شنطة اليد من الأساسيات والأناقة، وبدونها أحس نفسي ضايعه، وهي تشكل شئ مهم جدا لأنها تحتوي على كل أغراضي واحتياجاتي"، بينما تضيف أحدهن "إنها ضرورة قصوى، لا أستطيع السير بدونها، إنها شئ مهم جداً في حياتي".
في الواقع، "حقيبة اليد"، برغم ما تمثله من الضرورات الحياتية حسب شهاداتهن في عالم اليوم، إلا إنها غدت أيضا إكسسوارا قائما بذاته، يتجاوز وظائفه، اي فائضاً تحمله المرأة لاستكمال أناقتها وتميز مظهرها. وفي تحليل ظاهرة علاقة النساء بالحقائب، ذكرت لي شابة: "كل ما يخص المرأة خصوصي، لا بد من حجبه، وهذا له صلة بالموروث الاجتماعي، ولهذا كل ما بداخل شنطة اليد مرتب بنسق يجعل منها عالم خاص بصاحبتها"، كما اعتبرت أحد الدراسات بأنها مؤشر على تحرّر المرأة من البيت والمطبخ والأطفال... ومن جهتنا، فلا ندري كيف يمكن للحقيبة أن تحرر المرأة من ذلك بينما هي تثقل كاهلها بحمل ما تحتويه تحسباً لأي ظروف طارئة غالباً لا تحدث. حتى أن الأطباء نصحوا مريضاتهن بتخفيف هذه الأثقال لما تسببه من آلام مزمنة في عضلات الكتف والرقبة. إضافة إلى ثقل أسعارها لمن يتبع منهن أحدث خطوط موضة "حقائب اليد" من ماركات وموديلات وألوان تتغير بسرعة، إذ يتباهين بشراء الأجمل والأغلى ثمناً بحجة الأصالة والجودة، وباعتبار إن مرات الشراء لا تتم إلا كل سنة أو سنتين. أو هن يبحثن عن بدائل مقلدة "طبق الأصل" بأسعار أيضا مرتفعة.
وعليه فـهذه "الحقيبة الكنز" هي مدخل يكشف عن شخصية المرأة التي تحملها وعن وضعها الاجتماعي، كما انها تعكس أنماط حياة صاحبتها المعيشية وإن بشكل مضمر، لا سيما بوجود أشياء محددة بذاتها ربما كانت تجسد أكثر من سواها الحالة النفسية لحاملتها أو على الاقل طريقتها في التفكير، إضافة إلى كونها "تابو" لا يمكن التعدي على مساحته والكشف عما به. هذا ما تقوله بكل جدية الدراسات الاجتماعية التي تناولت حقائب يد النساء (بحسب المجتمعات والاوساط، لكن بوجود حيز مشترك متعاظم في هذا الصدد). تصوروا؟ كل ذلك في "الكيس/الشنطة"!

            
 

مقالات من البحرين

للكاتب نفسه

خيارات الاتحاد النسائي البحريني

لم تحد مطالبات الحركة النسائية البحرينية عن أصل الحكاية التي تأسّست في 8 آذار/مارس 1857 بتظاهرة عاملات مصانع النسيج الأميركية للمطالبة برفع الأجور وتقليل ساعات العمل، حتى تجدّدت في تظاهرات...

سريالية السياسة في البحرين

دخلت البلاد منذ أسابيع في حالتها الربيعية الاحتفالية، عكستها لافتات إعلانات العروض والحفلات الموسيقية، والمهرجانات الثقافية والمؤتمرات وورش العمل على نفقة المال العام، واستقبالات حافلة لوفود من المشاهير (فنانين، مطربين،...

البحرين: "هذي أرضنا، نموت ونحيا فيها"

من علو سطح منزل متهتك، في حي ينتشر فيه الفقر كوباءٍ مزمنٍ بإحدى قرى الاحتجاج الشعبي، تتحرك الكاميرا بثبات، تلتقط تسجيلاً مرئياً وصوتياً لامرأة شابة تتدثر بعباءتها السوداء، عزلاء تحتضن...