تسريب أسئلة البكالوريا في المغرب

كانت الأجواء غاية في التوتر في الثانويات المغربية ظهر العاشر من الشهر الجاري. فتلاميذ الشعب العلمية يجتازون اختبار الفلسفة للحصول على البكالوريا، والسؤال كان "هل تتحقق العدالة بالمساواة الكاملة بين الناس؟". وسبب التوتر هو تسريب امتحان الرياضيات شعبة العلوم التجريبية في الصباح. وقد عرف التلاميذ بذلك قبل دخولهم لقاعات الامتحانات، بفضل تداول الأسئلة على صفحات التواصل الاجتماعي.
2015-06-18

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
حمزة بو نوة - المغرب

كانت الأجواء غاية في التوتر في الثانويات المغربية ظهر العاشر من الشهر الجاري. فتلاميذ الشعب العلمية يجتازون اختبار الفلسفة للحصول على البكالوريا، والسؤال كان "هل تتحقق العدالة بالمساواة الكاملة بين الناس؟". وسبب التوتر هو تسريب امتحان الرياضيات شعبة العلوم التجريبية في الصباح.
وقد عرف التلاميذ بذلك قبل دخولهم لقاعات الامتحانات، بفضل تداول الأسئلة على صفحات التواصل الاجتماعي. لذلك جاء عدد كبير من التلاميذ مسلحين بالأجوبة في جيوبهم، بينما يشتكي الذين لم يعرفوا بالتسريب من هتك عرض المساواة الذي هتك مصداقية البكالوريا.
في الكثير من الثانويات بالدار البيضاء غادر التلاميذ القاعات ودخلوا في جدل مع المراقبين بينما تدخل رجال الأمن لإقناع الغاضبين بإتمام الامتحان. وحصلت مواجهات نتجت عنها خسائر مادية وإصابات، ثم وصل أولياء التلاميذ إلى باب الثانويات للتنديد بما حصل.
فجأة صار 500 الف ممتحَن والملايين من أفراد أسرهم في مواجهة مع وزارة التعليم. نزل الآباء والأمهات للشارع في تعبئة فورية عفوية غير مسبوقة، وساد الغضب والغليان. أخذت الوزارة وقتا لتعترف بما حصل، ووعدت باتخاذ الإجراء المناسب بينما حاولت السلطات امتصاص الغضب.
كان المشهد مهينا للتلاميذ الذين بذلوا جهدا للنجاح. ما جرى لا يرجع للصدفة، بل فيه تقصير وإهمال واستخفاف بمشاعر الناس. شعرت بإهانة عميقة وأنا أتابع ما يجري، حتى ظننت أن شيئا مات في داخلي. وقد بدا لي أن التسريب لم يبدأ اليوم، ويبدو أن فايسبوك عرّاه فقط . لذا يبدو لي أن مسرِّب الامتحان لا يريد أن يستفيد شخص معين بل يريد أن يثبت أن المنظومة التعليمية مخترَقة ومفلسة. هذه رسالة قاسية، وحسب البوليس، فالواقفون وراء عمليات التسريبات، "يطمحون إلى زرع البلبلة".
بفضل التسريب، خفت التعليقات ضد الغش الصغير الذي يمارسه التلاميذ، وتم التركيز على الغش الأكبر الذي اخترق الوزارة. وطبعا، يحتاج التخلص من الغش الأكبر ماء أكثر مما يحتاجه الوضوء الأكبر. وللتنفيس عن الغضب، قال الساخرون ان امتحان البكالوريا صار فرضا منزليا، وأضافوا أنه من حسن الحظ أننا لسنا وحدنا، ففي بكالوريا الجزائر نُسبت قصيدة نزار قباني لمحمود درويش، لأن في سطرها الأول "شعراء الأرض المحتلة".. وقال المتحزبون الجادون "إن شبيبة حزب الاستقلال تدعو أطرها والمتعاطفين معها إلى تنظيم وتأطير وقفات احتجاجية". هذا عن أطفال الحزب، أما رجال الحزب، فقد نعوا التعليم العمومي المغربي. وكان يمكن الاستمرار في الإصغاء لصوت الناعي لولا أن وزير التعليم السابق ينتمي لحزب الاستقلال. لكن الوقاحة لا حدود لها.

