ميناء قبرصي لأهداف إنسانية ومن أجل الاستقرار الجيوستراتيجي

انطلقت سفننا من ميناء لارنكا القبرصي مرّات عدة، أولاها كانت العام 2008. الوجهة الّتي وصلنا إليها كانت تستحقّ العناء: غزة. في ذلك الوقت لم يكن الاغريق (اليونانيون والقبارصة) يتورّعون عن إظهار تعاطفهم مع العالم العربيّ وتضامنهم مع الشّعب الفلسطينيّ الّذي يرزح تحت احتلال عنيف. في قبرص، أحسّ المتضامنون اليونانيون والأجانب، الّذين صعدوا على متن السّفن الذّاهبة إلى غزّة، بصدق دعوات القبارصة لهم
2015-06-06

فانغليس بيسياس

دكتور في العلاقات الاقتصاديّة الدّوليّة، ويعمل منسّقاً لعدد من المبادرات الدولية: (Ship to Gaza)، و(أسطول الحرّية)، و(Peace in Syria).


شارك
| en
صيادو سمك فلسطينيون في ميناء غزة

انطلقت سفننا من ميناء لارنكا القبرصي مرّات عدة، أولاها كانت العام 2008. الوجهة الّتي وصلنا إليها كانت تستحقّ العناء: غزة. في ذلك الوقت لم يكن الاغريق (اليونانيون والقبارصة) يتورّعون عن إظهار تعاطفهم مع العالم العربيّ وتضامنهم مع الشّعب الفلسطينيّ الّذي يرزح تحت احتلال عنيف. في قبرص، أحسّ المتضامنون اليونانيون والأجانب، الّذين صعدوا على متن السّفن الذّاهبة إلى غزّة، بصدق دعوات القبارصة لهم بالتّوفيق. ففي هذا البلد ما زالت ذكريات الغزو والاحتلال الّذي طال قسماً كبيراً من أراضيه حاضرةً في أذهان أبنائه.
بعد مرور عامين، تغيّرت نظرة الاغريق الجيوسياسية تغيّراً جذريّاً، فأصبحت السّياسة الخارجيّة لكلّ من اليونان وقبرص أمْيَل إلى "المصالح التكتيكية" منها إلى المصالح الإستراتيجية. صار النّهج المتّبع هو التّعامل مع السّياسة من منطلق "عدوّ عدوّي صديقي"، وصارت علاقاتهم الإقليميّة الدّوليّة أسيرة هذا النّهج، بينما غرقت في بحرٍ من النّسيان صداقاتٌ امتدّت طويلاً، وصارت الإشارة إلى تلك الصّداقات مجرّد كلامٍ أجوف يُتفوّهُ به فقط عندما تتطلّب الأعراف الديبلوماسية ذلك. في الفترة نفسها، كانت تركيا في طريقها الى تحقيق الاستقرار السياسيّ والنّهوض الاقتصاديّ داخلياً، لتبدأ مغامرةً قائمةً على الرغبة في السيطرة على العالم العربي الإسلامي، من دون أن تخفي تلك النوايا. وفي الفترة نفسها أيضاً (العام 2009) حدثت قطيعةٌ بين تركيا وإسرائيل لم تشكّل خطراً سياسيّاً على أيّ من قبرص أو اليونان، لكنّها لعبت دوراً فيما حدث من إخلال بالتوازن الجيوسياسي في العالم العربي الإسلامي، وما تلى ذلك من دمار كانت أبرز ضحاياه دولٌ كسوريا وليبيا، وغيرها. هل نستطيع الافتراض أنّ دور الإغريقيّين على السّاحة الإقليميّة الدّولية تراجع في تلك المرحلة بسبب أزمتهم الاقتصاديّة؟ أم أنّنا خُدعنا بوهم الحصول على دعم ديبلوماسي واقتصادي وعسكريّ ربّما، من صديق عدوّنا - لنتذكّر أن إسرائيل وتركيا كانتا متحالفتين استراتيجيّا حتى العام 2009 - الّذي أصبح عدوّ عدوّنا، أي صديقنا؟ هل هناك من يصدّق أنّ قادة السّياسة الإغريقيّة صدّقوا الوعود البرّاقة بالحصول على دعمٍ ديبلوماسي فعّال من الحليف الجديد، وبالتّوسّط بينهم وبين مؤسّسات النّقد الدوليّة بما يملكه من نفوذ فيها على مبدأ الاستثمار المشترك لكنوز البحر، سواءً كان وجود هذه الكنوز حقيقيّاً أم نظريّاً؟
