خطاب العرش: خصاص اجتماعي وفائض هوية

      محمد السادس يحكم المغرب منذ ست عشرة سنة. هذا زمن طويل بمعايير ما بعد الربيع العربي/ الأمازيغي. فالملك يتجاوز الباجي قايد السبسي وعبد الفتاح السيسي والملك سلمان... انتهى زمن بقاء الحكام أربعين سنة على الكراسي، لأن التربة السياسية من المحيط إلى الخليج لم تعد ثابتة. بمناسبة ذكرى جلوسه على العرش، وقف الملك على حصيلة عمله بنفسه. تحدّث نصف ساعة وهذا واحد من أطول خطاباته.
2015-08-08

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
الملك المغربي محمّد السّادس في خطاب العرش 2015

      محمد السادس يحكم المغرب منذ ست عشرة سنة. هذا زمن طويل بمعايير ما بعد الربيع العربي/ الأمازيغي. فالملك يتجاوز الباجي قايد السبسي وعبد الفتاح السيسي والملك سلمان... انتهى زمن بقاء الحكام أربعين سنة على الكراسي، لأن التربة السياسية من المحيط إلى الخليج لم تعد ثابتة.
بمناسبة ذكرى جلوسه على العرش، وقف الملك على حصيلة عمله بنفسه. تحدّث نصف ساعة وهذا واحد من أطول خطاباته. قال الملك إن مشكلته هي كون أرقام النمو الجيدة لا تصل لكل المغاربة بالتساوي. أضاف "النمو الاقتصادي لن يكون له أي معنى إذا لم يؤثر في تحسين ظروف عيش المواطنين. نحن ندرك حجم الخصاص المتراكم". والخصاص في قاموس المعاني هو "الفقر والاحتياج".
في الحقيقة، جل التقدم المغربي يجري في المدن وحولها. وهو يتركز في الشمال الغربي للبلاد، في مثلث الدار البيضاء - طنجة - فاس. وهو تقدّم صناعي وعمراني. وحتى حين يكون التقدّم فِلاحياً، فهو مرتبط بالمدن التي تشتري من الفلاحين منتوجات كثيرة. بينما باقي البوادي البعيدة عن المدن الكبرى لا تستفيد، وتبيع سلعها للوسطاء بسعر منخفض. لذلك أحصى الملك أكثر من 24 ألف دوار (قرية) تعاني "الخصاص"، وأعلن تخصيص أكثر من خمسة مليارات دولار لإنجاز حوالي عشرين ألف مشروع بغرض التصدي لمظاهر العجز الاجتماعي.
هكذا، كان خطاب العرش في نهاية تموز/ يوليو 2015 اجتماعياً في جوهره. وهذا دليل على أن الملك لا يرى لديه أية مشكلة سياسية، بخلاف ما يجري في باقي الدول، بين المحيط والخليج. وبالنظر للوقائع، فالملك على حق. ففي المغرب ضعفت معارضة الحكم والحكومة. أكبر مظاهرة جرت في العاصمة طيلة العام الماضي شارك فيها أقلّ من خمسين شخصاً وهم يحتجّون على شيء صغير مثل منح وثيقة سكن لصحافي مغربي غاضب في جنيف أو وقف غرامات على عدم الدفع المسبق في مواقف السيارات بالرباط. من يسمع قادة الأحزاب يجد تمسكاً بالعرش العلوي باعتباره ضامن استقرار المغرب. وبغض النظر عن الحصة من الكعكة، فاللاعبون الرئيسيون في وفاق تامٍ. المشهد مستقر. وقد يبدو أنه مستقر أكثر مما ينبغي، وهذا مقلق لمن لم يتخلص من حسه النقدي بعد.
لا يتحدث الملك أكثر من ساعتين في السنة، بينما يزور مناطق كثيرة ويقطع آلاف الكيلومترات للوقوف على المشاريع والمشاكل بعين المكان، وهذا ما جعله قريباً من الناس وخاصة النساء اللواتي شعرن في محطات كثيرة بأن الملك معني فعلاً بتغيير ظروفهن. وقد كان لاعتقال المتحرشين بشابّتَي التنورة أثر نفسي كبير.
يركز الملك الجوال على زيارة المناطق تأكيداً على لحمتها، وهو يتكلم قليلاً، لذا فلا يتورط في لغة الخشب التي تدفع المستمعين لعدم التصديق. خطاب الملك هادئ، يحثّ على المصالحة والعمل من أجل الوطن. وهذا أسلوب مؤثر في الناس. قال الملك لأبناء الشعب "ما يصيبكم يمسّني، وما يسرّكم يُسعدني. وما يشغلكم أضعه دائماً في مقدمة انشغالاتي". ومع طول النظر في عيني الملك وهو يخطب يظهر أن ما يقوله يشكِّل عبئاً عليه وليس مجرد كلمات صادرة من الحنجرة.
يقدّر المغاربة الصمت والعمل. فالمغرب ملَّ من الشفوي. لسان المرء حصانه. وقد تكلّم الملك حوالي اثنتين وثلاثين ساعة في فترة حكمه. كل خطاباته مكتوبة ولا يرتجل. لذا لا يقع في مواقف مستفزة تشعل الجو.
