موسيقى "الرّاب" في تونس: فن أم مُقاومة؟

ماذا بعد محمود درويش؟ موسيقى "الرّاب". أجل. وما الغريب في ذلك؟ نُنبه إلى أننا هنا أبعد ما يكون عن التنظير لنهاية الشّعر. لكنها مُقتضيات المرحلة يا سادة، حتّمت أن تتبدل أغراض القول وأساليبه. لا وقت للنّظم. لا وقت للنّحو. لا وقت للتنضيد. لا وقت للإبهام، والإلهام. وحتى ينتهي درويش من إعداد قهوته وإحكام ربطة عنقه، يكون الأوان قد فات. الهجاء؟ لا يكفي. نحتاج إلى شيء أكثر فتكا. وربما أكثر فُحشا.
2013-10-20

أيمن الدبوسي

كاتب وأخصائي في علم النفس، من تونس


شارك
| en
مغني الراب التونسي الشهير "الجنرال" (أ ف ب)

ماذا بعد محمود درويش؟ موسيقى "الرّاب". أجل. وما الغريب في ذلك؟ نُنبه إلى أننا هنا أبعد ما يكون عن التنظير لنهاية الشّعر. لكنها مُقتضيات المرحلة يا سادة، حتّمت أن تتبدل أغراض القول وأساليبه. لا وقت للنّظم. لا وقت للنّحو. لا وقت للتنضيد. لا وقت للإبهام، والإلهام. وحتى ينتهي درويش من إعداد قهوته وإحكام ربطة عنقه، يكون الأوان قد فات. الهجاء؟ لا يكفي. نحتاج إلى شيء أكثر فتكا. وربما أكثر فُحشا. شيء يليق بالفظاعة التي تتهيأ في الأفق. علينا أن ننحت أسلحة جديدة. الكلام وجب أن يكون رشاشا، خاطفا، دقيقا، تشريحيا، ويصيب في مقتل. حُكام الأمس، لم يكن لهم ماء وجه، وإن كانوا يُحبّون المديح. حُكام اليوم، بلا وجه إطلاقا، ولا يُحبّون شيئا. وعليه، فنحن نحتاج إلى تنشيط كل معجم البذاءة حتى نكون في حجم الكوارث المُقبلة. مرحى!
إنّهم يُعَدّون الآن بالآلاف في تونس. شُبّان وشابّات لم يعرفوا "الشيخ إمام"، ولا يدخل "مارسيل خليفة" ضمن لائحة اختياراتهم الموسيقية المفضلة. لكنهم قلبوا نظاما، ونجحوا في ما فشلت فيه أجيال وأجيال من الذين تربوا على شعر "مظفر النواب" "وأحمد فؤاد نجم" وأغاني "مجموعة البحث الموسيقي" "وفرقة الحمائم البيض"... إنّهم لا يعرفون ما معنى "فن ملتزم"، لكنّهم ملتزمون بشكل راديكالي. ملتزمون بالحياة، وسبيلهم إلى ذلك هو السُّخط. إنّهم اليوم ساخطون، أكثر من أي وقت مضى. لا شيء يُعبّر عنهم. خرجوا للشوارع لأجل أن يكون لهم "مُستقبل"، فكان جزاؤهم آخرة غير مضمونة. لا شيء بات مضمونا في تونس اليوم، بعد أن صار حجيجها يحجّون إلى بيت الله بجوازات سفر مزوّرة، وتأشيرات مزوّرة. إذا، كنّا نقول بأنّهم بالآلاف، وساخطون، ولا شيء يُعبّر عنهم. إنّهم لا يُجيدون لغتين: لا العربيّة ولا الفرنسيّة. لكن لهم لغتهم "الرسميّة". ولهم لسانٌ مُفلق به يحسّون ويُعبّرون. لهم فصاحتهم وبلاغتهم الواسعة: لغة بلا قواعد إطلاقا. إنها هجينة وشاسعة. وهي ليست لسانا، بل جمهرة ألسنة. أصحابها يسمّون "كلاي بي بي جي": "حُكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر مع النفاذ، بتهمة إهانة الشرطة وخدش الحياء العام في أغانيه". "ولد الكانز": حُكم عليه بالسجن 21 شهرا بتهمة إهانة الشرطة، وذلك بعد الافراج عنه بعد أن سبق وحكم عليه بسنتين سجنا بسبب أغنية شبّه فيها البوليس بالكلاب. دون أن ننسى "حمزاوي" و"كافون" و"فينيكس" "ودي دجي كوستا" "والجنرال"، وغيرهم وغيرهم... مُغنّو فن "الرّاب" في تونس، أول خط دفاع للحفاظ على آخر ما تبقى من الثورة: حريّة التعبير. وبالأحرى، حريّة التوجّع بصوت عالٍ.
"فرويد" كان ليقول عنهم بأنّهم يُعانون من "إحباط فموي". وقد يقول عنهم علماء الاجتماع بأنهم حسب طريقة تنظّمهم وتعبيرهم ولباسهم إنما يؤسسون لضرب من القبليّة الجديدة التي تمزق النسيج الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة الحديثة. وقد يقول عنهم الأنثروبولوجيون بأنهم ينخرطون في ثقافة مُشافهة وتقليد قديم يعود إلى...إلخ إلخ إلخ... كلّها ترّهات. لدينا اليوم في تونس شبّان في السّجن، وآخرون مهددون باللحاق بهم بسبب أغانيهم، ونحن نأمر بالإفراج عنهم حالا. أتفهمون؟؟؟
لقد اتضح بما لا يدع أي مجال للشك من أن فن "الرّاب" هو أقوى وأنجع أداة مُقاومة، بعد أن فشل الشعر والمسرح والأدب في خدش قلّة حياء النظام الجديد. هذا ليس زمن الإيحاء، ولا الإشارة، ولا الإيماء. حكّام اليوم لا يفهمون الاستعارات والكنايات. ولا وقت للعَروض. نحتاج إلى فن جَبْهي. نحتاج إلى أن نُسمّي الكلب كلبا، والنذل نذلا، والشرطي شُرطيّا، والبادئ أظلم.
إن ما يُميّز فنّ "الرّاب"، في صيغته التونسيّة، ويجعله يُمثل خطرا على الديكتاتورية المُبتدئة، هو تطوّره وتفوّقه عليها من حيث الأدوات. السّلطة الجديدة لا تزال تستخدم أدوات القمع القديمة نفسها، وتُحاكم "المارقين" بقوانين النظام القديم نفسها، بعد أن فشل مشروع المحاسبة، وخاب الأمل في قيام المحكمة، ووقعت الضحيّة في هوى الجلاّد، وتلك قضيّة أخرى.
يتميّز فن "الرّاب" براهنيّته، وقدرته الهائلة على طرق الحديد وهو ساخن. هو "فن طوارئ" بامتياز، ولا يخلو من عمق. عُمقه اجتماعي. لذا، فهو فن أفقي. وكما نشأ في "غِيتّوهات" أميركا في أوائل السّبعينات، فإنه في تونس يأتي من قاع الأحياء الفقيرة والمهمّشة. وهو من حيث ذلك "فن أقليّ"، برغم الشعبيّة الهائلة التي يحظى بها في أوساط الشباب. إنّ ما يحدث من وقائع في الصّباح، يُترجمه مغنو الرّاب في اللّيل، وينزلونه في أغنيات تنتشر على "الويب" بسرعة قياسية. إن لهم قدرة عجيبة على التفاعل والتقاط الأحداث والوقائع في محيطهم المنسيّ، من ثم تضخيمها وإعادتها للواقع في شكل كرات ثلجية تتعاظم ليستحيل ايقافها أو التغاضي عنها. لفن "الرّاب" أيضا قُدرة احتجاجية وتعبويّة رهيبة. إنّه فن تجييش، سريع الانتشار، سريع الالتهاب، أقوى من العدوى. فأغنية "راب" تُنزّل على موقع "اليوتوب"، يُمكن أن تتناسخ وتحصد في أقل من ساعتين أكثر من عشرة آلاف عمليّة مُشاهدة وتخزين. إنّه فن مُنفلت، ومُستقل، ويُمثل خطرا على الجميع: شركات الإنتاج، مسالك التسويق الرسمية، نقابة الفنانين التي لم تعترف "بالرّاب" وتجد صعوبة في احتوائه، وبدرجة أولى، السلطة الحاكمة وحرّاس المعبد. إن فن "الرّاب" يؤسس لثقافة جديدة ونمط جديد من العيش، وهو ما يتعارض مع المشروع المجتمعي الذي تُحاول السّلطة الجديدة في تونس تكريسه عبر كل السّبل. فقضيّة الهُويّة، المُفتعلة، وورقة "الإسلام في خطر"، التي تتاجر بها السّلطة الجديدة لتكسب أكبر تعاطف شعبي ممكن، بعد أن فشلت في حل القضايا الحيوية واليومية التي ثار من أجلها التونسيون... هذه القضيّة الهوياتية، وقع تجاوزها من دون حاجة لإثارة أية ضجة حولها. شبّان "الرّاب" لا يُعانون من أي مشكلة على هذا الصعيد. ورغم أن "الرّاب" وافد عليهم، فقد استطاعوا "أرضنته" عبر هضمه وصهره داخل هويّاتهم الغنيّة بـ"لاتجانسها". لقد استطاع هؤلاء الشبان أن يتطوروا روحيا ونفسيا ليكونوا أبناء عصرهم. ليبقى مشكلهم الأساسي، والذي يتجلى بوضوح في مواضيع أغانيهم ـ المشكل نفسه الذي قامت لأجله ثورة 14 كانون الثاني: شغل، حريّة، كرامة وطنيّة.

مقالات من تونس

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...

للكاتب نفسه

وقفة احتجاجية لعاملات الجنس في تونس

المواخير في تونس كانت تحت إشراف وزارة الداخلية، وتحمل العاملات هناك في بطاقات تعريفهن الوطنية صفة "موظفات في وزارة الداخلية". لكن مواخير سوسة وباجة والقيروان هوجمت واحرقت. وقالت السيدة المُشرفة...

حماقات السبعين

في عيد ميلاده الثاني والسبعين، الكاتب التونسي أيمن الدبوسي: «لا زلت أشرب زجاجة ونصف من النبيذ يوميّا وأحلم بالذهاب للعيش في أميركاخصّ الكاتب التونسي أيمن الدبوسي جريدة السفير العربي بلقاء...