الجدل الافتراضي حول العلمانية في سوريا

ما أهداف الاتفاقية بين "جامعة البعث" الحكومية ووزارة الاوقاف؟ ليست المرة الاولى التي تطبق فيها السلطة في سوريا هذا السيناريو القائم على تعاونها مع الاسلام "الوسطي"، وتحديداً بعد أزمات كبرى.
2018-06-14

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
سبهان آدم - سوريا

"رسمتُ خطاً في الرمال" (هاني الراهب)*

على الرغم من عدم نشر بنودها الرسمية، اشتعلت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي السورية في الأسبوع الماضي بالهجوم على اتفاقية وقعتها "جامعة البعث" الحكومية ووزارة الأوقاف. قال موقع الجامعة الإلكتروني على لسان رئيسها أن الاتفاقية "سيكون لها دور مهم في مهم في عملية بناء الإنسان من خلال تعريف جيل الشباب بالقيم الدينية الصحيحة ودعوتهم إلى المحبة والتآخي والتسامح، الأمر الذي سيساهم في بناء مجتمع بعيد عن كل أشكال التطرف الديني".

ركزت غالبية المهاجمين للاتفاقية على ما الذي يمكن أن ينتج عن تعاون بين مؤسسة علمية (ترتيبها العالمي في البحث العلمي متدنٍ) وأخرى دينية في ظل تركيز النظام السياسي وإعلامه ومواليه على أن معركته في سوريا هي مع الأفكار المتطرفة "التكفيرية والإرهابية والفاشية الإسلامية" التي أنتجتها الحرب بدعم خارجي موجّه، خلافاً لطبيعة الشعب السوري وتدينه "الوسطي" وتسامحه المعروف مع الآخر. جزء آخر من المهاجمين ركز على سياسات وزارة الأوقاف والدعاة الدينيين والتساهل الكبير المقدّم من النظام لهؤلاء المتدينين من باب "الاحترام" للدين على الرغم من كونه نظاماً علمانياً (ما يعني انوع من المَّن) كما صرّح بذلك عدد من رؤوس النظام في مناسبات كثيرة، وأن المعركة الجارية في البلاد هي بين قيم "العلمانية" المكتسبة في سوريا وقيم "الجهل والظلامية".

ضجيج على وقع قرع الطناجر

كان قد سبق هذه الضجة ضجة مماثلة على خلفية إشعار رسمي موجه لطلاب المدينة الجامعية في حلب صدر أول شهر رمضان الحالي بأنهم سيُعاقبون إذا أخّلوا بأخلاقيات الشهر في لباسهم وخلواتهم، وأن عليهم التزام اللباس المحتشم في حركتهم داخل المدينة. أثار هذا القرار عاصفة أخرى من الانتقادات عبر المنصات نفسها التي ما تزال الوسيلة السورية الأولى للاحتجاج في ظل منع وحصر التجمعات والاحتجاجات. انتهت الاحتجاجات بعد تراجع مدير المدينة عن قراره مبرراً ذلك كالعادة "بفردية" القرار كونه صادر عن نائبه وعدم علمه به.. على الرغم من وجود ختم المدينة الرسمي عليه.

في الوقت نفسه، طالت ضجة أخرى "المجتمع الأزرق" (الذي ينشط على وسائط التواصل الاجتماعي في الانترنت)، تناولت ظاهرة "القبيسيات" (تنظيم غير رسمي من النساء الإسلاميات كان قد "سُمح" له بالعمل الدعوي في البلاد منذ ثمانينات القرن الماضي، يعتمدن "منهجاً وسطياً" أسس له مفتي الجمهورية السابق محمد كفتارو والعلّامة البوطي ومنيرة القبيسي التي اكتسب اسمه منها) متهمةً إياه هو الأخر بمحاولة أسلمة قطاع النساء بعد قرار رسمي بحل الاتحاد النسائي السوري التابع لحزب البعث، إضافة إلى أنهن شكّلن مجتمعاً شبه مغلق يُمنع على الرجال ارتياده، ولهن طقوسهن الخاصة "بعيداً عن السياسة"، وبضوء أخضر من النظام أيضاً.