حالياً، المغرب مرتاح مع حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية. يبدو أن التعاون مع الإخوان المسلمين أفضل من محاربتهم وادعاء سحقهم تماماً. التيار الإسلامي هو الأكبر في المجتمع، وفيه فصائل. ومن الحكمة تقسيمه بالتعاون مع فصيل مُنتقى منه بدل توحيده كاملاً بحشره في الزاوية، فتصعب مواجهته. حتى الإسلاميون يدركون فوائد وجود فصيل منهم في السلطة، إذ تجد باقي الفصائل نفسها مضطرة لتسهيل مأموريته. حتى تلك التي تتبنى العنف السياسي تخفف قولها وفعلها. حين يتولى "الإخوان" الحكم يضعف السلفيون والجهاديون ويفضلون الرحيل للعمل في سوريا. حصل هذا في تونس والمغرب. ففي تونس، ومنذ خسارة النهضة للانتخابات عادوا للعمل في البلاد. شيوخ السلفية في مغرب اليوم، الذين خرجوا من السجن بعد تنصيب حكومة عبد الإله بنكيران، لا ينتقدونه، وهم كذلك حالياً لا ينتقدون الملك، "أمير المؤمنين".
في ظل هذه الأجواء، يلتفت الملك إلى الجانب الاجتماعي ويعلن انشغاله بقضية التعليم المتعبة. وقد جلب لها وزيراً من التعليم الخصوصي، كان وزير القصر الملكي في الحكومة. وهو يجري تعديلات على التعليم الأساسي الذي هو لبّ المشكل. ويبدو أن الوزير يواجه عوائق في تنفيذ إصلاحاته بسبب العقلية السائدة أو فائض الهوية العربية الإسلامية، فإذا بشكاويه تنعكس في خطاب الملك.
وهو طرح سؤالين:
الأول: لماذا يتسابق العديد من المغاربة لتسجيل أبنائهم بمؤسسات البعثات الأجنبية والمدارس الخاصة، رغم تكاليفها الباهظة؟
أجاب الملك: لأنهم يبحثون عن تعليم جيّد ومنفتح يقوم على الحس النقدي، وتعلّم اللغات، ويوفر لأبنائهم فرص الشغل والانخراط في الحياة العملية.
هذا هو السبب إذاً. وهو غير متوفر في حال السؤال الثاني: هل التعليم الذي يتلقاه المغاربة اليوم في المدارس العمومية قادر على ضمان مستقبلهم؟
لم ينتقد الملك المدرسة العمومية المصونة، لكي لا يثير جدلاً مفترساً ويضيّع الهدف. قال إن المدرسة الخصوصية حققت هدفها وسكت. بقيت المدرسة العمومية. قال: "ندعو لإصلاح جوهري لهذا القطاع المصيري، بما يعيد الاعتبار للمدرسة المغربية، ويجعلها تقوم بدورها التربوي والتنموي المطلوب".
ما هو هذا الدور وكيف يتحقق؟
اولاً، تحصين الفرد والمجتمع من آفة الجهل والفقر ومن نزوعات التطرف والانغلاق. ثانياً، تمكين المتعلم من اكتساب المعارف والمهارات. ثالثاً، إتقان اللغات الوطنية والأجنبية. رابعاً، التمكن من التخصصات العلمية والتقنية التي تفتح له أبواب الاندماج في المجتمع. خامساً، تمكين المغرب من يد عاملة ذات كفاءات عالية، مؤهلة للعمل في مختلف المقاولات العالمية، خاصة منها التي تختار المغرب لتوسيع استثماراتها وزيادة إشعاعها.
ليتحقّق دور المدرسة هناك شروط وعوائق. الشرط: تعليم مزدوج يضمن للشباب الحصول على عمل. والعائق هو رفض التكوين المهني لأنه يؤدي لمهن صغيرة. حسب العقلية المهيمنة كل متخرّج يريد مكتباً، حتى المهندس الزراعي يريد العمل في المكتب.
الشرط: ينبغي التركيز على اللغات الأجنبية. والعائق هو الخوف على هويتنا. طمأن الملك حراس الهوية قائلاً "الانفتاح على اللغات والثقافات الأخرى لن يمس بالهوية الوطنية". وطالب مزعجي الوزير بأن يظل إصلاح التعليم بعيداً عن الأنانية، وعن أية حسابات سياسية ترهن مستقبل الأجيال الصاعدة، بدعوى الحفاظ على الهوية.
هكذا يمكن لوزير التعليم أن يخترق أدغال هويتنا. الغريب أن المغاربة لا ينشغلون بالهوية إلا في المدرسة العمومية. حتى الذي يرسل ولده إلى مدرسة خصوصية يريد من المدرسة العمومية الحفاظ على هوية أولاد الجيران.. وبناتهم خاصة.    


وسوم: العدد 155

للكاتب نفسه