سلفيّو السعودية: خارطة التهميش والتأثير

ليس للسلفيين في السعودية بكافة أطيافهم، سواء كانوا في المؤسسة الدينية الرسمية أو خارجها، سلطة نافذة على القرارات، بل هم نافذة السياسي لتمريرها: هنا شرح للحدود والتكتيكات والمصالح المتبادلة
2017-03-27

عبدالله الدحيلان

كاتب من السعودية


شارك

في تسعينات القرن الماضي، وتحديداً إبّان حرب الخليج الثانية، استنفر بعض رجال الدين السلفيين للتحذير مما اعتبروه خطوات تغريب تستهدف المجتمع السعودي "المحافظ". جرت وقتها مساجلات حادة مع الدبلوماسي والأديب الدكتور غازي القصيبي. وهم كانوا يحرصون في خطبهم على التحذير بعدم المساس بنظام التعليم ومناهجه، أو التعرض للشرطة الدينية المسماة "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وعلى ذلك أكدوا على أهمية إعطاء "كبار العلماء" دوراً أوسع في الوصاية على اتخاذ القرار السياسي، في تطلع إلى خلق ولاية فقيه "سنية" على غرار نموذج الحكم الإسلامي في إيران. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، قامت السلطة بالقبض على رموز ذلك الحراك، وأصدر كبار العلماء الذين كان هؤلاء يطالبون بتوسيع هامش نفوذهم بيان تأييد للإجراء الأمني واتهموا من اصطلح على تسميتهم بـ "شيوخ الصحوة" بإثارة الفتنة.
وبعد إحدى عشر عاماً من تلك الجلبة وما لحق بها، صدر عام 2002 قرارٌ يقضي بإلغاء "الرئاسة العامة للبنات" ودمجها "إدارياً" بوزارة التربية والتعليم (أصبح مسماها حالياً وزارة التعليم)، وهو ما اعتبر نكسة وخسارة فادحة للتيار السلفي بكافة أطيافه، لجهة استمرار الفصل التام بين الرجال والنساء في سلك التعليم، بخاصة أن هذا الدمج ترتّب عليه تغيرات واسعة في المناهج الدينية. وبعد أربعة عشر عاماً، تمّ في 2016 إلغاء أهم صلاحيات "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، لتتحول من جهة ضبط تتمتع بصلاحيات، إلى جهة وعظية لا دور لها في الشارع، تمهيداً لدمجها مع إحدى الوزارات. وبالطبع لم يمنح كبار العلماء أي ميزة لممارسة وصاية على القرار السياسي كما كان يتطلع المتدينون.
أي أن أهم مؤسسات السلفيين أو تلك التي يسيطرون عليها، لم تعد تمارس دوراً فعالاً، ما يطرح سؤال: ماذا بقي من تأثير السلفيين في المؤسسة الدينية وخارجها في اتخاذ القرار في السعودية؟

 

انتهت ثنائية الشيخ والأمير

 

يسقط من يد الكثيرين عند توثيق الشأن السعودي أن منصب المفتي العام تم إلغاؤه بقرار من الملك فيصل عام 1969، وهو المنصب الذي يعادل المرشد الأعلى في النموذج الإيراني من ناحية الحفاوة الرسمية والفقهية وتمثيل رأي الدولة بالشأن الديني، إلا أنه بالتأكيد لا يمتلك أية صلاحيات سيادية وعسكرية كحال مرشد إيران. وعندما عاد المنصب في منتصف تسعينات القرن الماضي، تولى رئيسه الجديد عبد العزيز بن باز مهمة الدفاع عن سياسيات الدولة المحلية والخارجية، وتحديداً مواجهة السلفية الحركية المتمردة بعد غزو العراق للكويت، والتي تطمع بشراكة أكثر عمقاً مع السلطة في اتخاذ القرار واستعادة نموذج النسخة الأولى عند التأسيس، وذلك عندما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يتشارك إدارة شؤون الدولة مع الأمير محمد بن سعود.

ثنائية الشيخ والأمير هذه لم تعد حاضرة في النسخة الثالثة للحكم بالسعودية، إذ تم إحلالها ضمنياً وإجرائياً في مؤسسات نابعة من النموذج الحداثي الغربي في شكل وطريقة إدارة الدولة، وتم إعطاؤها شكلاً آخراً ذي دلالة رمزية عبر دمج العنصر الديني بالسياسي، من خلال اعتماد رواية ذات صبغة دينية عن أسباب وأهداف قيام الكيان.

