العراق..أيّام الأدرينالين

أدّت لحظة سقوط ثلث مساحة العراق بيد تنظيم "داعش" في حزيران / يونيو من العام الفائت إلى إفراز شحنة قوية من الأدرينالين في أجساد العراقيين. التوتر الذي يفرزه الهرمون دفعهم الى التفكير بمصائر أقّلها الهجرة، وأبشعها الذبح على يد التنظيم/الغول الذي تفنّن بنشر البشاعة على مواقع الانترنت. صوّرت الحكومات العراقيّة، سواء التي كانت حينها برئاسة نوري المالكي أو تلك الحالية برئاسة حيدر
2015-04-09

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
سعاد العطّار-العراق

أدّت لحظة سقوط ثلث مساحة العراق بيد تنظيم "داعش" في حزيران / يونيو من العام الفائت إلى إفراز شحنة قوية من الأدرينالين في أجساد العراقيين. التوتر الذي يفرزه الهرمون دفعهم الى التفكير بمصائر أقّلها الهجرة، وأبشعها الذبح على يد التنظيم/الغول الذي تفنّن بنشر البشاعة على مواقع الانترنت.
صوّرت الحكومات العراقيّة، سواء التي كانت حينها برئاسة نوري المالكي أو تلك الحالية برئاسة حيدر العبادي، عناصر التنظيم وكأنهم هبطوا من الفضاء بمركبات لا تُرى بالعين المجرّدة، وسيطروا فجأة على تلك المساحة الواسعة التي أدّت إلى تهجير نحو مليوني فرد، وذبح الأقليات وطردها إلى خارج الحدود.
 

اتّهامات متبادلة

لم تتوقّف الحكومة عند حالة الجيش الذي تبخّر لحظة المواجهة. لم يتم التّدقيق بالمليارات والترليونات التي أُنفقت على القوّات الأمنيّة طوال 11 عاماً من تشكيل العراق الكولونيالي الجديد، المشرَّع الحدود، والذي يعاني أزمات داخليّة حادة، ويئن سكّانه بسبب الفقر والفاقة والحرمان.
ووسط هذه الفوضى، وقف العراقي فاغراً فاهه، ململماً ذاكرته، مهيئاً نفسه لخسارات أقلّها التعدّي على سيادته، والسماح لجنود من خارج الحدود بأن يخطّطوا لمعارك خلاصه، وأكثرها قسوة القبول بدخول نوّاب إلى قبة البرلمان القادم ينحدرون من أحزاب متطرّفة، لها ماض عتيد بحمل السلاح والقيام بأعمال مخلّة بالقانون.
في اللحظة التي بدأ ضخ الأدرينالين فقد الجميع البوصلة، وبات البحث عن الخلاص يتسيّد الموقف. يصف العراقيون حربهم ضدّ "داعش" بأنها "معركة فناء أو بقاء". ومقابل الوجود المُهَدَّد ليس هناك خيارات كثيرة، ليس أمامهم إلا القبول بأشكال المقاومة البدائية، مهما كانت اجنداتها ضامرة.
بالمقابل بدت الدولة العاجزة التي صنعتها الأحزاب السياسية الغارقة في الفساد، أكثر خوفاً على مستقبلها في الاستمرار بالحكم منها على البلاد. هكذا شرّع لدخول نحو 3 آلاف "مستشار" أميركي موزّعين على القواعد العسكرية من أجل تدريب القوّات الأمنية، والإشراف على العمليات العسكرية. ستُدار أثناء معارك تطهير الأراضي من "داعش" معارك جانبيّة بين الخصمين اللدودين، حيث تتهم الفصائل التي يقودها الجنرال سليماني الطائرات الأميركية بإلقاء السلاح لـ "داعش" من أجل إنقاذه من الحصار، بينما تجيّش الإدارة الأميركية الإعلام من أجل اتهام الفصائل الشيعية المسلحّة التي تقاتل على الأرض بارتكاب مجازر بحقّ "السُّنة" المدنيين.. ويقف حيدر العبادي وسط هذا الخضم محاولاً دحض التهم عن الطرفين، والدفاع عن سيادة العراق، راجياً عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للبلاد، وإبعاد الحساسيات بين طهران وواشنطن عن الحرب الدائرة في العراق.
 

بُطلان الدولة

أثبتت لحظة السقوط المُدوِّي للمُدن العراقيّة بيد تنظيم "داعش" (فضلاً عن استيلائه على أسلحة الجيش وأموال المصارف وحقول النفط ومخازن القمح..) بأنه لم يكن هناك دولة في العراق، وأنَّ السلطة التي تتبجّح الأحزاب السياسية بإدارتها كانت محض وهم، وأن الجيش الذي كان يُمارِس شتّى أنواع الامتهان في المُدن يُدار من قبل مجموعة من "الفضائيين" الذين يتسلّمون مرتبّات خياليّة مقابل التنصّل من واجباتهم في حماية البلاد. والأنكى من كل ذلك، هو أن الديموقراطية التي يُدافَع عنها كتجربة وليدة، هي بالأساس مولود مشوّه سلّمته الإدارة الأميركية إلى الأحزاب العراقية من أجل استشفائه وتجميله، إلا أنه سرعان ما اتضح أن هؤلاء الآباء هم مجموعة من المستهترين بكل القيم، وأولها الديموقراطية.
 

