علامات الاستفهام تحيط بمسيرة النخبة السودانية

الانتخابات العامة بالسودان ستجري في 2020، وهي مناسبة لمراجعة مسار سياسي كامل تميز بتتالي الانتفاضات الشعبية، المسلحة أحياناً، والانقلابات العسكرية.. من دون تحقيق الانتقال الديمقراطي المطلوب.
2018-05-23

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
حسين جمعان - السودان

عقد "حزب المؤتمر" السوداني، وهو حزب معارض صغير الحجم الا انه نشط، ندوة مطلع هذا الشهر شارك فيها اثنان من قيادييه يتبنيان وجهتي نظر مختلفتين في القضية المطروحة، وهي هل يستمر الحزب في نهج المقاطعة للإنتخابات المقرر أجراؤها في 2020، كما دأبت الاحزاب المعارضة دائماً، أم يسعى للإشتراك فيها. الخطوة إعتبرت ممارسة خارج الصندوق التقليدي، اذ جرت العادة أن يدور نقاش المؤسسات الحزبية داخل غرفها المغلقة ثم تخرج الى الناس بما يتم الاتفاق عليه.

الندوة لم تقتصر على أعضاء الحزب، وانما كانت مفتوحة أمام الاخرين من أحزاب وصحافيين ومواطنين عاديين، وهي بالتالي محاولة لاشراك أكبر عدد ممكن من قطاعات المجتمع ولو بصورة رمزية في مناقشة هذه القضية الحيوية. إعتبرت الخطوة بأنها إعادة نظر في الوسيلتين المعتمدين سابقاً في مواجهة الانظمة العسكرية، أي العمل المسلح والانتفاضة الشعبية. فقد عرف السودان العمل العسكري المناوئ حتى قبل أن يحصل على استقلاله، ومع انه إنطلق من جنوب السودان واستمر على فترتين ممتدتين، استغرقت الأولى 16 عاماً وإنتهت بحكم ذاتي لجنوب السودان، واستغرقت الثانية عقدين من الزمن وانتهت بإتفاق سلام وممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير الذي أدى الى الانفصال وتأسيس دولة جديدة.

لكن العمل العسكري المعارض لم يقتصر على الجنوبيين فقط وإنما شمل القوى السياسية الشمالية التي لجأت الى العنف عن طريق الانقلاب العسكري، وبعضها نجح وبعضها تمّ إحباطه. على ان النتيجة النهائية تمثلت في أن السودان شهد ثلاثة من الانظمة العسكرية، كان آخرها الانقلاب الذي أتى بالنظام الحالي الى سدة الحكم بقيادة الرئيس عمر البشير، على الرغم من المسحة المدنية والتغيير في بنية السلطة. كما أن العمل العسكري المناوئ لم يقتصر على الانقلابات فقط، وإنما شمل عمل عسكرياً شعبياً مثل المحاولة التي قادها الزعيم المعارض الحالي، الصادق المهدي، ضد نظام الرئيس جعفر النميري في منتصف سبعينات القرن الماضي. بل أن معظم القوى السياسية المعارضة للنظام الحالي قامت باللجوء الى البندقية استجابة للتحدي الذي أطلقه البشير مرة قائلاً انه وصل الى السلطة عبر القوة ومن يريد أن ينتزعها منه فليلجأ الى القوة كذلك. وتوج العمل العسكري المعارض ببروز حركات دارفور المتمردة التي حملت السلاح منذ العام 2003.

تساؤلات

على ان التساؤلات أصبحت تحيط بتجربة اللجوء الى القوة، خاصة إذا كان البديل المقترح نظاماً ديمقراطياً يقوم على الحريات وحقوق الانسان، وشعار "اللجوء الى البندقية" بدأ يتساقط لدى الكثير من القوى التي كانت ترفعه، لأسباب عملية تتعلق بضرورة وجود دعم قوي من دولة مجاورة توفر الامداد اللوجستي والقاعدة الخلفية التي يمكن اللجوء اليها فراراً من ضربات القوات الحكومية. ومعروف ان الدول لا تقدم خدماتها تلك مجاناً وأنما لها حساباتها المنطلقة من مصالحها الخاصة، ثم هناك التكلفة المادية والبشرية العالية للجوء الى العمل العسكري المعارض. وفوق هذا كله يأتي الاداء البائس للأنظمة التي تمكنت من تحقيق الانتصار العسكري والوصول الى السلطة، لكنها فشلت في تحقيق الانتقال الديمقراطي المطلوب.

الخيار الثاني الذي تم تجريبه في مواجهة نظامين عسكريين، يتمثل في الانتفاضة الشعبية التي طبقت مرتين بنجاح في السودان: في 1964 وفي 1985. وفي الحالتين جرى اللجوء الى الاضراب السياسي والعصيان المدني الذي يؤدي الى شلل الدولة ودفع أقسام من القوات المسلحة الى الانحياز الى الانتفاضة الشعبية ومن ثم إزاحة النظام.

وتمثِّل حالة جنوب السودان نموذجاً حياً لهذا الفشل، وذلك بدخولها في حرب أهلية بعد عامين من تأسيس دولتها المستقلة، الامر الذي ألقى بظلاله السلبية على حَمَلة السلاح في السودان والداعين له. ولهذا دخلت الحركات المتمردة في فترات ممتدة، ومن طرف واحد، لوقف إطلاق النار تجاوزت العامين حتى الآن، ولو انه لم يتم تطوير ذلك الى اتفاقات مؤطرة تسمح باطلاق عملية حوار سياسي جاد يستهدف جذور الازمة السياسية والاقتصادية التي أدت في المقام الاول الى اندلاع العنف.