 

بعض رجال الدين السلفيين (...) أكدوا على أهمية إعطاء "كبار العلماء" دوراً أوسع في الوصاية على اتخاذ القرار السياسي، في تطلع إلى خلق ولاية فقيه "سنية" على غرار نموذج الحكم الإسلامي في إيران

 

هذا الإحلال كان حتمية ضرورية في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية التي تنبه لها المؤسس عبد العزيز فانساق خلفها لتحقيق مصلحته في حكم الرياض. لذلك نشب بينه وبين الحرس القديم المغرم بفكرة الإمبراطورية الإسلامية وإلغاء فكرة الحدود الوطنية معركة حسمت عام 1929 وهي تعرف بـ "معركة السبلة". ومنذ ذلك اليوم، تخير المتدينون في السعودية مواقعهم، عبر الركون إلى نظرة سلفية تقليدية قائمة على الوقوف مع المتغلّب الأقوى للمحافظة على المكتسبات الجماعية أو الفردية. هذا الموقع جعل تأثير المؤسسة الدينية ينصاع دائماً إلى التوافق مع السياسي وإن لم يكن بالأمر صواب. لم يجعل هذا التموضع المؤسسة الرسمية تفقد أدواتها في ممارسة الضغط "سراً" وفق مبدأ "مناصحة" ولي الأمر، بهدف العدول عن قرار تم اتخاذه إن أمكن، أو على الأقل القبول بالتعديل على القرار عبر تذييله بعبارة فضفاضة هي: "ينفذ وفق الضوابط الشرعية". ورغم الرضا بهذا الفتات من المشاركة، إلا أن السياسي حريص على تحجيم تلك المؤسسة وأفرادها أمام قراراته. وكان نتيجة ذلك ما لحق بعدد من أعضاء المؤسسة الرسمية الذين اتخذوا مواقف علنية معارضة لبعض القرارات التي تحظى بدعم مباشر منه، مثل: الاعتراض على الهواء مباشرة على نظام التعليم المختلط في جامعة "كاوست" وهو ما تسبب في فصل سعد الشثري من عضوية هيئة كبار العلماء. أو رفض تعيين المرأة في مجلس الشورى وحق الترشيح والانتخاب في المجالس البلدية في أحد برامج الإفتاء، والذي أدّى إلى عزل رئيس المجلس الأعلى للقضاء وأيضاً عضو هيئة كبار العلماء صالح اللحيدان. وأخيراً، انتقاد أنشطة هيئة الترفيه التي أعادت النشاط الغنائي للداخل، والذي تشير مصادر أنّه السبب وراء إيقاف الظهور التلفزيوني لما يزيد عن شهر لأعلى الهرم في المؤسسة الدينية الرسمية، وهو مفتي الديار عبد العزيز آل الشيخ.
والأمر لم يتوقّف عند هذا الحد، بل كان دائماً ما يتم الإشارة إلى أهمية قيام العلماء بدورهم في "توجيه الشباب وبيان حرمة الإرهاب والالتحاق بالتنظيمات المتطرفة"، وكان طرح ذلك الرأي يتم بلغة هادئة وغاية في اللطف. ولكن جاءت القشة التي غيرت لغة الخطاب تماماً، وذلك عندما طالبهم الملك عبد الله بلغة حادة بضرورة التصدي لظاهرة الإرهاب، بل ووصفهم بأنهم مقصرون ويجب أن يتخذوا موقفاً حيال ما يجري. وكان ذلك التصريح الذي أطلقه الملك وقتذاك في ديوانه وأمام شاشات التلفزيون، رسالة واضحة بأن المؤسسة الدينية الرسمية هي ضمن منظومة الدولة وليست مستقلة عنها، ومطالبة بتنفيذ مهامها كباقي المؤسسات التي تتلقى الرعاية والدعم من قبل الحكومة مقابل وظائف ومهام هي مطالَبة بتأديتها.

