اقتصاد الجزائر المستعمرة 1830 – 1954

الحقيقة الكولونيالية في الجزائر بما يتجاوز الاساطير والمراجعات: عرض لكتاب قيّم.
2017-11-09

إيف دوتييه

مستشار مصرفي وناقد أدبي في المجلة الالكترونية الفرنسية Encres Vagabondes


شارك
| fr
في الجزائر في العام 1962 قبل أيام من إعلان الاستقلال

إلى السيدة آليو ماري والنواب الفرنسيين الذين صوتوا في 2005 لصالح قانون نيوكولونيالي ينّص على أنه: “تقّر المناهج المدرسية (الفرنسية) بشكل خاص  بالدور الإيجابي للحضور الفرنسي في ما وراء البحار، خصوصا في شمال أفريقيا…”!

يقدم كتاب أحمد هنّي إضاءة تاريخية واقتصادية لا يمكن دحضها لهذا “الدور الإيجابي” المزعوم للحضور الفرنسي في الجزائر، معتمداً على كمية من الوثائق الأرشيفية، وخصوصا سلاسل إحصائية كاملة، وقائمة مراجع مبهرة. ويعيد المؤلف بطريقة واضحة جداً ــ مع جداول ومعطيات مرفقة بأرقام ــ تشكيل  حقيقة إقتصاد الجزائر زمن الاستعمار. وهي تُظهر بنى الاستعمار والمنتفعين منها بدون مواربة في برودة اللبوس القانوني لموجات متلاحقة من السلب.

الاستعمار العقاري

هناك جانب غير معروف بشكل كاف وحتى مجهول في أغلب الأحيان من قبل عدد كبير من المؤرخين والسياسيين، وهو الاستعمار العقاري وتكوين رأسمال عقاري إستعماري (تمّ الحصول عليه عبر مصادرة أراضي شاسعة وسلب صغار الفلاحين)،  ومن ثمَّ إعادة توزيعه  ــ مجانا أو بمقابل رمزي ــ على المستوطنين الفرنسيين عند وصولهم للتراب الجزائري.

يظهر لنا المؤلف، مستندا إلى أرقام، كيف تطورت الملكية العقارية على مدى طويل بحساب الهكتارات الموزعة بين المستوطنين و”السكان الأصليين”. وهكذا نجد ان التملك الاستعماري في 1954 كان مركّز بقوة، وخلال قرن واحد امتلك كل واحد من بين عشرين بالمئة من الملاكين المستوطنين أكثر من مئة هكتار مقابل واحد بالمئة للملاكين الجزائريين المسلمين.

التعامل مع الفلاحة باعتبارها اقتصاد تصديري

التحليل المفصّل للفلاحة يظهر لنا بوضوح ان زراعة كروم العنب ــ التي لم تكن موجودة قبل 1830 ــ كانت خطاً موّجهاً للاستعمار الاقتصادي. فخلال الفترة 1870 ــ 1890 وبعد أن دمرت حشرة الفيلوكسيرا جزءاً من مزارع الكروم الفرنسية، شهدنا تدافعاً أوروبياً حقيقياً نحو الأراضي الجزائرية لاستغلالها في غراسة الكروم.

قدوم الكرمة لم يكن بدون عواقب: النزوع نحو الزراعة الأحادية (على حساب زراعات الكفاف وتربية الأغنام)، تركز الملكيات الكبرى، ظهور مسار “تكديح” شامل لقطاعات واسعة من الجزائريين. هذه الزراعة “غيرت البلاد مادياً، مبدلة خصائص التربة والزراعات وأماكن السكن وأشكاله بالإضافة إلى تسببها بحركات نزوح سكاني. الحصيلة كانت إختلالات مادية عميقة في التوازنات الكبرى البيئية والفلاحية ــ الغذائية والديموغرافية والعقارية”.

تمويل الاستعمار والجباية

من المفيد التذكير بأن المستوطنين لا يدفعون ــ أو قليلا ما يدفعون ــ ضرائباً في حين أن الجزائريين المسلمين كانوا يدفعون “الضريبة الخاصة بالمسلمين” الى حدود 1918، وإتاوات على الماشية وغرامات متنوعة (“قانون الأهالي” كان ساري المفعول في ذلك الوقت ويمنع مثلاً سقاية فلاح لخرفانه من منبع مياه يستعمله مستوطن لسقي كرومه!). بعبارة أخرى كانت الجباية التي يدفعها الجزائريون تمول “أعباء” الاستيطان (إدارة استعمارية، شرطة الخ…). وساهمت هذه المظالم بشكل ملفت في تفقير قطاعات ريفية واسعة تًركت لمصيرها في مناطق من المؤكد انها محتلة ــ بالمعنى العسكري ــ لكنها خالية من الإدارة.