الخيار الثاني الذي تم تجريبه من قبل في مواجهة نظامين عسكريين، والنجاح في الاطاحة بهما يتمثل في الانتفاضة الشعبية التي طبقت مرتين بنجاح في السودان: في المرة الاولى، قبل نحو نصف قرن من ثورات الربيع العربي، والتي اطاحت بالحكم العسكري الأول بقيادة الفريق إبراهيم عبود في 1964، وقرابة ثلاثة عقود من الثورة الشعبية التي أطاحت بالحكم العسكري الثاني بزعامة النميري في 1985. وفي الحالتين كان السلاح الحاسم هو اللجوء الى الاضراب السياسي والعصيان المدني الذي يؤدي الى شلل الدولة ودفع أقسام من القوات المسلحة الى الانحياز الى الانتفاضة الشعبية ومن ثم إزاحة النظام.

نظام "الانقاذ" الحالي كان واعياً الى مكامن الخطر تلك عليه، فقام بعمليات تمكين لعناصره والسيطرة على مختلف مفاصل الدولة، ثم تفكيك الجسم النقابي عبر ما أطلق عليه "نقابة المنشأة"، أي أن تضم النقابة كل العاملين في المنشأة عمالاً كانوا أو موظفين. ونتيجة لذلك ضمت نقابة عمال جامعة الخرطوم مثلا الاساتذة والعمال والاداريين، وانتهى الامر أن ترأس إتحاد عمال السودان بروفيسور جامعي في إحدى المرات.

على ان أهم من ذلك هو الاداء السياسي البائس الذي ينجم عن انتفاضات شعبية. ونظرة الى تجربتي انتفاضتي تشرين الاول/ أكتوبر 1964 ونيسان/ إبريل 1985 توضح ذلك، اذ يتم تشكيل حكومة على قاعدة الشرعية الثورية من الذين أسهموا في الاطاحة بالنظام القائم، وبدون تحديد قاطع لمرجعية الحكومة التي سيتم تكوينها وكيفية مساءلتها. وتستمر تلك الحكومة فترة انتقالية قصيرة لا تتجاوز العام لتهئية الاجواء أمام إجراء انتخابات تحدد الاوزان الفعلية للتنظيمات السياسية التي تأتي عادة بحكومات إئتلافية ضعيفة الاداء، لم تستطع حتى إنجاز دستور متوافَق عليه، كما تفشل في معظم الاحيان في المحافظة على التجربة البرلمانية والوصول بها الى نهايتها بالدخول في عملية انتخابية ثانية تعيد تجديد الثقة في الحكومة ذاتها أو تفتح المجال أمام قوى سياسية جديدة تمتلك تفويضاً شعبياً أفضل.

نهاية طريق؟

ينظر البعض الى تجربة نظام الحكم الحالي على انه نهاية طريق بالنسبة للنخبة السودانية وفشلها في ادارة بناء الدولة، التي تضع قضايا التنمية والتعدد والهوية في الإعتبار، خاصة وأنها لم تتمكن من استغلال فرصة عقد الطفرة النفطية الذي أدخل الى البلاد موارد من العملة الصعبة لم تشهدها في تاريخها، كما تمتعت بأطول فترة حكم حتى الآن قاربت نصف عمر السودان كدولة مستقلة. وقد ظلت تتناوشها الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ووجهها اليوم - من بين أوجهها المتعددة - هي أزمة شح امدادات الوقود المستمرة لما يناهز الشهرين حتى الآن، وتعاني منها البلاد.

كل عمليات التغيير التي تمت من قبل، سواء عبر البندقية أو من خلال تجربة برلمانية ضعيفة، أنما جرت في نهاية الأمر في إطار محاصصة بين أعضاء النادي السياسي، وانه آن الاوان ليدخل المجتمع طرفاً أساسياً ورئيسياً في المعادلة، من خلال بناء ديمقراطية قاعدية تُعْلي من قيم المساءلة والشفافية.

ويضيف هؤلاء أن كل عمليات التغيير التي تمت من قبل، سواء عبر البندقية أو من خلال تجربة برلمانية ضعيفة، أنما جرت في نهاية الأمر في إطار محاصصة بين أعضاء النادي السياسي، وانه آن الاوان ليدخل المجتمع طرفاً أساسياً ورئيسياً في المعادلة، من خلال بناء ديمقراطية قاعدية تُعْلي من قيم المساءلة والشفافية. ولهذا فالدعوة الى إعتماد خيار المشاركة في الانتخابات بديلاً عن المقاطعة انما هو تفعيل لهذا الجانب، خاصة وأن المشهد السياسي يتطلب إجراءات على مستوى الولايات، وهي 18 ولكل منها مجلسه التشريعي، الأمر الذي يوسع من دائرة المشاركة الجماهيرية في العملية السياسية ويفتح مساراً آخراً يقلل من فرص الاتفاقيات الجانبية بين النخبة.

ويكتسب هذا الاتجاه دعماً من رغبة الدولة في التخلي عن الكثير من الانشطة الاقتصادية لصالح القطاع الخاص والمبادرة الفردية، خاصة في المجال الزراعي الذي يمثل عصب الإقتصاد السوداني، حيث أصبحت تتوسع ممارسة الزراعة التعاقدية (مع أفراد وشركات توفر مُعينات العمل من تمويل وبذور ومخصبات للمزارع، وفق إتفاق معين) على حساب التدخل الحكومي الذي كانت هذه مسؤوليته لكنه عجز مؤخراً عن القيام بها، وهو ما فتح الباب أمام القطاع الخاص الذي أنجز مع الحكومة خطة لرفع عائد الصادرات ثلاث مرات، الى حوالي 10 مليارات دولار.

لكن تبقى النقطة المهمة هي كيفية عبور مرحلة الاحتقان الحالي حتى العام 2020 الذي من المقرر إجراء الانتخابات فيه.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...