أطلس الوحشيات في العراق

ثمّة وحشيّات عدّة تناهبت العراق خلال العقود الماضية، منها محليّة وأخرى كولونياليّة، وقد تباينت في أشكالها وطرائقها، وبالرغم من تأثيرها على الإنسان العراقي بشكل مباشر، إلا أنها أثّرت أيضاً في تاريخه الممتد إلى عمق وجود الإنسان على الأرض وما تلاه. إنها الوحشيّة في التعامل مع الحضارات العراقيّة الغابرة، مع ما تبقّى من تماثيل الآلهة وكلماتهم وحياتهم وآثارهم. وحشيّة
2015-03-12

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
| en
تفصيل من بوابة عشتار/ بابل، بناها نبوخذ نصر (580 قبل الميلاد)

ثمّة وحشيّات عدّة تناهبت العراق خلال العقود الماضية، منها محليّة وأخرى كولونياليّة، وقد تباينت في أشكالها وطرائقها، وبالرغم من تأثيرها على الإنسان العراقي بشكل مباشر، إلا أنها أثّرت أيضاً في تاريخه الممتد إلى عمق وجود الإنسان على الأرض وما تلاه. إنها الوحشيّة في التعامل مع الحضارات العراقيّة الغابرة، مع ما تبقّى من تماثيل الآلهة وكلماتهم وحياتهم وآثارهم.

وحشيّة البعث

كان صدّام حسين، القادم من الرّيف إلى فضاء المدينة أوَّل حاكم عراقي مهووس بصناعة تاريخ شخصي، فحاول استعارة بُطولات الأوّلين من سكّان العراق وراح يُشيِّد قصوراً بتصاميم غريبة وطراز معماري غارق في الرفاه. وهو أطلق شعار "من نبوخذ نصر إلى صدّام حسين.. بابل تنهض من جديد" على مهرجان بابل السنوي الذي يدعو إليه كل عام فنانين من مختلف دول العالم، و"أمر" حينها بأن يحفر اسمه على لبنات مدينة بابل الأثرية، ما حدا باليونسكو إلى شطبها من لائحة التراث الإنساني العالمي وتحويلها إلى مدينة "سياحية". ولإفراطه في هذا الجنون، سرت شائعة بأنه استعار من المتحف الوطني طوق الملكة شبعاد ليلبسه لزوجته. وبغض النظر عن صحة الواقعة، وإن تكن الرواية من نسج خيال الناس، فهي معبرة بذاتها! وفي محاولة أخرى لإقحام اسمه على جدار أهم نُصُب بغداد، وهو نصب الحرّيّة لجواد سليم، الذي شيد في زمن عبد الكريم قاسم أول رئيس للعهد الجمهوري، أقام صدام حسين نافورة ماء تتقدم النصب وكتب عليها "شُيد في زمن القائد صدام حسين"، ليوهم الأجيال القادمة أن النصب شيد في زمنه. إلا أن الاعتراضات الكثيرة على النافورة التي شوهت النصب من جانب، وهددت أسسه بالمياه من جانب آخر، اضطرته لرفعها.
وفي عام 1991، أثناء انتفاضة العراقيين على النظام الذي جرهم الى كارثة حرب "تحرير الكويت"، تحرّكت "جحافل لصوص الآثار" مستغلة الفوضى، لنهب 13 متحفاً في مدن الانتفاضة سارقة المقتنيات الموجودة ومدمرة المباني، الأمر الذي تسبّب بفقدان الكثير من الآثار البابلية والسومرية والأكاديّة.
بعد ذلك، شرعّ اهل النظام في حفر المواقع الأثرية من أجل استخراج اللقى وبيعها، وكانت أكثر الأعمال رواجاً لعدد من الفنانين والنحاتين هي تزوير الآثار من أجل بيعها في العاصمة الأردنيّة عمّان. وشاع أن المُشرف على عمليّة تهريب وبيع الآثار كان أرشد ياسين، المرافق الأقدم لصدام وزوج أخته غير الشقيقة.

وحشيّة البيت الأبيض

بعد احتلال القوّات الأميركية لبغداد، طلب بهنام أبو الصوف، مستشار المتحف الوطني آنذاك، من دبّابة أميركية أن تقف أمام بوابّة المتحف من أجل حمايته من السُراق الذين توزّعوا على الدوائر الرسميّة لنهبها. إلا أن طاقم الدباّبة رفض الطلب، لأن الأوامر لم تكن قد صدرت لحماية المتحف (لم تحمِ واشنطن إلا مقر وزارة النفط من العبث)، وبعد أن تمت سرقة آثار المتحف، دبّت الغيرة في القيادة الأميركية وهبّت دبابة في اليوم الثاني لـ "حماية المتحف"!.. وفي هذا الوقت، كانت دبابات أخرى تتحرّك على أضلاع مدينة بابل الأثريّة، وجنود المارينز يستريحون على ظهر أسد بابل، فيما جنود آخرون يعقدون اجتماعاً على مدرج المدينة الأثري، بينما إلى شمال العاصمة، كان جنود آخرون يتخفّفون من أحمالهم في مدينة سامراء بالقرب من الملوية الأثرية التي بنيت في العصر العباسي. وأدّى تواجد الجنود في هذه المدن الأثرية إلى إلحاق أضرار بالبوابات والأرضيات وببعض ما تبقّى من الآثار.
أحصت منظمة اليونسكو سرقة نحو 15 ألف قطعة أثريّة من المتحف الوطني في كرخ بغداد، قام بعض الجنود الأميركيون وموظفو الشركات المرافقة لهم بسرقة بعضها، ووجد الكثير منها في البازارات الأميركية المختصّة بالفنون، ولم يُعَدْ من كل تلك الآثار سوى 4 آلاف قطعة فيما بقي جزء كبير منها مجهول المصير.

وحشية المحاصصة

تتحدَّر أغلب الشخصيات التي تناوبت على حكم البلاد منذ عام 2003 وحتّى الآن من أحزاب إسلاميّة لا تختلف وجهة نظرها تجاه الآثار عن الإسلام الأصولي الذي يصنفّها كـ "أصنام". ولذا، لَمْ تحظَ الآثار طوال العقد المنصرم بالاهتمام في إعادتها من الدول التي تَعرِضُ التراث العراقي في متاحفها، ولا البازارات التي تبيع القطع الآثرية علانية، ولا حتّى ترميم البيوتات والمتاحف وفقاً للمقاييس العالميّة (لا تزال مدينة بابل خارج قائمة التراث العالمي بسبب مخالفات صدام حسين والحكومات المحلية التي تلت)، بالإضافة إلى أن موسم الأمطار كل شتاء كان يشهد إغراق المزيد من المخطوطات والتماثيل في مخازن المتحف الوطني لوجود خلل في بنائه على أثر شبهة فساد في عقد ترميمه، والذي نبّهت اليونسكو إليه أكثر من مرّة دون أن تلقى استجابة من أحد.
وحتّى هذه اللحظة، لا تعلم الحكومة العراقيّة كيف وصلت مخطوطة توراة نادرة تخصّ العراق إلى إسرائيل في كانون الثاني / يناير(احتفل ليبرمان والحاخامات بوصولها)، ولم يجرِ التحقيق بكيفية تهريبها ومن المسؤول عن ذلك، إذ اكتفت وزارة السياحة بالتنديد، فيما أعلنت واشنطن عدم مسؤوليتها عن الموضوع، وهكذا تمّ نسيان الأمر بشكل عاجل.
وأثناء ذلك، فقدت بغداد نصف البيوت التراثيّة التي يعود تاريخ بنائها إلى القرنين الماضيين، وتم ترميم بعضها الآخر بطرق متخلّفة وسيئة مثيرة للسخريّة، فيما ظلّ المتحف الوطني كأحد أبرز عناوين التلكؤ إذ ظل العمل فيه مستمرا لعشرة أعوام، وبعد افتتاحه صار إحدى المحميات التي يمنع التصوير فيها، ولا يتمّ الترويج له كعلامة دالة على التاريخ العراقي، ولم تقم المدارس بأخذ الطّلاب في رحلات مدرسيّة إليه، كما كان معتاداً، لاطلاعهم على تاريخ بلادهم.
ويوجد اليوم في العراق نحو 12 ألف موقع أثري، إلا أن أغلبها يعاني من الإهمال، ولم تقم الحكومة سوى بتوظيف 4 آلاف حارس غير مدرّب على حراستها وكيفية التعامل معها.
ويمكن عدّ التعبير الأبرز لتعامل أحزاب الإسلام السياسيّ مع التراث في تعليق وزير السياحة السابق على صفحته في "فايسبوك" بعد استعادة إحدى القطع الآثرية، بالآية "اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى".. تبرؤًا ربما من إثم الصنم المستعاد!

وحشية "داعش"

الآثار هي ثاني الموارد التي يعتمد عليها تنظيم "داعش" لتمويل عملياته وإدامة بقائه، بعد النفط. وكانت اليونسكو قد أقرّت ببيع التنظيم الإرهابي لآثار عراقيّة وسوريّة، مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرار يمنع المتاجرة بإرث البلدين الحضاري. وإذا كان "داعش" يتعمّد إيجاد "تشريعات" من بطون كتب التراث للقيّام بعمليّات القتل الوحشيّة مثل الإعدامات الميدانية ذبحاً في مدن العراق، وعقوبات الجلد في الرقة، وحرق الكساسبة، وإعدام الأقباط، فإن الكثير من الفتاوى الإسلامية تتيح له هدم التماثيل وحرق الكتب. وجاء تدمير متحف نينوى، المُغلق منذ عام 2003، استمراراً لنهجه "المتوحّش". ويبدو أن التنظيم المتطرّف كان يُحاول إيصال رسالة إلى مناصريه بأنّه لم يبع التماثيل لتمويل نفسه، وأنّه تنظيم قويّ ولا حاجة له بالمتاجرة بالمحرّمات.
أما ردود الفعل فكانت أسوأ، إذ لم تدن المرجعيّات الدينية في العراق فعلة "داعش"، وبدت وزارة السياحة مرتبكة لساعات طويلة، ولاذت بالصمت بدلاً من "الإدانة" وإحصاء ما تمّ تدميره.

أطلس الخراب

كان يُمكن ملاحظة الدموع المحبوسة في عيون العراقيين بعد نشر "داعش" للفيديو الذي يمتدّ لدقائق عدّة حيث يقوم عناصره بتحطيم الآثار العراقية التي تعود إلى آلاف من السنوات. كان يمكن قراءة العيون وهي تتحدّث عن ماضيها وحاضرها المسلوب، وكان يمكن أيضاً تلمّس أطلس الخراب الذي امتد على الخارطة العراقية.
في المحصّلة، فإن الفرق في مشاهد الدمار بين "داعش" والقوّات الأميركية في تدمير الآثار ونهبها، والحكومة العراقية وإهمالها وفسادها، هو طريقة الدعاية فحسب. فالتنظيم الإرهابي قادر على صناعة الصدمة لأنّه يحتاجها لإثبات قوّته ولاشاعة الرعب لدى الجميع، أما الحكومة العراقيّة فكان تعاملها مع الآثار الممعن في الإهمال لا يقلُّ بشاعة عن "داعش". فالنتيجة واحدة: التبديد. 

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...