اقرأ/ي أيضاً:

كان الجديد في هذا الاستنفار "العلماني" أن وزارة الأوقاف السورية، عبر صفحتها على الفيسبوك أيضاً، قامت بالرد بشكل رسمي على الانتقادات الموجهة لدورها في البلاد، مؤكدة أنه "من غير المنطقي ولا العقلاني أن الدولة التي وقفت بمؤسساتها المختلفة ضد الإرهاب والتطرف، يمكن أن تتبنى سياستين متناقضتين، واحدة تحارب الإرهاب والتطرف، وأخرى تدعو إليهما!!". وأضاف البيان بلهجة تهديدية أنّ "التهجم على الدين والمقدسات والاستهزاء بها والتجريح بالسمعة والكرامات الشخصية وتناول الأفراد بالقدح أو الذم هو فعل مخالف للدستور ويعاقب عليه القانون إضافةً لكونه تحريضاً على الفتنة وتخريباً للمجتمع وخروجاً عن أصالة المجتمع السوري وأعرافه وأخلاقه".

أعادت هذه المعارك إلى الواجهة مسألة مهمةً هي مستقبل البلاد، فهل سيكون إسلامياً كما تطالب بعض جماعات المعارضة بإعلان ذلك رسمياً، أم سيكون هناك قطيعة مع هذا الموروث تبعاً لواقع الحرب وأسبابها وفقاً لمؤيدي النظام الحالي؟ والجواب لن يكون سهلاً في ظل وجود عدد كبير من الضحايا والملفات الثقيلة جداً.. ولعل الصراع الذي طال أيضاً هوية الدولة القومية، مع وجود مطالبات قوية بإسقاط "عربية" الدولة لدى الطرفين الموالي والمعارض علاوة على ذاك الكردي، هو جزء من معركة أكبر تشمل وجود السلطة السورية نفسها التي تكمل بصفتها الحالية عامها الخمسين.

فقه الأزمة السورية: المواجهة الناقصة

لا يمكن اعتبار هذه "المعارك الزرقاء" معاركاً حقيقية بين العلمانيين (القلّة) والمتدينين (الكثرة)، بقدر ما هي مناوشات متكررة في ظل حكم البعث لسوريا، حدثت لأسباب متعددة كان أبرزها المعركة ضد قانون الأحوال الشخصية في العام 2006، مع التذكير أن الدستور لا يعلن سوريا دولة علمانية، في وقت يعتمد التشريع الإسلامي كأحد مصادر التشريع الرئيسية، كما يحصر دين رئيس الدولة في الإسلام.

عبر عقود من ادعاء العلمانية في سوريا، عمل البعث بإحكام شديد على تقييد حرية الفضاء السياسي الديمقراطي، وهو المعنى الأساسي بالعلمنة بمفهومها التنويري، مما حوّل المفهوم إلى صدام مزيّف بين الدين والمتدينين من جهة، والمجتمع السوري و"نخبه العلمانية" من جهة ثانية، كأنهما على طرفي نقيض، مختصراً الأبعاد الكبرى للعلمانية في ممارسات شكلية سلطوية من جهة، وموحياً للخارج أنه في حال تخليه عن العلمانية ــ غير الموجودة ــ فإن سوريا ستتحول إلى دولة طالبانية. وداخلياً تشوّه المفهوم إلى خوف السوري من السوري الآخر (العلماني ضد المتدين وبالعكس). وقد أدت هذه السياسة إلى تناسي وغفران البعد الشمولي للحكم.

بادعاء العلمانية، عمل البعث على تقييد حرية الفضاء السياسي الديمقراطي، المعني بالعلمنة بمفهومها التنويري، مما حوّل المفهوم إلى صدام مزيّف بين الدين والمتدينين، وبين المجتمع السوري و"نخبه العلمانية"، مختصراً العلمانية في ممارسات شكلية سلطوية، وموحياً للخارج أنه في حال تخليه عن العلمانية - غير الموجودة - فستتحول سوريا إلى دولة طالبانية

كان النظام السياسي السوري ــ وما زال ــ يتعامل مع التيارات الدينية بطريقة ناعمة مخافة اتهامه بالطائفية (وبالإلحاد حتى)، وسعياً لمزيد من الشرعية لصالحه. وهو لعب على عدة أوتار متشابكة، فخطباء المساجد لليوم يعينون بقرار رسمي من الأوقاف بعد موافقات أمنية، مع تحديد للخطب التي سوف تتداولها الجوامع في أيام الجمعة. وبالمقابل، منع النظام السياسي أي نقد يوجه للدين فصادر كتب الباحث "نبيل فياض" على سبيل المثال، المنتقدة للتاريخ الديني الإسلامي الرسمي، ولكنه سمح بدخول كل أنواع الكتب الدينية غير السياسية (بما فيها السعودية التي تكفّر النظام والأقليات السورية، والإيرانية التي تكفّر جزءاً من الشعب السوري). وأخيراً، فكل متدين لا يتدخل في السياسة لا خوف عليه ولا من يحزنون، والمهم دائماً إثبات الولاء. من هنا نفهم حضانة "حركة القبيسيات" والاهتمام المميز بها.

