السوبر ماركت قطعة من الجنة

في نهاية كل سنة، تشتد الإعلانات لإغراء الزبائن باستغلال مناسبة التخفيضات. يتأثرون للنّسب التي تمّ خصمها. فالأسعار الجديدة في العروض بارزة، وغالبا ما يتكرر فيها رقم 99. يسرع الزبائن لمحلات السوبر ماركت للاستفادة من هذه الفرصة التي لا تعوض. يصعب إقناع المصابين بحقنة التفاؤل من الإعلان أن فرصة الشراء ستتكرر. يصلون السوبر ماركت، يجدون في فضائه بعض سمات الجنة، فهو أنظف مكان في المدينة،
2013-01-09

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

في نهاية كل سنة، تشتد الإعلانات لإغراء الزبائن باستغلال مناسبة التخفيضات. يتأثرون للنّسب التي تمّ خصمها. فالأسعار الجديدة في العروض بارزة، وغالبا ما يتكرر فيها رقم 99.
يسرع الزبائن لمحلات السوبر ماركت للاستفادة من هذه الفرصة التي لا تعوض. يصعب إقناع المصابين بحقنة التفاؤل من الإعلان أن فرصة الشراء ستتكرر. يصلون السوبر ماركت، يجدون في فضائه بعض سمات الجنة، فهو أنظف مكان في المدينة، مراحيضه أوسع وألمع من مراحيض المسجد، عرضه عرض السماوات بفضل المرايا، سقفه عال، وهو فضاء مضاء ولامع وفيه الخدم الحور العين من الجنسين. وُظِّفوا بعد «كاستينغ» مؤسس على القامة الهيفاء وبياض البشرة وجمال الابتسامة وتدريبات لإرضاء الزبائن... وفوق كل هذا سلعٌ تُسرّ الناظرين، مرْصوفة في مدرجات مرتبة للغاية، يتجول المشترون بينها ويستمعون لموسيقى هادئة. يتصرفون جميعهم بطريقة متشابهة بل موحدة، رغم الاختلاف في السن والجنس واللباس. شـبان وشيوخ، رجال ونساء، مرتدو الجينز والحجاب والنقاب والزي الأفغاني، يتساوون في انبهارهم أمام السلع الجديدة.
في السوق لا يُعرِّف الفرد نفسه بالانتماء للقبيلة والطائفة والمنطقة، بل بما يملك وكيف يعيش وما يشتري. ويعكس هذا هوسا بأسلوب الحياة الغربي، وهو يقوم على نمط عيش مرفه، فيه عناية شديدة بلذات البدن وبحث مكلف عن التفرد. في ماراتون التسوق، يتمكن الزبائن الناجحون من شراء ما يريدون وأكثر، يتنافسون على من يملأ عربته بقوة أكبر من الآخرين. عادة يشترون ما يُعرض لا ما يحتاجون، بزعم الاستفادة من طوفان التنزيلات، تطبيقا لشعار «اشتر أكثر وادفع أقل».
يحاول المشتري الذكي أن يتحكم في مصروفاته، يُعد قائمة مشتريات مسبقا في المنزل. يتجنب اصطحاب أطفاله لأنهم سيجبرونه على الشراء. هل يلتزم بالقائمة حين يدخل السوبرماركت؟ هذا أمر آخر.
في الأزمة يأتي الفقراء للفرجة أكثر من الشراء. المال لا يخلق السعادة، لكن من الواضح أن الذين اشتروا كثيرا أكثر بهجة من غيرهم. أما الذين يرددون «التدبير نصف المعيشة»، فيفكرون ألف مرة قبل أن يشتروا، وهذا التردد يجعل وجوههم تتكلس وتبتسم بصعوبة.
في الطابور المصطف أمام صناديق تسديد الاثمان، يقارِن كل مشترٍ نفسه بمن سبقه ومن يقف بعده. المقارنة مذلة. يشعر من يشتري أشياء قليلة بالخجل. من لا يستطيع الشراء فاشل. «الفاشية الحقيقية هي ما أسماه السوسيولوجيون بلطف مجتمع الاستهلاك»، كما قال المخرج الإيطالي الشيوعي بيار باولو بازوليني. وهو شرح أن مقارعة الاستهلاك هي اليوم عنوان القتال ضد الفاشية، وليس التلهي بقضايا ماتت وفاتت ولم تعد تخيف أحداً (في «كتابات قراصنة»، 1974).
هكذا تضبط المعايير الاجتماعية أحلام الأفراد. للتلاؤم مع تلك المعايير، يؤكد الشبان حرصهم على امتلاك الأركان الخمسة التالية: الفيلا، «الطوموبيلا» (السيارة بالدارجة المغربية، وهي مشتقة من «أوتوموبيل» الفرنسية)، زوجة جميلة، تسجيل الأطفال ليدرسوا في «السكويلا» (وهذه مشتقة من «سكول» الانجليزية!)، والويسكي من استطاع إليه سبيلا. للإشارة، أكثر الطوابير كثافة هي لمشتري الخمور، لذلك فلديهم شِبّاكان مستقلان للدفع. يبدو أن توفير الركن الخامس من الحلم أسهل من الركن الأول.
يقع السوبرماركت في المدن المغربية الكبرى فقط. وأغلب تلك الأسواق تابعة للهولدينغ الملكي. ومن فرط سحر فضاء السوبرماركت، يضطر سكان المدن الصغرى للسفر للتسوق. ويكون ذلك بمثابة عيد بالنسبة لهم. وهذه نظرة جديدة للسوق.
قيل قديما «شر البقاع أسواقها»، ويعتبر وصف سلوك شخص بأنه سوقي شتيمة قاسية. وفي المغرب يطلق على سود البشرة «إسوقين»، أي عبيد يباعون في الأسواق. لكن الرأسمالية حسَّنت صورة السوق، جعلته معيارا، فهو «يتخذ أفضل القرارات»، أليس كذلك؟
لقد تغيرت صورة السوق في العصر الحديث. في المغرب كان الرفاق يكرهون السوق، لكن تكيفوا معه حين وصلوا للمناصب الحكومية، وقد صاروا يؤمنون أن الشراء بكثرة علامة على التفاؤل. لكن النفقات ينبغي أن تساوي المداخيل، وإلا وقع الإفلاس. كثيرون لا يفهمون النصف الأول من القاعدة، إلا بعد أن يعيشوا النصف الثاني... في مغرب اليوم 80 في المائة من مشتريات الأسر متأتية من القروض. تعيش الدولة المغربية تحت مديونية مفرطة تجاوزت 23 مليار دولار، وتشكل الفوائد أكثر من 70 في المئة من الدين. الإفلاس قادم، يجري تأجيله بالهروب إلى الملاذ: صندوق النقد الدولي.
مرت هذه الأيام سنتان على الربيع العربي/الأمازيغي. يختلف الإسلاميون والسلفيون والليبراليون حول كل شيء. لكنهم يتفقون على شيء واحد: بلدانهم على حافة الإفلاس. وقد كثرت الأسر التي تحاول التخلص من رُضّعها. وهذا ذل ليس بعده ذل. ففي خضم الجدل الأيديولوجي ـ حول ما إذا كانت الدولة ستكون دينية أم مدنية - نَسي الجميع ثمن الخبز والغاز. لكن بين حين وآخر، يتذكر الثوار والفلول الاقتصاد، فيسيطر عليهم القلق معا. واضح أن السوق ستروض الأيديولوجيات!

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه