مجد المسلسلات التركية مستمر

بدأت بشائر العطلة في الثانوية، فسألتُ التلاميذ عن برنامجهم خلال العطلة الصيفية. من خلال تلخيص الأجوبة يظهر أنه في المجمل سيذهب الأولاد إلى البحر وستشاهد البنات المسلسلات التركية. ففي سن السادسة عشرة، يشتد الفصل بين الجنسين. تشتد الرقابة على البنات حرصا على سمعتهن من تجارب الحب. وعليهن ملازمة أمهاتهن ليسهل عليهن إعادة إنتاج نمط حياتهن. أي الزواج إن شاء الله. سألتُ تلميذة: هل ستتابعين
2015-05-24

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
سنان حسين-العراق

بدأت بشائر العطلة في الثانوية، فسألتُ التلاميذ عن برنامجهم خلال العطلة الصيفية. من خلال تلخيص الأجوبة يظهر أنه في المجمل سيذهب الأولاد إلى البحر وستشاهد البنات المسلسلات التركية. ففي سن السادسة عشرة، يشتد الفصل بين الجنسين. تشتد الرقابة على البنات حرصا على سمعتهن من تجارب الحب. وعليهن ملازمة أمهاتهن ليسهل عليهن إعادة إنتاج نمط حياتهن. أي الزواج إن شاء الله.
سألتُ تلميذة: هل ستتابعين مسلسلا جديدا سيبدأ في الصيف؟ أجابت أنها تتابع المسلسل الحالي. وحين طلبتُ مثالا جاءت العناوين تفيض حبا مثل ثمن الحب، لعبة الحب، لارا، سامحيني...
يبدو أن شبه البنت بأمها يترسخ منذ الصغر. بل حتى الجدات يتابعن مسلسل "سامحيني"، وفيه صراع الحماة وزوجة ابنها. تشابهات كثيرة مع الحياة المغربية. للتدقيق، صغتُ أسئلة استمارة لفحص الأمر من وجهة نظر ربات البيوت، عبر طلب استجواب الخالة والجارة وليس الأم. لأنه ما أن تسأل أحدا عن أمه حتى يحتاط وينتقي الكلمات، بينما يجري في الاستجواب وصف علاقة الجارة بالمطبخ والتلفزيون بكل حرية. وفي النهاية أعتبرُ أنه لا فرق بين الأم وجاراتها. فالبيئة الواحدة لها قانون واحد. وحتى حين توجد استثناءات فهي تؤكد القاعدة ولا تكسرها.
لقد فتر الحديث عن المسلسلات المارتونية في الربيع العربي / الأمازيغي. ولا يكْمن السبب في تراجع الغلاف الزمني للبث بل لأن العادة تقتل الملاحظة. لقد وقع تطبيع مع هذه المسلسلات وهي بديل مُسلّ للقنوات الإخبارية التي قالت اليوم: قصف في سوريا وتفجيرات في العراق وحكومتان في ليبيا ومحاكمات في مصر.. وهو نفسه ما قالته القنوات البارحة والأسبوع الماضي. حاليا يشارك المغرب في حرب تجري في اليمن الشقي. الشرق الأوسط بعيد ولا تصل حرارة حربه للرباط.
يؤكد هذا التطبيع على أن نجاح المسلسلات ليس موضة عابرة بل حاجة راسخة برزت بسبب تحولات زمن المرأة. فحسب الإحصائيات، استطاعت المرأة المغربية أن ترفع من وقت فراغها بنسبة الثلث يوميا بينما انخفض الوقت المخصص للأعمال المنزلية بنصف ساعة يوميا لدى ربات البيوت في الوسط القروي.
في دفاعها عن مشاهدة المسلسلات تقول الجارة: "ماذا سأفعل حين يذهب الأولاد للمدرسة والرجل للعمل أو المقهى؟". في المدينة خاصة، حلّ الناس مشكلة المرقد والموقد، فتفرغوا للترفيه بدلا من التعلم، وهنا يبتلع التلفزيون جل الغلاف الزمني للترفيه. حتى أن هناك مقاه تعرض المسلسلات التركية حين لا تجري مباريات كرة قدم من البطولة الاسبانية. يكاد المقهى يصير المؤسسة الأولى في مجتمع الرجال بعد سن الأربعين وقد تراجعت حيويتهم الجنسية ومزاجهم العاطفي وبذلك صارت التلفزة مُنقذا لربات البيوت في وحدتهن.
للوصول لهؤلاء النسوة تتهافت القنوات العربية على المسلسلات التركية.. في اللوحات الإعلانية بالشوارع الرئيسية بالدار البيضاء دعوة لمشاهدة الجزء الثالث من "حريم السلطان". حسب تفريغ الاستمارة، يبدأ أهم مسلسل في السابعة والربع. تجلس الجارة أمام التلفاز. تنظر بانتباه كي لا تفوتها أية لقطة من "سامحيني". يحب البطل وليد البطلة فريدة ويحاول الأعداء التفريق بينهما. ويفترض أن ينتصر وليد على الأعداء. وهو رجل كريم يحب امرأة مغتصَبة، ويطلب منها أن تسامحه لأنه لم يحمها... هذا كرم عاطفي نادر. عادة لا يطلب الرجال المسامحة.
يتم تشغيل التلفزة من الثامنة صباحا حتى الثانية عشرة ليلا، وغالبا في كل بيت شاشتي تلفزيون. وبقياس الغلاف الزمني وعدد الشاشات، فالتلفزيون أكثر تأثيرا من التعليم. تشتغل التلفزة ست عشرة ساعة يوميا. وقد بلغ صراع فريدة من أجل الحب الحلقة 640. أي عمر الطفل الأصغر في الأسرة. حين يدوم مسلسل ثلاث سنوات فإنه يصير جزءا من الحياة اليومية لربة البيت، لذا تتراجع الحدود الفاصلة بين الواقع والمشاعر الجياشة على الشاشة. بعد كل حلقة تلتقي الجارات لتبادل وجهات النظر، يضعن تخمينات عن الحلقة القادمة وطبعا عن الحلقة النهائية.
أسألُ: هل توجد أمك ضمن الجارات؟
-    طبعا.
هنا لم يعد الحديث عن الجارة بل عن الأم وقد صارت الشهادات أكثر عمقا:
تركز أمي على المسلسل مئة بالمئة. حين تفوتها الحلقة لسبب ما تسأل جارتها لمتابعة التطورات بينما أنا أشعر بالجوع. فعادة أتناول وجبة جيدة مساء السبت والأحد لأن التلفزة لا تعرض المسلسل. لكن لا وجبة عشاء خلال باقي أيام الأسبوع. صارت أمي جد متأثرة بفريدة. عندما تفرح فريدة تفرح أمي. وعندما تحزن فريدة تحزن أمي. تنصح أمي البطل بأن يحب فريدة بصدق. كتبت تلميذة "من فرط إدمان المسلسل تريد أمي أن تعيش مثل فريدة، وقد اشترت ملاءة تركية بـ160 دولاراً للسرير".

