حياة كبيوت مهجورة

بتفضيل عملي يستند إلى وهن قدراته الجسدية وأمراضه المزمنة التي لم تبارحه، وبانحياز مضمر للحرية، قرر اختزال مسار الطريق الطويلة الذي يلتف بقوس يبدأ من شرق مدينة حماة ليصل إلى أطراف البادية، ويتجه نحو بلدة "خناصر". الطريق باتت تستنزف عشر ساعات مضنية، غير مضمونة الوصول الآمن. الطريق أحادية، حفرة عميقة بآثار بيّنة لألغام تزرعها الكتائب المقاتلة ليلاً، يقطعها خمسة وثلاثون حاجزاً عسكرياً
2015-02-18

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
| en

بتفضيل عملي يستند إلى وهن قدراته الجسدية وأمراضه المزمنة التي لم تبارحه، وبانحياز مضمر للحرية، قرر اختزال مسار الطريق الطويلة الذي يلتف بقوس يبدأ من شرق مدينة حماة ليصل إلى أطراف البادية، ويتجه نحو بلدة "خناصر". الطريق باتت تستنزف عشر ساعات مضنية، غير مضمونة الوصول الآمن. الطريق أحادية، حفرة عميقة بآثار بيّنة لألغام تزرعها الكتائب المقاتلة ليلاً، يقطعها خمسة وثلاثون حاجزاً عسكرياً رسمياً، وحواجز لجهات عسكرية أخرى لمّ تزل توصف بالشبيحة.
عبرت السيارة العائلية بلدة مصياف، وانحدرت نحو الطريق التي توصل منعطفاتها إلى سهل الغاب "ينبغي التيقظ، وأنت أمام اللوحات الدالة على أسماء القرى، حيث لن تتوفر الإمكانية لتصويب الهفوات". لم يعد العبور من ضفة نهر العاصي الغربية إلى الضفة الشرقية، عبوراً بين ضفتي نهر شحيح يفقد ماءه في سدود سطحية وقنوات تخرج منه لتروي حقول القطن والشمندر، ومضخات تنهله لأحواض تربية الأسماك وسقاية البساتين.. بل أمست خلال هذه السنوات القريبة عبوراً بين عالمين يتكرّس تمايزهما وفرقتهما وتباغضهما.
ما من ضرورة للتأكيد للمرة الألف أن أهل البلاد لا يحتملون القسمة، ولا يقبلون بها، وما انفكوا ينفرون من ذاك التقطيع الجغرافي والتاريخي والوجداني الجائر التي صنعته اتفاقيات سايكس - بيكو. أخذ الطريق الدولية الخارجة من حماة إلى حلب. رأى السيارات والشاحنات تسير مندفعة بسرعتها الاعتيادية نحو غاياتها.
"لِما يشيعون أن الطريق مقطوعة وممنوعة على العابرين؟". بعد قطع مسافة أوصلتهم إلى منعطف بلدة "مورك"، تنبّه الى أن كل السيارات والشاحنات تغادر الطريق، وتنعطف في طرق ترابية. انعطف معهم وتابع في طرقات تعبر بين وهدات مجلجلة وتلال قاسية وحواف سواقي لبساتين اللوز والفستق والزيتون. انتبه لتوقف السيارات في رتل، فتبين له أنهم أمام حاجز عسكري. "حطوا ع راسكن يا جحشات"، وكان كلام المقاتل موجّهاً لزوجته وابنته الجالستين مع ابنه الأصغر في المقعد الخلفي، فتّشن على عجل الأكياس التي معهن، وغطين شعورهن ببنطلونين قطنيين. "ما الذي أتى بك إلى هنا؟".
كان قد عبر هذا الطريق مئات المرات خلال عشرين سنة خلت، ولم يسأله أحد. طالما أوقف السيارة في ظل شجرة، ونزل مع زوجته وأولاده ليأكلوا شطائر الجبنة واللبنة التي أعدتها الأم، وليحتسوا القهوة، وهم يحدِّقون في الجبل الغربي المكلل بالغيم.. يشترون بعد ذلك من الفاكهة التي يحملها الفلاحون بسلال القصب وصناديق الخشب إلى أطراف الطرقات. "لم تتغير الأحوال فحسب، بل الأسئلة كذلك".
لم يقولوا "ما الذي تفعله هنا يا غريب؟"، بل ما الذي تفعله هنا يا شبيح أو ربما يا عميل؟ لم يستدرك المقاتلون كلامهم، ولم يراجعوه بمحاكمة منطقية. ترى ما الذي بإمكانه أن يفعله رجل مريض مع أسرته وأولاده؟ لماذا وضعوه في موقع المتهم، ولم يطمئنوه ليخرج الكلام طيعاً من شفتيه اليابستين. كانت الأشهر الثلاثة في الاعتقال مع زوجته وابنته وولديه في بيت مهجور، وتنقلهم بين مجموعات من السجون والمحققين كافية لتبديد الكثير من الأوهام عنه وعنهم، ولصنع فسحة ثقة لتبادل الكلام والمواقف. تعارفت الزوجة والابنة الجامعية على أمهات المقاتلين وزوجاتهم وأخواتهم، وبقي الابن الأكبر أسير وضع والده المريض، يؤنسه ويذكره بمواعيد أدويته، التي حرصت الكتيبة المقاتلة على تأمينها، وبقي الابن الأصغر عاجزاً عن التكيّف مع الغرفة المغلقة المنتزعة نوافذها، والتي تزورها الفئران من حين لآخر.