في سنوات الأزمة، تفكك النسيج المجتمعي السوري ووقع السوريون بين نيران التهجير والتدمير والحرب، وبات الهم بالمستقبل بعيداً. في هذا الجو فاشت على السطح الأصولية الإسلامية مستفيدةً من عوامل غياب السلطة أو ضعف تأثيرها في مناطق معينة. وهي كانت مناسبة من جديد ليؤكد النظام السياسي للعالم الغربي علمانيته. وهو ما خلق داخلياً مرة أخرى استقطاباً مزيفاً بين السوريين امتدّ إلى مؤتمرات الحوار بينهم كما حدث في سوتشي حين تمّ استخدام كلمة "نظام لا طائفي" بدلاً من "علماني".

العلمانية السورية... إلحاد؟

إن الإيحاء دائماً أن العلمانية هي صراع مع الدين أثمر في السنوات الأخيرة تضادّاً كبيراً بين السوريين جعل الصورة الذهنية للمفهوم مرتبطة بالإلحاد المكروه في عقول السوريين عموماً، وهو الأمر الذي تحرص السلطة على نفيه (أي الإلحاد) بقدر استثماره (في إعلامها) دون الإعلاء من شأن العلمانية في تجّذرها المجتمعي بما هي ممارسة أساسية تفصل السياسي والديني عن الاحتكار السلطوي، وبما هي شُرعة ممارسة الحقوق والواجبات في دولة قانون يتعادل الجميع فيها أمام جبروت الدولة. إن ادّعاء العلمانية لا يستقيم مع القمع، ولا يستقيم مع إقفال الفضاء العام المجتمعي على ما تريده السلطة فقط. فقيمة العلمانية الأسمى أيضاً في موروثها العالمي هي الحرية.

الصورة الذهنية التي قدمها أيضاً العلمانيون السوريون ضد القرارات السابقة ــ على تفاهتها ــ أوضحت أن فهم هؤلاء (إلا قليلاُ منهم) لدولة الحق والواجب مبني على الاستيلاء على الآخر و"تقويمه" بما يناسب فهمهم المشوّه للعلمانية. وغالبية هؤلاء اعتبرت القرارات السابقة تصب في خدمة التيارات الأصولية. وإن كان من الصحيح أن "أسلمة" الدولة ومؤسساتها هو باب لأسلمة المجتمع، وأن هناك انتشار للأسلمة بمعناها الإقصائي في مفاصل الحياة قبل الدولة، وأن المجتمع السوري نفسه غارق بعقليات قروسطية أسوأ مما يُعلن على المنصات الرزقاء، فمن الملفت أن النظام "العلماني" حافظ على ذلك بتأن شديد، دون محاولات كسره وإخراجه من العتم إلى الحاضر بعيداً عن بروباغندا سياسية مبنية هي الأخرى على علاقات الاستبعاد والإلغاء، وهو أيضاً ما غاب عن العلمانيين السوريين بقصد أو دونه. وهم يستنكرون نموذج مسلسل "باب الحارة"، باعتباره شوّه تاريخ مدينة دمشق ويعتبرونه بلا اساس ولا وجود له... يكفي إنكار أي أمر لم نره حتى لا يعود موجوداً.

بينما العلمانية ليست وصفة جاهزة تؤخذ من أقرب صيدلية وتعطى كل ست ساعات أو عشر. إنها تراكم قانوني ومعرفي وتربوي قبل أي أمر آخر. وتجربة الحرب السورية أثبتت مرة أخرى استحالة الهرب من استحقاقاتها، وأولها بناء دولة ديمقراطية مدنية (بعيداً عن التعريف الإخواني لهذه الدولة). أما الادعاء دائماً بما ليس واقعاً فلن ينتج سوى إعادة للحروب والصراعات ولو بعد حين، وهو واحداً من السيناريوهات الأكيدة.

* استعارة لعنوان رواية هاني الراهب الاخيرة

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه