معنى سلوك ترامب

مرحلة جديدة للمسألة الفلسطينية هي حصيلة إنسداد الأفق أمام أسلوب الادارة القديمة لها، واستنفاد امكاناتها. وهي حالة تجد مخرجها في مزيد من الهرب الى الأمام عبر حماقة ترامب وصهيونيته الشديدة.

2018-01-04

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
نبيل عناني - فلسطين

بما أن الرئيس الأميركي "رجل أعمال" ومضارِب في كل الميادين، ومقامر، فهو يطبّق خبرته هذه على فلسطين. لم يكتفِ باعلانه حول القدس، فألحقه باعلانه الثاني من أنه سيوقف سداد حصة الولايات المتحدة للأنروا، المنظمة التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1949 لإدارة بؤس الفلسطينيين المنكوبين والمطرودين من بلدهم.
هنا نقيس تغيّر المقاربات. فيما مضى، أدركت الأمم التي كرست قانونياً ودولياً سلب فلسطين من أهلها وإعطائها للصهاينة، أن المقابل الإلزامي لذلك هو التصدي لتسكين الجانب المادي، الانساني كما يقال، من المأساة المتولدة عن القرار. وفي فترات لاحقة إزدادت تلك الحاجة للتسكين، مع ظهور العمل الفدائي في ستينات القرن الفائت بعد أقل من عشرين سنة على النكبة، ثم مع إندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد أقل من عشرين سنة أخرى على بدايات تلك المقاومة. وخرجت الى حيز الوجود صيغ من البحث عن حلول سياسية، علاوة على ذلك التسكين للناس عبر تقديمات بسيطة تخص التعليم والمسكن والصحة، وعلى تلك "الرشاوى" المتسعة ــ وخاصة من البلدان العربية ــ لمنظمة التحرير الفلسطينية وللفصائل المختلفة.. حلول سياسية تقوم على التسكين هي الأخرى. بدأت بصيغ من الاعتراف بوجود "مسألة فلسطينية" لا يمكن محوها (دعوة ياسر عرفات للخطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة 1974) وصولاً الى مؤتمر مدريد ثم "اتفاقية أوسلو" التي كانت تتويجاً لهذا المسار المتعرج، والذي اخترقته احداث جسام منها اجتياح اسرائيل للبنان في 1982 ومذابح صبرا وشاتيلا ووقوع الشتات الفلسطيني الثاني (أو الثالث بعد 1967) والاغتيال المستمر  للقادة الفلسطينيين بما فيهم الكوادر الخ... وقد استمرت الرشاوي للسلطة الفلسطينية تحت مسمى التقديمات الدولية التي صاحبتها عملية بناء معقدة تدفعها للتعاون مع اسرائيل، بدءاً من التنسيق البرغماتي الذي تمليه صيغة أوسلو نفسها، وانتهاء بالتنسيق الامني الذي يوصف عن حق بالتواطؤ مع الاحتلال.


اقرأ أيضاً: هل الاستسلام حل؟


ومع اتساع الرشى المالية تلك تضخم جسم السلطة الفلسطينية، المدني والبوليسي، وتزايدت التقديمات لشرائح مستفيدة من هذه الوضعية، كما ازدادت أعداد الهيئات الدولية الرسمية والأهلية التي تقدم العون عبر مشاريع "تنموية"، بمقدار ما كان جدار الفصل العنصري يمتد، وتتوسع المستوطنات ويقتل الفوسفور أهل غزة وتتفتق عبقرية الصهاينة عن مشاريع نهمة على رأسها السعي لاعتراف دولي بـ"يهودية" دولة اسرائيل، ما يجعل (من بين أشياء أخرى) سكانها العرب من غير اليهود مستباحين قانونياً وليس فحسب واقعياً... وكل ذلك عمق التفاوتات الاجتماعية بين رام الله وسائر المدن، وبينها جميعاً والمناطق الريفية ومخيمات اللجوء، وعزز الوضع الخاص ــ البشع ــ  للقدس والمقدسيين والوضع الأبشع للغزاويين، وما يبدو أنه نسيان تام لحق عودة اللاجئين، الى آخر المشهد الأسود الذي أحلّ اليأس واللاجدوى في قلوب الكثيرين، ولكنه على ذلك كله لم يتمكن من تدجين الناس الذين استمروا في المقاومة وفق الممكن.  
قد يكون من اليسير قراءة هذا التاريخ لتبيان ما كان تآمراً بالمعنى الحرفي للكلمة وما كان مساراً تحكمه الظروف الموضوعية (كامب ديفيد مصر وانهيار المعسكر الاشتراكي الحليف وتدمير العراق..) أو القصور الذاتي متعدد الميادين والأطراف. ولكن المؤكد الذي لا يمكن حتى لأشد أعداء القضية الفلسطينية انكاره هو مقدار الاستعداد الدائم للتضحية الذي طبع النضال الفلسطيني في مختلف مراحله ومحطاته، ومقدار الاحاطة والتأييد العالميين لفلسطين والذي جعلها تصبح رمزاً للصراع من أجل الحق في العالم.
وهذا التاريخ ليس منقضياً بل هو مستمر. ولعل ذلك ما يحمل الولايات المتحدة الأميركية واسرائيل ومعهما كثير من الحكام العرب الى التخلي عن تكتيك الاستيعاب بالتسكين والرشاوى والادارة الكاذبة لحلول وهمية مستطيلة، فيما يستمر القضم والهضم. وهذا معنى القرارات "الحادة" التي يقال فيها انها تقطع مع تقاليد دبلوماسية مستقرة، وهذا أيضاً معنى دفع الأونروا الى الانهيار، بعد تقليص مستمر لخدماتها في السنوات الماضية بسبب "الضائقة المالية".


اقرأ أيضاً: فلسطين 2017.. قضية حيّة وتصارع!


تُسعف الاونروا نحو 5.8 ملايين لاجئ فلسطيني في مناطق عملياتها الخمس، في الأردن وقطاع غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان. وهي تُمدْرس نصف مليون تلميذ فلسطيني في 700 مدرسة منشأة في مناطق عملياتها تلك، كما تعنى بصحة 9 ملايين فلسطيني، وتوظف 30 ألفاً في مكاتبها وبرامجها. والولايات المتحدة هي  المساهم الأكبر في تمويلها (370 مليون دولار عام 2016 تقلصت الى 295 مليوناً في 2017). ويأتي الاتحاد الأوروبي في المرتبة الثانية (216 مليونا) والسعودية في المرتبة الثالثة (151 مليونا). تقول نيكي هالي سفيرة الولايات المتحدة في الامم المتحدة أن غاية ترامب من وقف مساعات الأونروا هي إجبار الفلسطينيين على "العودة الى المفاوضات" وترجمتها القبول بكل ما يفرض عليهم مهما كان.. بينما تقول الصحيفة الاسرائيلية هآرتس أن دفع الاونروا للانهيار يحمل مخاطر على اسرائيل، لأن الناس الذين ستتقطع بهم السبل الى تلك المساعدات الضئيلة والبائسة، سيثورون، ولأن اسرائيل كقوة احتلال ستواجه داخل فلسطين وضعاً إنسانياً مأساوياً هو بحسب القانون الدولي يقع على عاتق مسؤوليتها.
نحن أمام مرحلة جديدة هي حصيلة إنسداد الأفق أمام أسلوب الادارة القديمة للمسألة، وربما استنفاد امكاناتها. يبدو أنه انسداد يجد مخرجه في مزيد من الهرب الى الأمام عبر توظيف حماقة ترامب وصهيونيته الشديدة وعبر دفع نائبه مايك بنس، أحد أركان حكمه وأحد اقطاب تيار "المسيحية الصهيونية"، إلى تعجّل وقوع الكارثة (على أمل ظهور المخلص!). وستكون هذه المرحلة الجديدة في غاية الصعوبة والشراسة. ولكن من لم يقوَ على محو القضية الفلسطينية طوال قرن من الزمن، سيفشل هنا أيضاً. ولكن تحقيق هذا الفشل ليس آلياً على الرغم من توفر أسبابه. هو مسؤوليتنا. وقد حان وقت بلورة "كيف" طالما نعرف "لماذا"!


اقرأ أيضاً: القدس.. كيف تُبنى العاصمة الإسرائيليّة؟


مقالات من القدس

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...