هذا النص لا يسعى إلى تقديم إجابات تفصيليّة على هذه الأسئلة، ولا إلى تقييم سياسات الحكومات اليونانيّة والقبرصيّة السابقة من باب مقارنة ما قدّمته بما عاد عليها. بل وببساطة الى تسليط الضوء على تبعات خسارة الإغريق تدريجيّاً لمكانتهم السياسية في بلدان الشرق الأوسط (الّذي تلفّه نيران الحروب اليوم)، وعلى تبعات انقطاع الصداقة التاريخية مع شعوب الشرق الأوسط المعذّبة. كما تسليط الضوء على خطر تمدّد العنف الجنونيّ على أمن مواطني اليونان أنفسهم. في هذا السّياق، يجدر التركيز على أهمّيّة اتّخاذ مبادرات مناسبة ومتأنّية من شأنها أن تغير الصّورة الحاليّة للإغريق الذين يبدون مهمّشين وغائبين عن مسرح الأحداث المتتابعة في محيطهم الأوسع، على الرّغم ممّا لهذه الأحداث من آثارٍ تدميرية على البلدان العربية وما تشكّله من تهديدٍ لهم هم أنفسهم. ما نحتاجه هو مبادرة إنسانيّة تسعى إلى تحقيق استقرارٍ جيوسياسي في المنطقة، وتختزن رمزيّة عالية، وتكون بمثابة نداءٍ نرسله بصوتٍ جهوريّ إلى العرب المسلمين الّذين نجاورهم منذ قرونٍ طويلة.
الاقتراح هنا هو مبادرة ناضجة تصل الأراضي القبرصيّة بالأراضي الفلسطينيّة، مبادرة قوامها "العمل والحبّ" تربط ميناءين: الأوّل يمكن أن يكون عبارة عن "منطقة حرّة" تدار دوليّاً في لارنكا القبرو - يونانية (أقرب منطقة في الاتحاد الأوروبي إلى فلسطين)، والثاني ميناء صيّادي غزّة الصغير الذي استقبل قوارب الصيد الّتي تشكلت منها بعثتنا السّابقة. يمكن لمثل هذه المبادرة أن تلقى تعاطفاً دوليّاً، كما أنّ الفصائل والحركات الفلسطينيّة تدعم هذه المبادرة باعتبارها حلّاً انتقالياً من دون التّنازل عن الحقوق المرتبطة بالوصول إلى حلّ للقضيّة الفلسطينيّة إن شاء الله. أمّا من جهة الإغريق، فإنّ تنفيذ هكذا مبادرة يتوافق تماماً مع اتّباع سياسة خارجيّة مستقلة إلى أبعد الحدود، لا يعني تنفيذها تعكير صفو العلاقات البينيّة وعلاقات التّحالف، كما لا يعني تشكيل خطرٍ على الأمن القومي حسن النيّة - أي الخاضع للقوانين والمعاهدات الدّوليّة - لطرفٍ ثالث، وهو ما تضْمنه إدارة المبادرة دوليّا، الأمر الّذي وافق عليه الطرف الفلسطيني.
ختاماً، أشير إلى أنّ مبادرةً ديبلوماسيّة مرتبطة بفكرة ربط الموانئ يمكنها أن تكون منطلقاً لإعادة بناء علاقاتٍ ذات أصعدٍ وأوجهٍ مختلفة، تعود بفوائد كثيرة على دور الإغريق في الشّرق الأوسط ارتكازاً على أرضيّة يزيدها متانةً التاريخ المشترك الطّويل.
ملاحظة: نحن بصدد إرسال بعثةٍ جديدة لكسر الحصار المفروض على غزّة من البحر في أواخر الرّبيع، فلعل أخباراً جيّدةً تغيّر مخطّطاتنا وتنفي الحاجة إلى هذه البعثة.