عُمال النظافة في العراق على هامش المجتمع والسياسة

ثمّة حيلة بسيطة وسهلة وفعّالة، ابتكرها "العالم الحُرّ" لخصخصة أيِّ قطاع عمل حكومي: دمّره أوّلاً.. وانزل به إلى الدرك الأسفل من البؤس ثمَّ سلّمه إلى شركة خاصّة. هكذا يُضمن بأن يكون الحلّ ملموساً لدى عامّة الناس، مُتفادياً في الوقت ذاته الحاجة للتمحيص في مسببات تدمير هذا القطاع وتسريح عمّاله. والحال هذه في دول منضبطة لا تسأل مسؤوليها عن حيلة الخصخصة.. فكيف ببلد تحكمه الفوضى مثل
2016-03-17

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
باسم الساير - سوريا

ثمّة حيلة بسيطة وسهلة وفعّالة، ابتكرها "العالم الحُرّ" لخصخصة أيِّ قطاع عمل حكومي: دمّره أوّلاً.. وانزل به إلى الدرك الأسفل من البؤس ثمَّ سلّمه إلى شركة خاصّة. هكذا يُضمن بأن يكون الحلّ ملموساً لدى عامّة الناس، مُتفادياً في الوقت ذاته الحاجة للتمحيص في مسببات تدمير هذا القطاع وتسريح عمّاله. والحال هذه في دول منضبطة لا تسأل مسؤوليها عن حيلة الخصخصة.. فكيف ببلد تحكمه الفوضى مثل العراق؟
وفي بغداد، المدينة المتوجة "الأسوأ" عالميّاً بين 223 مدينة من الناحية الخدميّة والمعيشيّة، يُحيل مسؤولو "هيئة خدمات بغداد" تردي الأوضاع الخدماتية إلى "غياب الرؤية وعدم توفر الشخص المناسب في المكان المناسب"، حتى في أبسط القطاعات مثل قطاع النّظافة، الذي يمكن سرد قصة خصخصته.

عهد الخصخصة والتسريح

منحت أمانة بغداد في العام 2011 شركة تركيّة عقداً بقيمة 31 مليار دينار (حوالي 25 مليون دولار) لمدّة عام لرفع النفايات وتنظيف مساحة 40 كم تشمل مركزي المدينة في جانبي الكرخ والرصافة، إضافة إلى المنطقة الخضراء، محميّة المسؤولين العراقيين. أدى هذا الوضع إلى تسريح عمال النظافة العراقيين الذين سبق للحكومة وأن وظّفتهم بأجور يوميّة من دون أن تؤمّنهم صحيّاً أو تضمن لهم رواتب تقاعد، إذ استعاضت الشركة التركية عن هؤلاء بعمّال بنغال وغيرهم من الأيدي العاملة الرخيصة.
بيد أن هذا العقد الضخم لم يكن كافياً لحلّ أزمة النظافة المتراكمة لسنين. ما "اضطر" الحكومة للاستعانة مرة أخرى في العام 2013 بشركة خاصة، لبنانية هذه المرة (!)، جاءت ذات نهار بسيّارات رفع نفايات وهي تحمل عمّالاً عراقيين وبنغال لتدور في شوارع منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد، معلنة انطلاق عهد جديد في تاريخ النظافة. بدا كلُّ شيء في ذلك الاستعراض منضبطاً وأنيقاً. صوّرت عدسات الإعلام الحدث، وهلّل الأهالي بقدوم الشركة اللبنانية التي تعاقدت معها الحكومة على تنظيف منطقتين في بغداد لمدة خمسة أعوام بمبلغ 18 مليار دينار سنوياً (حوالي 14.4 مليون دولار). ترافق العقد مع تسريح المزيد من العمّال العراقيين وتخفيض أجور ما تبقّى منهم من نحو 450 ألف دينار (حوالي 360 دولارا) شهرياً إلى 300 ألف دينار (حوالي 240 دولارا).
ولمّا بدا أن الواقع قد تحسّن قليلاً، ذهب أمين بغداد السابق إلى الإعلان عن العمل على خصخصة قطاع النظافة بشكل كامل في العاصمة، حيث وصف هذه العمليّة بأنّها من "الأمور المهمة" من أجل "التفرغ إلى أعمال أخرى". وعلى إثر ذلك خصص 82 مليار دينار (حوالي 65.6 مليون دولار) من موازنة أمانة بغداد، وهي الدائرة المسؤولة عن 14 بلدية، لمنحها لشركات خاصّة تنظّف بغداد عام 2014. إلّا أن الخلافات السياسية التي أخّرت إقرار موازنة ذاك العام أجّلت المشروع. ولم تقتصر حمى خصخصة النظافة على بغداد إذ امتدت إلى محافظة البصرة، أقصى جنوب العراق. تعاقدت الحكومة المحليّة هناك مع شركة تركيّة في عام 2010 لتنظيف مركز المحافظة (مستثنية أطرافها)، إلّا أنها فشلت وأخّلت بالعقد، فعادت لتتعاقد مع شركة كويتية عام 2014 بمبلغ 207 مليار دينار عراقي (حوالي 165.6 مليون دولار) لمدّة ثلاثة أعوام، وهي أيضاً ستنظّف مركز المحافظة فحسب!