نتابع ما جاء في الشهادات:

تنهي أمي أشغال المنزل بسرعة لتتفرغ للمشاهدة. أحيانا لا تحضر أمي العشاء بسبب المسلسل، وفي حالات كثيرة تطبخ القطاني.. وقد هدد أبي أمي بأنه سيتزوج فريدة. للممثلين والممثلات اجساد تثير الحسد لذا يظن بعض الرجال المغاربة أن الجمال الحقيقي يوجد في تركيا فقط. لذلك يشاهد الشبان المسلسل بسبب جمال البطلة وملابسها. تضع البنات صورة البطل على "بروفايلهن" في فايسبوك، بينما يقلد الأولاد قَصّة شَعر البطل. إن مظهر شخصيات المسلسل مهم جدا، تستشهد أمي بالبطلين وليد وكمال فيغار أبي كثيرا. يعلّم المسلسل ربة البيت كيف تكون رومانسية مع زوجها فلا ينظر لغيرها. ثم إنه لا توجد أحلام في المسلسلات المغربية، بل الكثير من الكوابيس.
انتشرت عدوى المسلسلات. وصار الأطفال يشاهدونها أيضا. وهكذا صار التلفزيون يجمع العائلة. تُبث المسلسلات بالتزامن مع الوجبات الرئيسية وتشاهدها الأسرة جماعيا. مسلسل ثمن الحب في الغذاء ومسلسل سامحيني في العشاء. وحين تتعذر المشاهدة الجماعية بسبب اللقطات الساخنة يتناول كل فرد وجبته لوحده. لكن مقص الرقيب حريص على الحياء العام. وقد سبق لوزير الاتصال أن وصف المسلسلات المكسيكية بالماخور فاحتجت سفارة المكسيك بالرباط على ذلك، خاصة أن رئيس المكسيك متزوج من بطلة مسلسلات. وقد توقع كثير من المحافظين أن تمنع الحكومة الإسلامية عرض المسلسلات. لكن المسلسلات أكثر شعبية من الإخوان المسلمين. الغريب أن هناك فكرة شائعة وهي أنه "بخلاف المسلسلات المكسيكية، فالمسلسلات التركية ليست متشبعة بالأفكار اليهودية".
هنا ينتهي تفريغ استمارة وجهة نظر ربة البيت وابنتها. والخلاصة هي أنه قد زاد تأثير المسلسلات مع تراجع الانتباه إليها تحت تأثير العادة.
عند البحث عن مسلسل "سامحيني" في غوغل تظهر آلاف الفيديوهات والصور. لكن لا تحليل نقدي واحد. من جهته يقدم موقع القناة الثانية المغربية المسلسل هكذا: وليد وفريدة، كمال ومنار، قصتا حب يحاول الأب عثمان منعها بكل الوسائل، فهل ينجح في ذلك؟ مع التأكيد على أن المسلسل حقق نسب مشاهدة عالية.
تعليقا على هذا التأثير، يقول الناقد السينمائي المصري أمير العمري إن المسلسلات المفتعلة الطويلة "لا تساهم سوى في إشغال الملايين والإبقاء عليهم في المنازل، منعزلين عن المشاركة في الحياة العامة. لقد أصبح المسلسل الطويل أداة لسجن المتفرج لمدة ثلاثين يوما أمام الشاشة الصغيرة، عاجزا عن مناقشة ما يشاهده، يبتلع ما يُعرض في سياق ذلك من إعلانات تجارية".
واضح أن التلفزيون والعادة يعطلان الحس النقدي. وآخر دليل أنه وتحت تأثير المسلسلات المدبلجة للعامية المغربية، صار التلاميذ يكتبون بها في الامتحانات ظنا منهم أنها فصحى لأنهم سمعوها في التلفزيون.

 

للكاتب نفسه