"الأمنوقراطية" تخنق الصحافة السودانية

يحتل السودان اليوم المرتبة 169، أي الاخيرة، على سلم التنمية البشرية. وأما نظامه فوُصم بـ"الأمنوقراطية" لأنه يمارس أشكالا عدة من قمع الحريات عامة، ومنها تلك الاعلامية. تتراوح هذه الأشكال ما بين الرقابة القبْلية على الصحف، والتضييق الاقتصادي (مصادرة الصحف بعد الطبع، مما يشكل عبئا على الناشر فيضغط على رئيس التحرير لمنع محرر أو موضوعات معينة من النشر)، ومنع ومصادرة الكتب، ومحاكمة الصحافيين. الا
2012-07-03

سلمى الورداني

صحافية من مصر


شارك
شهد عام 2011 اعتقال أكثر من 20 صحافياً وإغلاق 6 صحف في السودان

يحتل السودان اليوم المرتبة 169، أي الاخيرة، على سلم التنمية البشرية. وأما نظامه فوُصم بـ"الأمنوقراطية" لأنه يمارس أشكالا عدة من قمع الحريات عامة، ومنها تلك الاعلامية. تتراوح هذه الأشكال ما بين الرقابة القبْلية على الصحف، والتضييق الاقتصادي (مصادرة الصحف بعد الطبع، مما يشكل عبئا على الناشر فيضغط على رئيس التحرير لمنع محرر أو موضوعات معينة من النشر)، ومنع ومصادرة الكتب، ومحاكمة الصحافيين. الا أن هذه العلاقة قد شابتها منحنيات على مر عقدين هما عمر النظام الحاكم.
وفي الاسابيع الاخيرة، ومع بداية التحرك المعارض لبرنامج التقشف الذي أعلنه عمر البشير، تصدت السلطات للصحف.
أوقفت "التيار"الى أجل غير مسمى، وصادرت مراراً بعد الطبع واتلفت أعداد "الجريدة" و"الاحداث" و"الوطن" و"آخر لحظة". واعتقل صحافيون بسبب تغطيتهم للتحركات. وهذه الموجة كانت قد بدأت بعد انفصال الجنوب تحديداً، إذ أرادت السلطة إحكام قبضتها على وسائل الاعلام. فعام 2011 تمّ اعتقال أكثر من 20 صحافيا، وأغلاق 6 صحف هي "خرطوم مونيتور"، "سودان تريبيون"، "جوبا بوست"، "ذا أدفوكيت"، "ذا ديمكرات" و"أجراس الحرية"، بحجة ان بعض ملاكها جنوبيون، فأصبحوا "أجانب" وﻻ يحق لهم إصدار الصحف.
تخضع الصحافة السودانية لعدد من القواعد الصارمة المفروضة عليها من قبل "المخابرات الوطنية السودانية" والأجهزة الأمنية الأخرى. يروي عدد من الصحافيين كيف يتلقون اتصالات مباشرة من رجال الأمن أو رسائل الكترونية تحذرهم من تغطية حدث ما أو الخوض في موضوعات معيّنة. كما أن قانون الصحافة والمطبوعات لعام 2009 أعطى المحاكم السودانية سلطة إيقاف الصحف لمدة شهرين، وتغريمها ماليا، وسحب ترخيص ممارسة المهنة. ويمنح هذا القانون مجلس الصحافة، الذي يقع تحت إشراف الرئيس عمر حسن البشير، صلاحيات تنظيمية وسلطة تنفيذية، منها حق الموافقة على إصدار الصحف، وكذلك تعليق صدور الصحف لمدة تصل إلى ثلاثة أيام دون مراجعة قضائية. كما يسمح القانون للحكومة بفرض قيود على الصحافة لدواعي "الأمن القومي والنظام العام". وفي بداية العام الحالي علّق جهاز الأمن والمخابرات صدور صحيفة "رأي الشعب"، وبعدها بعشرة أيّام صادر صحيفة "ألوان".
يرى المحامي والناشط في مجال حرية التعبير، نبيل أديب، أن النظام يحاول في فترات العزلة الدولية الظهور بمظهر ديموقراطي، واتاحة قدر من التنفيس في الصحف ووسائل الاعلام، بينما يقوم باغلاق كلّ المنافذ في حال شعوره بالتهديد الوشيك. وهو يوضح سبب تكثيف الحملة الأمنية ضد الصحف بعد انفصال الجنوب في دولة مستقلة (تموز/ يوليو 2011)، معتبراً أنه "قبل الانفصال، كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان تخيف النظام وتفرض عليه ضغطا داخليا ودوليا، ما جعله يرضخ ويخفف من وطأة الهجوم على المؤسسات الاعلامية، للظهور بمظهر احترام التعددية". ويشير الى أنّه مع حصول الانفصال، ظهرت عيوب النظام التي كان يحاول اخفاءها خلف "عدو" يحاربه. وهكذا أصبحت الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وتدني مستوى المعيشة، اضافة الى الانتفاضات العربية، ثَّم ظهور حركات معارضة مثل "قِرفنا" و"شرارة"، سببا آخر لاستمرار النظام في قمع المؤسسات الاعلامية.
وفي تتبّع لتاريخ نظام "الانقاذ" خلال العقدين الاخيرين، ندرك كيف شكّل الاعلام خطراً عليه. كان أول اجراء اتخذته حكومة الانقاذ هو اغلاق جميع الصحف الورقية، باستثناء اثنتين حكوميتين، "الانقاذ الوطني" و"السودان الحديث". لم يتم فتح الباب للصحف مرة أخرى الا مع توقيع اتفاقية فاشودا للسلام عام 1997، إذ أراد النظام وقتها الظهور دوليا بمظهر من يحترم التعددية، فعادت صحف قديمة، وظهرت موجة من الصحف المقاومة. وفي عام 2005، مع توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام، ارتفع سقف الحريات. ولكن في عام 2007 مع بداية اتهام "الجنائية الدولية" لأحمد هارون، الوالي الحالي لولاية جنوب كردفان الحدودية، بارتكاب جرائم حرب في دارفور، شعر النظام مرة اخرى بتهديد دولي فتم تطبيق الرقابة المسبقة على الصحف، وذلك لأول مرة في تاريخ السودان.
تروي الصحافية أمل هباني كيف تقدم جهاز الأمن العام بالكثير من القضايا ضدها وضدّ زملائها في تموز/ يوليو 2009 بسبب تغطية قضية لبنى حسين (أنظر الإطار). تكرر الامر مع هباني لدى تغطيتها قضية الناشطة الشابة صفية اسحاق التي ظهرت في فيديو على اليوتيوب في اوائل 2011 تروي واقعة اغتصابها من قبل رجال الأمن، بعد القبض عليها في مظاهرة بالعاصمة الخرطوم. "تم فصلي من صحيفة "الجريدة" في آذار/ مارس 2011 والسماح لي بكتابة عمودي فقط، الا انني كنت ارسله فلا يُنشر. حاولت العمل في مؤسسات اخرى مثل الجامعات لكنها كلها مؤسسات تابعة للدولة لا تقبل الصحافيين المغضوب عليهم من قبل السلطة". رفع جهاز الامن قضايا ضد الكثير من الصحافيين الذين غطوا قضية صفية اسحاق بتهمة "التشهير بجهاز الأمن". كما هدد بمصادرة أي صحيفة تخرق حظر النشر في القضية. وبالفعل تم اغلاق صحيفة "الجريدة" لأكثر من ثلاثة أشهر، استمرت حتى بداية شباط/ فبراير 2012.
كما يقوم جهاز الأمن السوداني بمصادرة الكثير من عناوين الكتب سنويا، سعيا لما يصفه نور الهدى محمد، صاحب "دار عزة" للنشر، بـ"تجريف العقل السوداني".
يرى أديب أن "الحكومة تصادر وتمنع الصحف التي تحترم حقوق الإنسان والمرأة والديمقراطية بينما تشجع على صحافة الكراهية والعنصرية وتقدم لها كافة المساعدات". إن أخطر شيء لأي نظام هو الاعتماد على الأمن، لأنه متى انكسر حاجز الخوف لدى الناس انتهى النظام.