 

السلفية الحركية والسلفية العلمية

 

مخطئ من يعتقد أن المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية قوية لدرجة أن السياسي لا يمرر قراراً دون الرجوع إليها لأخذ موافقتها، فهذا غير صحيح البتة. والصحيح أن من ينبرون لمناكفة بعض القرارات و"الاحتساب" عليها بصوت عال طيف آخر، وهم المنخرطون في تنظيمات سياسية دينية (كالتنظيمات السلفية المتخرجة من عباءة الإخوان المسلمين)، كونهم لا يتوافقون مع المنهج والمدرسة التي تتبعها المؤسسة الرسمية في ترجمة اعتراضها بـ"المناصحة السرية" كحل لكل الملفات والقضايا. لذلك حدث الانشقاق الأبرز عند قيام حرب الخليج الثانية وما تلاها، حيث لجأ دعاة هذه التنظيمات للاعتصام في المساجد وكتابة العرائض الشعبية لتسجيل المواقف والمطالبة بمجموعة من التغييرات، وهم وإن لم يكونوا في انتظار دعم وتأييد شيوخ المؤسسة، إلّا أنّه وبحسب اعترافات بعضهم بعد الخروج من السجن، لم يدر بخلدهم صدور بيان تأييد إيقافهم الذي حمل أوصافاً وعبارات ظلت تلاحقهم من قبل مناوئيهم حتى الآن.
وعلى الرغم مما يبدو عليه الحال من انقسام بين السلفية الحركية والسلفية العلمية الرسمية، إلّا أن هؤلاء الحركيون يقفون على مسافة واحدة من "العلماء" في مسألة الركون إلى السلطان المتغلب الأقوى ضد السلفية الجهادية التي تضع تطبيق فهمها للشريعة في قمة الأولويات. وهو ما يفسر سبب استنفار الحركيين قبل المؤسسة الرسمية ضد دعوة السعوديين للتظاهر تماهياً مع انتفاضات الربيع العربي، وذلك خلافاً لمواقفهم في مصر وليبيا وسورية.

 

حدث الانشقاق الأبرز عند قيام حرب الخليج الثانية وما تلاها، حيث لجئ دعاة هذه التنظيمات للاعتصام في المساجد وكتابة العرائض الشعبية لتسجيل المواقف والمطالبة بمجموعة من التغييرات

 

وهذا يؤكد أن الحركيّين يدركون سقفهم وحدود تباينهم مع السلطة وأذرعها، فهم لا يريدون أي تغيير يسقط عنهم الكثير من الامتيازات الشعبية والوجاهية والاقتصادية التي يتمتعون بها الآن في حالة الاستقرار، والتي سيتم فقدانها عند وقوع تغير سياسي مجهول المصير، سيكون أحد أبرز ملامحه ظهور طبقة جديدة تستفيد من النفوذ والمصالح، وبالتالي من التأثير في الرأي العام. مع الإشارة أنهم على الرغم من كثرة تذمرهم من وجود "منكرات" و"مخالفات شرعية"، إلا أن السياسي ترك لهم مساحات واسعة للتحرك من خلال استمرار تجمعاتهم وإقامة أنشطتهم ومواصلة تغلغلهم في مؤسسات الدولة ومناصبها القيادية. وهي مناورة تتم تحت مرأى السياسي، وهم يدركونها، لذلك يفضلون البقاء على حالهم دون وقوع الفوضى وفقدان كل شيء. على الجانب الآخر، فإن عدم توافقهم مع المؤسسة الدينية الرسمية لا يمنع من كونهم حريصين على إظهار جانب من التوافق في القضايا المصيرية، كالتنصل من تهمة الإرهاب وتسخير المنابر والوسائل للتحذير منه، مع اعلان التقدير والحفاوة بتلك المؤسسة، وذلك لتفادي معاودة استثمار هيبتها في توجيه سهامها إليهم كما حدث في تسعينات القرن الماضي، ونفيهم شرعياً واجتماعياً إضافة إلى تبرير زجهم بالسجون إن احتاج السياسي لذلك.

سيكون الأمر ملتبساً لمن ينظر إلى السلفية كحركة ثورية متمردة، بينما هي متعددة الأطياف ويتمتع غالبية أفرادها في السعودية بالواقعية في التعامل مع الأحداث. ففي المؤسسة الرسمية يقبلون استخدامهم من قبل السياسي لتمرير قرار ما، وفي حال لم يرغبوا في التأييد لجئوا إلى الصمت والمناصحة السرية إبراءً للذمة، وكل ذلك ما دام نظام الحكم قوياً ومتمسكاً بالمظاهر الإسلامية العامة، ولم يأت بـ "كفر بواح" كما تنص على ذلك أدبياتهم. وينطبق ذات المعيار على الحركيين الحريصين على عدم تكرار تجربة من سبقهم في الداخل والخارج والوقوع في شرك العنف، خشية طمسهم وتجريمهم في الذاكرة بوصفهم بـ"الخوارج" و"الفئة الباغية"، وهو الخيار الذي لا يمثل أي منفعة شخصية لهم أو لأفكارهم، بخاصة أن المناخ خارج السجن سيكون أجدى وأنفع لممارسة أنشطتهم التي تقام تحت مظلة رسمية.

