"المندسون"، مفهوم أمني أم اجتماعي؟

ندوة في الجامعة الامريكية في بيروت بعنوان "ديناميات الطبقات الاجتماعية"..
2015-12-17

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

سأتناول ثلاث مجموعات من الأفكار مطروحة عليكم للنقاش:

أولاً:

-    من هم المندسون؟ إلى أي معنى تحيل الكلمة التي أطلقت في بداية حراك هذا الصيف؟ يبدو لي أنها تتجاوز ما تقصده عادة أمنياً، أي إرسال البوليس أو القوى المتضررة من أي تحرك لعملاء لها يقومون بالتجسس أو بإلحاق الأذى أو بإثارة ما يغاير أهداف المتحركين. "المستعربون" مثلا (وهم وحدات نظامية سرية من الجيش الإسرائيلي) يندسّون في صفوف الفلسطينيين ليرتكبوا عملا لا يرغب به هؤلاء ـ  يحرجهم او يضر بهم سياسياً ورمزيا ـ أو ليساهموا في التوقيفات أو حتى في الاغتيالات. هذه حالة صافية من الاندساس.

-     وفي هذا المجال، فهناك دائما مندسون بأشكال مختلفة. أقله أفراد ينقلون الوقائع والأسماء لمن أرسلهم. وهناك أيضا مندسون "يحق لهم الحضور" أثناء التحرك العام، لأنهم في نهاية المطاف جاءوا ليعبروا عن وجهة نظر مخالفة أو حتى مضادة، أو لكبح جماح شيءـ أو حرفه بما يتناسب وهواهم... الى آخرِه يعني اقرب الى "مجموعة الضغط" العملية . 

-    هل المندسين هم "الزعران"، أو غير المنضبطين بما يريده المنظِّمون؟ ليس دائما. فقد يكون بعض المندسين أنيقاً وقد يكون بعضهم هادئا. بالمقابل، هل "الزعران" مندسونّ؟ غالبا ليسوا كذلك...

-     هذه كلها محاولة  لقول عمومية الكلمة واحتمالاتها، من ناحية منهجية ومبدئية على الأقل. ويتوقف اهتمامنا بهذا الجانب الأمني (بمعناه الواسع ) هنا، وقد سجلنا وجوده متعدد الأشكال. 

-    مع هذه النقطة التعريفية، فثمة نقطة أخرى استطرادية، وهي انه لا يمكن ضبط تحرك عام واسع ولا السيطرة عليه تماما. فهو مذ يخرج الى الشارع يصبح ملكاً للشارع، تماما مثلما هي الأفكار حين تخرج للناس تصبح ملكهم وليست ملك صاحبها أو مطلِقها، يتبنونها ويؤولونها أو يحمّلونها ما يشاؤون، بحسن نية أو بسوئها. واستطرادا أيضا، وبما لا يحل هذا "الإشكال" الموضوعي، تأتي من هنا أهمية الاستعداد المسبق عبر لجان انضباط:  ودية ولا تقلِّد البوليس في القمع والتقريع والتسلط (فهذا فظيع وهو فشل)، وتتوافق مسبقا على حدود تدخلها وغاياته. لا توجد مظاهرات ناجحة بلا هذا في أي مكان بالعالم، وهو يتطلب تنظيم مسبق وشفاف، أساسه الاتفاق السياسي، واعتبار أن هناك بالطبع: 1 - تدخلات من السلطة ومن القوى المعادية، وعكس ذلك سذاجة. وكذلك اعتبار أن هناك 2- مجال للاختلاف والجميع ليسوا واحدا، ولا يوجد  مصيب ومخطئ مطلقين. و3 - الاعتراف أن التوازن بين وجهات النظر يُتفق عليه بتنازلات متبادلة للوصول الى توافق consensus/ و4- أن وجهات النظر مفتوحة على الصراع، وهذا ليس عيباً، فالصراع هو السياسة، والسياسة هي عكس ما ظنه بعض القوم (في "طلعت ريحتكم" مثلا)، مِن أنها مؤامرات لقوى حزبية غامضة تريد أن "تسرق" التحرك الخ.. مما سمعناه كثيرا أيضا هذا الصيف، وكان غريبا في سذاجته، بأحسن الأحوال.. ليس لأنه غير قائم، بل بالعكس لأن ذلك هو القانون العام، ومن لا يريد القبول به فعليه أن يُعلّب تحركه أو يحجزه في فيسبوك.