النهب على دفعتين

لكن ما "الميّزات" التي تمتلكها هذه الشركات ولا تملكها الدوائر الحكومية؟ تشير تقارير أمانة بغداد إلى أنّ الشركة اللبنانية تمتاز بامتلاكها 109 آليات تنظيف، ومنظومتي GBS وGPSR لتتبع الآليات والأفراد والحاويات، فضلاً عن مهندسين متخصصين. وهذا يتناقض، بطبيعة الحال، مع موازنات الدوائر البلدية طوال الأعوام الماضية التي سمحت بشراء الآليات ومراكمتها سنوياً، علاوة على تخصيص موازنات كبيرة أيضاً لإصلاح تلك الآليات، لكن عقود شراء الآليات لطالما كانت "فاسدة"، وحتّى إذا لم تكن كذلك، فإن تشغيلها يتطلب خبرة من المسؤولين في تلك الدوائر، وهم جلّهم وُضعوا في مناصبهم من قبل الأحزاب المشاركة في السلطة من دون أن تكون لهم دراية كافية في الإدارة. الأحزاب في هذه المعادلة منتفعة أيضاً إذ أنها تنتظر حصّتها من أموال العقود مع الشركات الخاصة، ويصبح "النهب" هنا مضاعفاً من عقود الشراء ومن الخصخصة!
ويدفع عمّال النظافة العراقيون ثمناً باهظاً مقابل الفساد المقرون بالخصخصة. تُعدُّ هذه الفئة واحدة من أكثر الفئات العماليّة المُهملة في العراق، إذ لا تجتمع تحت سقف أي نقابة ولا يوجد الكثير من الإحصائيات بشأنها، كما أنها لا تحظى باهتمام الإعلام أو مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، ولو لكونها عرضة باستمرار للموت بسبب عملها جراء أساليب المجموعات الإرهابيّة التي ترمي العبوات المتفجِّرة في النفايات.