- لم تُقطع الطريق بين حلب ودمشق منذ آلاف السنين.. فلماذا قطعتموها؟
- لقطع الإمدادات عن الجيش الذي يقتل أهلنا ويحرق بيوتنا.
- لكن الإمدادات لم تنقطع عن الجيش، وهي تصله بشكل منتظم.
- ..........

تتعثر الكلمات، ويرتبك المقاتلون الشبان ويرتبك هو كذلك في الإجابات. وكانت فرصة للتمييز بينهم، فمنهم الجاهل المتعصّب بعماء، ومنهم المتعلم الذي يعرف ما يريد، وقد غلبه الصراع العسكري على أمره، منهم من لم يرَ أهله من أشهر، مَن فقد معظم أسرته، مَن لا يعرف أيّ خبر عنهم.. مَن خسر دراسته الجامعية، مَن لا يعرف في أي أرض ستكون نهاية حياته.

- لماذا تحتفظون بنا، ألم تتبين لكم براءتنا؟
- نريد مبادلتكم بمعتقلين عند السلطة، ومن بينهم أخوتنا وأخواتنا.
- نحن لا نعني شيئاً للسلطة حتى تبادلنا بمعتقلين.
- نعرف، ولكن لم يبق أمامنا من وسائل.
- .........

كان الابن الأصغر يجلس بينهم ويستمع لكلام طويل وتنهّدات أطول، حكايات بلا نهاية لعذابات بلا نهاية، وكلها كما هو أسيرة هذا البيت المهجور.. الأمر لا يحتاج "كعكة على شكل قلب، وشاي بالزيزفون"، كما في رواية "البحث عن الزمن المفقود" ليتذكر الطفل طفولته. لا يسعى الطفل لتذكر طفولته، بل يهرع ليعيشها. أن يرتمي في أحواض السباحة، ويختبر تجربة الاختناق كملامسة للموت، ثم النجاة بصخب مُبهج.
أن يتسلق الأشجار كسنجاب، ويعلن من أعاليها عجزه النزول، متوسّلاً المساعدة المشفوعة بالرجاء. أن يقف أمام المعلم ويلقي القصيدة عن ظهر قلب، وعيناه ثابتتان على الحائط الأمامي، وأنفاسه تتصاعد كرفيف حمام مغتبط، وتتهادى باختناق وجل بين شفتيه المنطبقتين كجرح ملتئم. أن يسير مع أمه إلى السوق بغاية حمايتها، لا من أجل الحصول على قطعة حلوى كمكافأة. أن يُقبل على المائدة العائلية لا بوصفها أطباق "رز بحليب"، بل بكونها حليباً يرتجف سطحه اللزج في الكوب الشفاف، قبل أن يتجمّد في أعاليه كغلالة.
لم تكن الطريق المتعرجة بين البساتين طويلة، عبروا من بلدة لأخرى حتى وصلوا إلى معبر "باب الهوا" الذي يفصلهم عن الأراضي التركية، استلمتهم سيارة للهلال الأحمر، تأكدت من أسمائهم، قبل حملهم ونقلهم إلى المدينة، تاركين خلفهم أناساً ينتظرون أهلهم المعتقلين. تهللت وجوههم وهم يرون اسم المدينة على لوحة حجرية عالية، وعدوا أنفسهم بحمامات ساخنة ونوم رائق في أسرة من قطن وأغطية من صوف، وقد أمسوا على أبواب الخريف. لم يعلموا أن قذيفة سبقتهم إلى بيتهم الموعود.

 

 

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..