ثانياً:

-    فلنعد الى المندسين الذين أشير إليهم في تحركات هذا الصيف. بدا التعبير وكأنه يعيّن الشباب الذين سريعا ما نزلوا من حارات قريبة (الخندق الغميق أو سواها)، يسكنونها عشوائيا ربما أباً عن جد. جاؤوا بعد أول اشتباك عنيف مع قوى البوليس، فالاشتباك اختصاصهم! افتُرِض أنهم من جماعة حركة "أمل" وان القصد بداية كان مزيد من التهجم على السراي، رمز الحكومة/ السنة.. (انتبهوا إلى الاختصارات والإحالات التي توزِّع المناصب وفق نظام إقطاع سياسي طائفي مباشر وبدائي، متخلص أكثر فأكثر من أي كساء ومن أي تعقيد وتشابك). وفي أيام لاحقة، اتُهموا بأنهم هنا لمنع إحراج نبيه بري ومجلس النواب الخ (رمز السلطة الشيعية).. هناك حتما بين هؤلاء وسواهم (ممن لم يظهر لأنه "مندس" قدير وشكله ليس "مغايرا")، من كان مطلوباً منه كل هذا. طبيعي. وافتراض غيابه هو غير الطبيعي.

-     لكن هل هذا كل شيء؟ الم يكن في تعيين الشباب المغايرين، بسبب 1- ملبسهم (أو عرّيهم) 2- و2- أوشامهم وحركاتهم والفاظهم و3- جرأتهم على الاشتباك وعلى إشعال النار، وعلى صناعة مولوتوف (ولو كان بشكل يفتقد للإتقان)، و4- عدم معرفة المنظمين بهم، وانعدام طاعتهم لهم (سماعهم للكلمة) الخ.. إلاّ أنهم "مندسون"؟ الم يكن هؤلاء، كما قالوا هم أنفسهم بعد مرور "سوء التفاهم" الأول،  مرشحون طبيعيون للمشاركة، بحكم واقعهم المعيشي وبحكم معاناتهم المستمرة؟ نعم بالتأكيد. وبلا أي وقوع في الملائكية angélisme. والاهم: هذا الصعيد من فكرة "الاندساس" أحال فورا ما يجري من حراك بكل تعقيداته  إلى انشطارات النظام نفسه، أو طابقه معه .

-    ولكن هناك صعيد آخر هو ما يمكن تسميته بالطبقي والاجتماعي. هؤلاء فقراء معدمون، عاطلون عن العمل أو يمارس بعضهم (من المحظوظين) أحيانا أعمالا غير نظامية informelle . حتى مخدراتهم غير مخدرات أبناء الطبقة الوسطى! السؤال المطروح: لماذا أثاروا الاشمئزاز؟ ولماذا لاقت التهمة الموجهة إليهم هوى بشكل عام في أوساط معينة ربما تعبّر عنها نشرات التلفزيونات مثلاً؟ ليس لأنهم شيعة ولا لأنهم من عند نبيه بري. بل لأنهم يمثلون خروجاً على الموجودين في ساحة الشهداء ورياض الصلح، أصحاب الانتماء الذي أصروا هم انفسهم على خصائصه منذ البداية، وهو انتماء مطمْئِن، مفهوم ومريح. مجددا، ما يُفترض أنه الطبقة الوسطى: الشباب المتعلمون والمهذبون والمتشابهون في حركاتهم وألفاظهم وملابسهم، المدنيون والمدينيون، المشتركون في "كود" معلوم رغم التفاوتات الطبقية والمناطقية والمذهبية الفعلية بينهم. 