 

التكتيك.. خلاصات

 

يستطيع أي مستقرئ للشأن السعودي إدراك حجم تأثير المؤسسة الرسمية أو التيارات السلفية الحركية في الحوار الهامشي في الشأن الاجتماعي المحلي، حيث نجد، مثلاً ــ عندما صدر قرار بتجريد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صلاحياتها ــ حرص كبار العلماء على التأكيد بأن القرار ستتم إعادة تفسيره وتوضيحه لاحقاً، فلا داعي للقلق، وأن الأمر لا يتجاوز تعديلاً إدارياً سيصب في المصلحة العامة. ومثال آخر: ظلت المؤسسة الرسمية ممثلة في أعضاء هيئة كبار العلماء تتجنب التصادم مع السياسي في الاعتراض على أنشطة هيئة الترفيه، بالدعوة إلى طرح فكرة الاستفتاء على قرار فتح دور للسينما وإقامة الحفلات الغنائية، لبيان رفض المجتمع لها. ومن خلال المثالين السابقين، نجد أن هذا التنازل رافقه تعويل على المجتمع للقيام بدوره في إنكار ما تراه شريحة منهم بأنه منكراً، وفق آلية البرقيات والفاكسات والخطابات المعدة سلفاً من قبل السلطة لتلقي الشكاوى، دون أن يتجاوز الأمر ذلك.

 

الحركيون يدركون سقفهم وحدود تباينهم مع السلطة وأذرعها، فهم لا يريدون أي تغيير يسقط عنهم الكثير من الامتيازات الشعبية والوجاهية والاقتصادية التي يتمتعون بها الآن في حالة الاستقرار، والتي سيتم فقدانها عند وقوع تغير سياسي مجهول المصير، سيكون أحد أبرز ملامحه ظهور طبقة جديدة تستفيد من النفوذ والمصالح، وبالتالي من التأثير بالرأي العام

 

وهنا تستثمر التيارات السلفية الحركية هذا الخطاب فتتولى بقية المهمة وتقوم بتعبئة الجماهير ضد القرارات، والدعوة إلى ممارسة دورها في المخاطبة والمراسلة، وعلاوة على ذلك بتحذير عوام الناس عبر المنابر الدينية والإعلامية والاجتماعية من خطورة هذه الخطوة وتبعاتها، أو دعوتهم إلى حث أنفسهم وأهلهم على مقاطعة تلك الأنشطة حتى لا تحل العقوبة الإلهية بهم. وكل ذلك يتم دون تجاوز نقطتين: الأولى، عدم الطعن في شرعية الدولة التي تقوم روايتها الرسمية على حماية الإسلام ومصالح المسلمين، والثانية، التأكيد على أن السياسي لا يرضى بما يحدث وحالما تقوم فئات المجتمع بإيضاح الأمر له سيتخذ القرار المناسب.

إذاً، السلفيون سواء في المؤسسة أو خارجها، ليس لهم سلطة نافذة على القرارات، بل هم نافذة السياسي لتمرير القرارات في المؤسسة الرسمية الدينية. وكذلك الحركيون يرفضون التجاوز ضد القرارات وإن لم يقبلوا بها، ويكون هدفهم هو التركيز على المجتمع لإفشال المشاريع، عبر تحصين الجبهة الداخلية من خلال توحيد مواقف الكوادر والأتباع ضد القرار. نجد في المحصلة أن تأثير السلفيين منصبّ في إطار التفاعل الاجتماعي فقط، والذي سرعان ما يُمحى حينما يدلي السياسي بقراره لحسم جدل ما، كونه من يمتلك الصلاحيات ويحتكر حق التشريع والتنفيذ. ما يعني أن تحجج السياسي بوجود معارضة اجتماعية لأي قرار كان، لا يعدو أن يكون استهلاكاً للوقت وإشغالاً للمتحمسين وتأصيلاً لمبدأ رفض الاستجابة للضغوط.

مقالات من السعودية

خيبة م ب س الاقتصادية

كان النزاع المدمر على سوق النفط، ودور السعودية - وبخاصة محمد بن سلمان- في تأجيجه، مقامرة وحماقة في آن. فإن كانت السعودية تخسر 12 مليون دولار يومياً مقابل كل دولار...

للكاتب نفسه