"وفي العراق جوعٌ"*

كان من المتوقع أن يحلّ على العراق في يوم من الأيام فصل الصيف القائظ. وكان معروفاً أن حرارة الجو تصل عادة إلى 50 درجة، وأنها كثيراً ما تتجاوز ذلك السقف ولو سراً، وأن العراقيين معتادون، وكانت لديهم وسائلهم البدائية لمقاومة ذلك (اللجوء للسرداب، والبُنْكة أو المروحة في السقف، وإطارات مليئة بـ "العاكول"، النبات الشوكي المُظلِّل والمرطِّب، على النوافذ الخ..)، إلى أن جاءت الكهرباء
2015-08-13

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
من مظاهرات بغداد

كان من المتوقع أن يحلّ على العراق في يوم من الأيام فصل الصيف القائظ. وكان معروفاً أن حرارة الجو تصل عادة إلى 50 درجة، وأنها كثيراً ما تتجاوز ذلك السقف ولو سراً، وأن العراقيين معتادون، وكانت لديهم وسائلهم البدائية لمقاومة ذلك (اللجوء للسرداب، والبُنْكة أو المروحة في السقف، وإطارات مليئة بـ "العاكول"، النبات الشوكي المُظلِّل والمرطِّب، على النوافذ الخ..)، إلى أن جاءت الكهرباء والمكيّفات وألغتْ ذلك كله.
ولكن الكهرباء "أُلغيت" بدورها في سياق النهب المنظم الذي يتعرّض له البلد، تماماً كما أُلغي فيه التعليم والتطبيب وكل اهتمام بتأهيل البنى التحتية. "في العراق جوعٌ"! البلد فاحش الثراء وبائسٌ بكل معاني الكلمة، لأن لا حدود للنهب، ولا استدراك ولو جزئي، لا هامش متروك لغير السطو. وهذا يُترجَم بالمليارات. انفجر العراقيون، إلى حـــد أن تظـــاهرات في قلب النجف هتفت "باسمك يا أبو الأحـــرار باكَونا ــ سرقونا ــ الحرامية!". لم يُمْكِن الاستمرار بتأطيرهم بفضل التوترات المذهبية، ولا بإشباعهم وتسكينهم بفضل تسويق الانتماء الافتراضي إلى جماعات تتوجّس بالضرورة من بعضها وتتصارع.
فماذا فعل النهّاب؟ زايدوا على الناس، أدانوا السرقات وطالبوا بالتشدّد في محاسبة السُرّاق، وراحوا يتسللون الى الوقفات الاحتجاجية بل ويتصدّرونها حين يمْكنهم ذلك، ويهتفون ويستنكرون. واتخذت الحكومة فجأة، وبطريقة دراماتيكية، حزمة من "الإصلاحات"، المحقّة كلها لجهة مضمونها، ولكن القاصرة تماماً والشكلية، لأن النهب ليس عَرَضياً بل هو منظومة كاملة، محْكمة الآليات، مفتكَرة ومهندَسة. ومن وظائفها نخر العراق وتعطيل دينامياته التي اشتهرت على مرّ التاريخ بحيويتها الصاخبة المتمرّدة، وذلك للحيلولة دون استعادته للوزن/ المكانة العائدين له موضوعياً وذاتياً، واللذين زعزعتهما الديكتاتورية وحروبها المجنونة، ثم جاء الاحتلال الأميركي ليتدبّر تحويل السحق العسكري المهول الذي ارتكبه في حربين متتاليتين فصل بينهما حصار مرعب، إلى حالة سياسية واجتماعية مستدامة، "نظام جديد".
دَعْكم من الآليات الغريبة في اتخاذ "القرارات الإصلاحية"، من قبيل التفرّد بإعلانها في صباح أحد الأيام، ودَعْكم من الاعتداد بمشروعيات أغرب، من قبيل أنها تأتي نزولاً عند "توجيهات المرجعية" (؟)، فهذه بسيطة.. وإنما ما يبقى مُحيِّراً هو اختفاء كل السرّاق الذين تحوّلوا (كلهم) إلى مناضلين ضد الفساد. معجزة!

*من قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب

 

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...