-    ولذلك صلة "خفية" بالاصرار على صفة "اللبنانية" (التي دوختنا أثناء التحرك!). هذه استُعملت كدرع، وفي هذا أيضا إقصاء للآخرين من غير اللبنانيين المقيمين، أو من غير الاصلاء. وهو مفهوم شبه فاشي . ولكن الاستخدام تجاوز هنا حتى هذا المعنى لأنه التبس واختلط بالبعد الطبقي لهؤلاء اللبنانيين من ذوي الشروط الرثة، فبدا وكأن هناك "لبناني" تعريفا، قد لا تطابق ملامحه الفلاح المعدم النازح من أرضه إلى الأحياء العشوائية في محيط المدن الكبرى وخاصة بيروت، أو العاطل عن العمل الخ..  وهذه صورة ذهنية عن اللبناني، وهي مهيمنة، بينما اللبناني الفعلي معتّر وشبه أمي وفقير، إذا اعتدّينا بنسب العدد والأكثرية. 

-    ثم أن هؤلاء الشبان الرثين تجرئوا على الحضور والاختلاط بأبناء الطبقة الوسطى، وبل طمحوا إلى احتلال واجهة المسرح، بينما هم، ولو أنهم أكثرية عددية مؤكدة، عادة مخفيون /hidden invisible.  وهذا كان مصدر استفزاز  كبير!!

ثالثاً وأخيراً:  

هناك إشكال كبير وهو يتعلق بناحيتين. 

-    الناحية الأولى أن الشريحة الاجتماعية المعدمة تتعاظم. تذكروا أن إباء هؤلاء المعدمين لم يكونوا كذلك، بل على الأغلب كانوا مزارعي تبغ مثلا في الجنوب. وهذا تعبير عن مأزق البنية القائمة، لأنه يفترض إننا نتقدم ونتطور ونتحسن الخ. فلما يصبح هناك 9 ملايين إنسان من أصل 20 مليون في القاهرة وحولها يعيشون في العشوائيات وقسم كبير منهم بلا عمل، ولما تُباع مصانع "المحلة الكبرى" كعقارات وتُفلس عمدا.. ويُخلى الريف المصري  (أو سواه) ولا يُهتم بالإنتاج الزراعي لصالح استيراد القمح والأرز والقطن، أي الأساسيات، .. ولماذا في المدينة الثانية في لبنان، طرابلس، 58 في المئة من السكان عند أو تحت خط الفقر حسبundp  وليس حسب "الشيوعيين". ولماذا هكذا هي الحال في تونس والمغرب والجزائر والعراق، ولماذا  هناك 35 في المئة من السعوديين فقراء.. رغم انه بين هذه، دولٌ نفطية غنية أو دول مستقرة الخ.. هذا يطرح سؤال عن طبيعة العملية الإنتاجية القائمة. بمعنى آخر، اليوم، وحتى في الدول الصناعية الكبرى،  يتقلص عدد العمال في المصانع، ويزداد عدد العاطلين عن العمل أو الذين لم يعملوا أبداً في حياتهم، وينقرض الفلاح والمزارع.. لصالح توسّع القطاعات المالية أو رأس المال المالي والمضارِب، وهو الذي يجني أعلى الأرباح. وهذا يتم لصالح العولمة، بما هي عبور الرساميل وطيرانها حسب اللحظة، وبحثها عن "الضربة" المأمولة، ولصالح صناعات الحروب وما تنتجه من أسلحة متطورة باستمرار.. ويجري انتقال المصانع إلى بنغلادش أو إلى أماكن أخرى من البلدان الفقيرة. يعني تتقلص أعداد من يشاركون في العملية الاقتصادية الإنتاجية، ويتوسع عدد من يشاركون في الإنتاج الطفيلي الموجه للاستهلاك الثانوي، وهو المهيمن والمربح. هناك إذا أزمة عامة، ومنها أزمة الطبقة الوسطى في العالم كله التي تتقلص وتعاني من إفقار متعاظم.