من جهته صرح رئيس الوزراء عبد الإله بنكيران بأن ما وقع في امتحانات البكالوريا خيانة للوطن ومن فعل ذلك سيدفع الثمن، بينما طالب الكثيرون باستقالة الوزير فوعد بالتحقيق في تسريب أسئلة الرياضيات. هذا الوزير الذي قضى سنوات في قيادة "جامعة الأخوين" النخبوية وكان الجميع يتغنى بكفاءته، وجد نفسه في ورطة في إدارة التعليم العمومي المجاني. يتم تبرير وضع الوزير بسنه وقد تجاوز السبعين. للزمن حكمه.
هذا على المستوى السياسي. أما الخطير فيمس التلاميذ، فقد تتالت أخبار التسريبات. نشرت مواضيع امتحانات قديمة على انها تسريبات. صحيح هناك تسريب واحد حقيقي وعدة تسريبات مزعومة، لكن الشك استوطن الرؤوس، وقد اضطر هذا مصالح وزارة التعليم لتعلن مرارا "نؤكد لعموم المواطنات والمواطنين، أن الموضوع المتداول لا علاقة له بالدورة الحالية، وأن ما نشر يتعلق بموضوع دورة سابقة". ولوقف الجدل، أعلن الوزير عن إعادة اختبار الرياضيات لشعبة العلوم التجريبية يوم الجمعة.
إن مرتكب جريمة التسريب يعرف دور الرياضيات في نجاح تلاميذ الشعب العلمية. فمعامل المادة يبلغ سبعة. لذا مسح خبر التسريب كل الأخبار الأكثر قراءة في المغرب، مثل رقص جينيفير لوبيز بالتبَّان في الرباط، وصور شابات "فيمن" عاريات في ساحة مسجد حسان، وفيلم نبيل عيوش عن الدعارة، واعتقال مثليين تبادلا قبلا في ساحة مسجد حسان تشبها بقدوتهما. وطبعا نُسي خبر انكشاف بيع جوزيف بلاتر لتنظيم كأس العالم 2010إلى جنوب أفريقيا بينما كان المغرب فاز به... كل هذه المواضيع نسيت فجأة وصار التعليم موضوع الجدل.
يعتبر عدم الحصول على البكالوريا شتيمة، يسمى من وصل مستوى البكالوريا ولم ينجح فيها "نيفو باك" وهو تعبير فرنسي تبخيسي دخيل ("niveau bac"). والباك بوابة لكسب رزق دون جهد عضلي وبساعات عمل محددة، رزق قليل لكنه منتظم ومريح نوعا ما. يمكن لحامل شهادة البكالوريا العمل في سوق ممتاز أو حارس أمن خصوصي للذكور. أما في ما يخص الشابات، فأمامهن فرصة العمل مراقبات أطفال في مدرسة خصوصية، وهذا مجال هائل في ظل تكاثر المدارس الخصوصية بشكل جعل أصحابها يستخدمون تسميات مركبة لأن التسميات الفردية نفدت: بعد مدرسة النور ومدرسة السلام ظهرت مدرسة اسمها نور السلام...
كان صباح الجمعة الذي تلى الواقعة استثنائيا في الثانوية. حضر الأساتذة مبكرا وكانوا متأنقين أكثر من العادة. طرح سؤال الرياضيات في درس الاحتمالات، وطلب من التلاميذ البحث عن المتغير العشوائي. شرعوا يجيبون. لكن في الواقع الاجتماعي والسياسي، يصعب وضع قانون لضبط المتغير العشوائي، قد يكون فوضى خلاقة وقد يكون مدمرا. وفي حالة التعليم المغربي اليوم كان خلاقا. فمن نافذة الفصل الدراسي الذي أراقب فيه، أتابع المدير يتنقل بين مساعديه الخمسة بحماس.
أقرأ التعليمات على ورقة المرشحين "يسمح باستعمال آلة حاسبة غير قابلة للبرمجة"، نادرون هم المراقبون الذين يعرفون الفروق بين الآلات الحاسبة. ومن التعليمات أيضا "ممنوع مغادرة الفصل قبل مرور نصف الغلاف الزمني".
المشكل أن بعض التلاميذ يريدون مغادرة الفصل بعد أربعين دقيقة وإلا سيشوشون على غيرهم. عادة يملك الكسالى واليائسون موهبة رهيبة في اختراع الإشكالات وتعقيدها، ومنها طرح أسئلة لفتح مناقشات عن مصير الامتحان السابق، وطلب الذهاب للمرحاض بعد نصف ساعة من الدخول.. لدى هؤلاء التلاميذ أجوبة عن أسئلة عشوائية غير مكتوبة على ورقة الامتحان، وهم يكرهون حالات الهدوء والانضباط لأنها تفرض عليهم ضغطا وتكشف خواءهم وعجزهم عن الانكباب ثلاث ساعات على ورقة الامتحان.
اضطر المدير لوضع استثنائي، وهو السماح لبعض المشاغبين بمغادرة الفصل في نصف ساعة، وأجبرهم على الوقوف في زاوية في ساحة الثانوية حتى يصل الوقت المحدد. وهكذا ضَمن الهدوء وطبق القانون لأنه منع تلميذا يتوفر على ورقة الامتحان من الخروج للشارع. بعد ساعة غادر خمسة تلاميذ وبقي خمسة عشر، بقي القادرون على عصر أنفسهم لتقديم الأفضل. قلت محاولات الغش وسيطر صمت كبير على القاعة، حان وقت تخصيب الأجوبة.. من اجل هؤلاء شعرت بالإهانة.
لقد جرى التسريب بسبب القصور والإهمال. هذا هو الخبر السيئ. أما الخبر الجيد فهو أن الشعور بالإهانة والاحتجاج بشدة دليل على تقدير المغاربة للمدرسة. فرد الفعل القوي علامة على صلابة المنظومة التعليمية التي تنهض من الصدمة. أعتقد أن في الجسد التعليمي جروحا وعلى جلده جراثيم، لكن العظم سليم.

 

للكاتب نفسه