“الدور الإيجابي” للحضور الفرنسي: لمن؟

التطور الكبير لزراعة الكروم، وفيما بعد لزراعة الحبوب الذي يتطلب استعمال تقنيات أكثر حداثة (آلات، أسمدة، أملاح الخ…) خلق الحاجة لتمويلات سيكون الرأسمال البنكي أكبر المستفيدين منها. يظهر أحمد هنِّي بشكل جيد آلية إدارة العلاقات التجارية بين الجزائر وفرنسا. فلنذكر هنا بأن كل من الصادرات الجزائرية نحو فرنسا (أساساً النبيذ والحبوب والحمضيات) والصادرات الفرنسية نحو الجزائر (آلات، أدوات، أسمدة وأيضا مواد غذائية أساسية ومنتجات قطنية وسكر الخ…) كانت معفاة من التعريفة الجمركية، وان الأسعار في كلا الاتجاهين كانت تفوق أسعار السوق العالمية بمعدل 20 بالمئة.

وبالتالي، فإن المنافع تعود قبل كل شيء الى المستوطنين المصدِّرين بالإضافة للصناعيين والتجار والناقلين والممولين الفرنسيين. على سبيل المثال، عندما  يباع منتوج بسعر قدره 100 وحدة نقدية للمستهلك الباريسي فإن العامل الفلاحي، وهو دائما مسلم تقريباً، لا يتلقى إلا 3 وحدات وتأخذ الأنشطة الاستعمارية من انتاج ونقل وتجارة 43 وحدة، أما الأنشطة التي تتم في فرنسا فتحصل على 54 وحدة.  
“واقع ان الجزائر تصدِّر قمحها لكي تشتري السميد ( وهو مسحوق خشن من القمح) نتج عنه اثراء متزامن لزارعي الحبوب من المستوطنين وكذلك لأصحاب المطاحن في فرنسا والتجار في كِلا الاتجاهين. بسبب هذه الآلية تحديداً كانت المساهمة في تلك العملية حكراً على أقلية، وإذ لم تكن هناك إعادة استثمار لهذه الأرباح فإن البلاد كانت تزداد فقراً”.

تحليل اقتصادي وتحليل سياسي

بالإضافة الى ثراء تحليله الاقتصادي وصرامة استعماله للبيانات الإحصائية المضمّنة في كتابه، فإن أحمد هنِّي لا يغفل أبداً التحليل السياسي، خصوصاً في تصنيفه للمصالح الاستعمارية. وهاكم استنتاجاته الختامية: “عبر جعله التصدير النشاط الأكثر ازدهاراً في الجزائر، وعبر تعامله مع هذه الثروة كربح نقدي ومصدر إثراء لبضعة آلاف من كبار المستوطنين، لكن وفي الوقت نفسه، عبر خلقه تفاوتات جغرافية لم تكن موجودة قبله، صانعاً الازدحام في المناطق المفقرة والنقص في عدد السكان في المناطق الغنية، ومتسببا في ظهور فلاحين بلا أراض ونزوح ريفي وبروليتاريا رثّة في المدن (زهاء المليونين في 1954)، أنتج الاقتصاد الاستعماري بنفسه المجموعات المقاتلة التي ستحمل السلاح ضده في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954”.
.. هذا الكتاب المهم والمنشور على نفقة المؤلف متوفر على موقع التجارة الالكترونية “أمازون”. لا يمكننا إلاّ أن نتأسف لكون كتاب بمثل هذه الدقة والوفرة في المصادر لم يجد له ناشراً لا في فرنسا ولا في الجزائر أيضاً.

ترجمة: محمد رامي عبد المولى

•    Ahmed Henni, Economie de l’Algérie coloniale 1830 – 1954

•    أحمد هنّي هو أستاذ مبرز في الجامعة عمل بفرنسا مستشاراً للنقابات ومدرساً للاقتصاد. ساهم لفترة قصيرة في تجربة الإصلاحات في الجزائر (1989-1991) بصفته مديراً عاماً للضرائب وعضواً في مجلس إدارة البنك المركزي.

مقالات من الجزائر

الذهب الأزرق في الجزائر

يميز الجغرافيا الجزائرية التباين البالغ من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، حيث يتركز تدفق الأمطار في الحافة الشمالية الضيقة للبلاد بينما يكون في المناطق الداخلية ضعيفاً إلى شبه...