مؤامرة ضد شخصه!

وانقاذا للشكليات، تقرر انشاء لجنة برلمانية على عجل للتحقيق بسقوط الموصل، وسرعان ما أُعلن أنها ستحتفظ بكل المعطيات، ولن تصرِّح للإعلام بأية معلومات لحين الانتهاء من التحقيق، وقد استدعت أغلب القادة الميدانيين، بالاضافة الى محافظ الموصل أثيل النجيفي، إلا أن القائد العام السابق للقوّات المسلّحة نوري المالكي، الذي أدار خطط حماية المدينة في الأيام التي سبقت سقوطها، ظلّ معصوماً عن التحقيق، ولا يُتوقّع أن يستجوب على الرغم من التحذيرات التي بلغته من الإقليم والمحافظ قبيل سقوط المدينة، إذ لا يزال مُصراً بأن ما حصل كان "مؤامرة" للنيل منه شخصيّاً.
وككل اللجان التي شُكلت في البرلمان والحكومة، لا يُتوقَّع أن تتوصل هذه اللجنة إلى تقرير يؤشِّر للأخطاء التي قادت إلى احتلال ثلث مساحة البلاد من قبل تنظيم متطرّف، وذلك بسبب المحاصصة الطائفية التي تحمي قادة الكتل والشخصيّات المؤثّرة فيها. وستظلّ رواية سقوط الموصل وشقيقاتها من المُدن الأخرى، بلا راوٍ ولا تفاصيل، وسيظلّ العراقيون منقسمون في ما بينهم حول ما إذا كان هذا السقوط /الفضيحة وقع بسبب مخطّط من دول إقليمية، أو بسبب مؤامرة داخلية.
 

مخاض الأسئلة

في لحظة العاشر من حزيران/ يونيو، أيقن مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان، أن السياسة العراقية ستجبّ ما قبلها، وأن واقعاً جديداً سيتخلّق بعد هذه الفوضى، وأن حلم الدولة الكرديّة بات على وشك التحقّق. لكن بارزاني، المعروف بطموحاته التوسعّية، لم يبقَ وحيداً في حفلة عراق ما بعد الحدث، فسرعان ما انضّم إليه قادة من الفصائل المسلّحة.. هكذا أعلن عدد منهم بأنه يجب القضاء على "الإقطاعية السياسية" القائمة الآن، أو تنحيتها، وأن الذين دافعوا عن الأرض هم الأوَلى بحكم البلاد من الذين تركوها نهباً للمجموعات المسلّحة والفساد. ومن هذا الخطاب ستولد سياسة عراقيّة جديدة وجدت لها مُبكراً أقلاماً وأصواتاً تُدافع عنها، واستمدت شرّعيتها بـ "ولادتها" من رحم المعارك والدم، وستتم تنميتها والصبر عليها بما يكفي لتأخذ دورها في الحياة السياسية.
تلك اللحظة خلقت راهناً جديداً، واستحقاقات جديدة. ثمة أسماء أخذت بالتمدد على وسائل الإعلام تمهيداً لما بعد المعارك مع "داعش". أسماء أخرى تجري أسطرتها بشكل دقيق وتلصق بها بطولات أقرب إلى الخيال، على طريقة ما يجري في كل الحروب، حيث سيكون لها استحقاقات "سلطوية" على حساب المتقاعسين الذين سلّموا البلاد في لحظة غامضة إلى تنظيم "داعش". هناك ايضا تهافت من برلمانيين ورجال سياسة على الظهور مع المقاتلين في جبهات القتال وهم يرتدون زياً عسكرياً، في ظاهرة لقيت استهجاناً كبيراً من الشارع العراقي فأطلق عليها في صفحات التواصل الاجتماعي حملة "صورني واني ما أدري". والأهم من ذلك كله، ثمة مخاض لعلاقات جديدة، سواء مع إيران أو مع الولايات المتحدة الأميركية. فالموقف من الحرب الدائرة الآن له حتماً استحقاقاته، وموقف إيران الداعم بوضوح للفصائل العراقيّة المسلحة ضد "داعش" (وإنْ لحسابات ترتبط بمصالح طهران الإقليمية) يأتي على عكس موقف واشنطن الرخو والمتثائب، بل والمتهم بدعم التنظيم الارهابي. أسئلة جوهرية تمور اليوم في ساحات المعارك، لكن إجاباتها ستكون غداً في البرلمان العراقي وفي الحكومة العراقية وفي الشارع العراقي، وهي قد ترسم صورة لعراق جديد يضخّ الأدرينالين بفاعليّة أكبر.

 

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...