الآلية الأميركية في استغلال المعدمين

وتعود هشاشة هذه الفئة إلى خصوصية تكوينها في الأيام التي تلت الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان / أبريل عام 2003، وقد عمّت البطالة آنذاك في كلِّ مكان بين شريحة الشباب العراقي المُعدم. كانت سلطة البعث والعقوبات الدوليّة على العراق قد نجحت في تحويل الشقّ الأساسي للمجتمع العراقي المعروف بشبابه، إلى أعداد هائلة من الأميّين تجوب الشوارع دونما عمل أو جدوى. ولضمان عدم انخراط هؤلاء في الميليشيات المسلّحة التي تستهدف الجنود الأميركيين، قام الاحتلال الأميركي بإعطاء مُنح أموال من السلطة المدنية للاحتلال إلى مقاولين يوظفون هؤلاء الشبّان في المناطق الشعبيّة المكتظة بأعداد كبيرة بصفة عمّال نظافة. بذلك قصد الاحتلال أيضاً نيل رضى السكان عن وجوده والترويج بأنه يؤمّن العمل والنظافة في المدن العراقيّة التي دمّرت. استعيدت آلية الاحتلال الأميركي هذه مع أعوام العنف الطائفي (من نهاية 2005 إلى 2007)، حيث تحوّلت المُدن مرتعاً للخوف، هي خالية تماماً من السكّان، والعمل في الحرب نادر، فأخذت البلديات في جلّ المحافظات العراقيّة تتعاقد بأجور يوميّة مع الشبّان لإزالة النفايات من الشوارع، وكان هؤلاء في أكثر أحوالهم بؤساً، وفاقتهم وجوعهم حولاهم إلى وقودٍ للعنف، إذ لا يمرُّ يوم من دون أن يسقط أحدّهم قتيلاً برصاص المجموعات المسلّحة المتقاتلة أو بالعبوات الناسفة المرميّة في الشوارع وفي حاويات النفايات.
انتفاء الحاجة!
وصحيح أنه لا يُمكن نكران أن هؤلاء الشبّان كانوا جزءاً من الشبكة الكبيرة التي تحاول الأحزاب العراقيّة المُشارِكة بالسلطة استرضاءها لدوامها في السلطة، إلا أن ذلك لا ينفي أنهم استُغلّوا أبشع استغلال بتركهم دون أي ضمانات حقوقية، إذ أنهم خرجوا من ربقة نظام ديكتاتوري إلى نظام "نهّاب". وبطبيعة الحال، لم يُتَح لهم الوقت لمعرفة شيء عن الممارسة السياسية الحقيقية، أو وسائل الضغط على السلطة لضمان عقود تؤمِّن لهم تدريباً حديثاً على عمليات رفع النفايات، وتأميناً صحيّاً كونهم يعملون في ظروف تلويث، يُضاف إليها اعتراف وزارة البيئة أن النفايات الصحية ترمى إلى جانب النفايات المنزلية وتسقط أخيراً في نهر دجلة.
إلا أن ما زاد الطين بلّة تجاه عمّال النظافة هو تغيّر نمط التوظيف الذي اتبعته السلطة وقد أخذت تركّز منذ أعوام 2008 وما بعدها والذي قام على إيجاد وظائف لخريجي الجامعات والمعاهد في أعمال إدارية. جاء هذا ضمن سياستها لتوسيع شبكة إرضاء الأحزاب للسكان من أجل بقائها في السلطة، متبعة نهج الأمريكان في التوظيف في قطاع النظافة. إلا أن التوسيع الآني لشبكة الأعمال البيروقراطية والترويج لها جاء على حساب الوظائف الخدماتية الضرورية لأيّ مجتمع، بل عمل على وسمها بصبغة "التحقير" وعلى رأسها الوصم الاجتماعي المقرون بعمّال النظافة.
كلّ هذه التغيّرات سمحت لمحافظ البصرة أن يسرِّح سبعة آلاف عامل نظافة في يوم واحد لانتفاء الحاجة إليهم، وأيضاً بتأخير رواتب البعض منهم لأشهر في محافظات بغداد وذي قار وديالى. مرَّ رمي هؤلاء للجوع دون أن يُثير ضجّة، وما كان منهم إلا أن يُمارسوا وسائل الضغط المتداولة: في البصرة خرجوا بتظاهرات حيث جمّعوا النفايات ورموها أمام مقرّ الحكومة المحليّة، وأخذوا يهتفون ضد المحافظ. وبعض كبار السنّ تساءل إلى أين يذهب لأنّه لا يمتلك لا عضلات تعينه لبيع عمله، ولا راتبا تقاعديا يضمن له العيش لسنوات متبقيّة. كان لافتاً أن شاشتين تلفزيونيتين فقط بثّتا تقريرين عن هؤلاء، أما الصحافة المكتوبة فقد التزمت الصمت تماماً. وفي بغداد أغلقوا جسرين حيويين وسط العاصمة، وحاولوا الدخول إلى مقرّ أمانة بغداد، إلا أن الشرطة منعتهم وفضّت تظاهرتهم. وفي مدينة المقدادية في ديالى أضربوا عن العمل حتّى يتسلّموا رواتبهم ويحصلوا على عقود عمل جديدة تضمن لهم راتباً تقاعدياً.
لم تكتف السياسة بقتل عمّال النظافة في العراق على طول سني العنف فيها، بل استزادت بتعريضهم لأبشع حال. لقد لفظهم المجتمع والدولة على حدّ سواء: لم يتلقّوا تدريباً للمنافسة على الوظائف في الشركات التي تحصلت على عقود التنظيف، فصفقة السلطة لم تتضمّن هذا البند، وهي لم تكن تريده أساساً. وما كان للمنظمات الحقوقيّة ولا لمنظمي التظاهرات الالتفات إليهم ومعاونتهم على التنظّم ضمن نقابة عمالية، أو بالضغط على السلطة من أجل ضمان حقوقهم. ولذا سيظلُّ مقص التجويع الذي تتبعه السلطة العراقيّة اليوم يبقر بطونهم. ألم يصبح "العيب" في عراق اليوم ممارسة طبيعية؟

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...