-     في بلداننا الطرَفية، المشاركون في العملية الإنتاجية أقل وأقل. انتشرت عمليات التحويل الصناعي على طريقة "الأوف شور"، وهي مرتبطة تماما بتلك الحركة العالمية ولم يعد فيها أي ضابط أو معيار محلي (الحاجات أو الإمكانيات). وتظهر الأزمة أكثر مع انهيار الريوع النفطية، فتتعرى قدرة بعض السلطات على توزيع الفتات لسكان البلاد أو على"مساعدة" بلدان أخرى (وهذه المساعدات "ريع" سياسي) . ولكن هناك ريوع أخرى من نوع مختلف تسيطر: المضاربة العقارية، التوسط والتحويلات وعمليات الاحتيال والاختلاس الواسعة، وتجارات المافيات من مخدرات وسواها. خراب متعاظم.

-     يُنتج هذا سلطات ضعيفة لا تملك خطاب اجتماعي، تقمع بشكل عاري ومتخبط، وتكذب بلا توقف، لأنها تريد أن تدير الأمور فحسب وبالتي هي أحسن. فليس عندها تصور للشأن العام والمجال الاجتماعي، بل يتحول معظم السكان وحتى أغلب المدن إلى عبء عليها. أسميتها في احدى مقالاتي سلطات رثة. هذا بدأ في بلادنا منذ ما قبل الألفية الثالثة، وكان إبنا مبارك مثلا من رموزه وكذلك بن علي في تونس... التخلي عن الناس، تصفية مشاريع التصنيع أو الزراعة، تردي التعليم وانسداد الأفق أمام الكتلة الأكبر من الخريجين (ما عدا جزء ممن يدرس في الجامعات الكبرى الخاصة وهؤلاء ينتمون لشريحة محددة على الأغلب الأعم)، والتخلي عن المسئولية عن المجتمع، وانهيار تام في الخدمات العامة لصالح خصخصة هي في الواقع نهباً سريعا لما يمكن استخراجه من البلاد. وهؤلاء الأثرياء / الحكام منفصلون عن المجتمع وعن البلد انفصالاً شبه تام. بل هم يعيشون في معسكرات/compound  مسيجة ومعزولة. هذا جعل أبناء الطبقة الوسطى من الشباب يشعرون بالخطر الحياتي، ومعه بالاهانة لأنهم باتوا هم أيضا وليس فحسب الفقراء، زائدين عن الحاجة، غير موعودين بالمستقبل، ويتعاظم إهمالهم. لذا امتلأ ميدان التحرير في مصر بهم بالأساس، ورُفِع شعار الكرامة الى جانب الخبز والعدالة الاجتماعية.

-    يعني انتم يا شباب مرشحون لتصبحوا "مندسين" بالمعنى الاجتماعي خلال وقت قليل. وهناك ترابط بين منظومة المحلي والعالمي لم تكن يوما بوضوح ما هو عليه الآن. الترابط بهذه البنية أو النمط الاقتصادي، سياسي وفكري وبيئي وثقافي كذلك. والمفارقة انه بمقدار ما يبدو النظام السائد معقدا وهلامياً، بمقدار ما يجري فعلا تبسيط له بمعنى schématisation ، وهي تعبير عن تقلص الإنتاج. وهذا هو الخراب الذي تدفع إليه الرأسمالية في طورها الراهن، وقد تجاوزت الاستغلال لتصبح تهديدا مباشرا وجديا للحياة. انظروا التلوث البيئي والأمراض الناتجة عن التلاعب بقصد الربح بكل شيء، والاستعداد لتعميم الحروب. 

وصل الأمر إلى حد الخطر الوجودي المباشر، وليس البؤس فحسب.. ألا تعبِّر الزبالة المتراكمة في الشوارع، فعلياً ورمزياً، عن هذا الادقاع والتخلي في آن؟

مداخلة في ندوة في الجامعة الأمريكية في بيروت، بتاريخ 12-11-2015


وسوم: العدد 5

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...