--------------------------------
قصة سلمى الورداني
كتبت سلمى الورداني هذا المقال للسفير العربي قبل الموجة الحالية من القمع. وهي تعرضت بعد ذلك، وبدورها، للاعتقال والترهيب ثم الابعاد. اختطفتها قوات الامن السودانية يوم الخميس 21 حزيران/يونيو من الشارع أمام جامعة الخرطوم الى "مكان مجهول" كما تقول، بينما كانت تغطي اخبار التحركات الاحتجاجية على "سياسات التقشف". وهي ابعدت الى القاهرة بعد ذلك بأيام، حين فشلت مساومتها على التوقف عن تغطية التحركات الاحتجاجية في السودان. تقول سلمى: "السودان على وشك الانفجار لأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي مزر للغاية، بجانب كبت الحريات السياسية والشخصية". تويتر: (@S_Elwardany

... ولبنى حسين
توضح القصة التي اشتهرت للصحافية لبنى حسين (قبض عليها في تموز/ يوليو 2008 لارتدائها "البنطلون") التناقض بين الصورة التى يريد النظام تصديرها للعالم وبين الواقع. فنظراً لاهتمام الاعلام الدولي بقضية لبنى، سعت السلطات لإغلاقها بسرعة. اصرت السيدة على التنازل عن حصانتها التى يمنحها اياها عملها بالأمم المتحدة، لتحاكم مثل بقية السودانيات، ولكن محكمة شمال الخرطوم اكتفت بتوقيع غرامة قيمتها 200 دولار أميركي، بدلا من معاقبتها بـ40 جلدة بتهمة "ارتداء ملابس خادشة للحياء". وحين رفضت لبنى دفع الغرامة، أعلنت المحكمة أن اتحاد الصحافيين السودانيين دفعها بدلاً منها! وتم اطلاق سراحها فوراً. أما في الداخل، فكان النظام مستمرا في قمع كل من يحاول الحديث عن القضية أو تغطيتها.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

مَن يحدّد هوية الثقافة المصرية؟

كانت دار الأوبرا المصرية بالقاهرة على مدار الأسابيع القليلة الماضية ساحة لتظاهرات مئات المثقفين والفنانين، المطالبين بإقالة وزير الثقافة الجديد (المعين منذ شهر) علاء عبد العزيز، والمنددين بما وصفوه بـ"محاولات...