العبودية في موريتانيا: زالتْ.. لم تَزل؟

سعت الأحزاب الموريتانية المعارضة الى «اسقاط النظام» وفق ما انتشر في المنطقة في السنتين ونيف السالفتين، ولكنها لم تنجح. وقد يكون كبَحَ هذا المسعى ما جرى في شقيقة لها قريبة ( ليبيا)، ثم في ما آلت إليه الأمور في دول أخرى، وقد تتوفر تفسيرات أخرى كثيرة. لكنّ الأسباب التي دفعت الآخرين إلى الاحتجاج الشعبي قائمة في موريتانيا، تضاف إليها قضايا خاصة، كما في كل مكان. في مقدمة تلك
2013-07-03

علّية عباس

أستاذة أدب عربي، مقيمة في نواكشوط


شارك
| en
(من الانترنت)

سعت الأحزاب الموريتانية المعارضة الى «اسقاط النظام» وفق ما انتشر في المنطقة في السنتين ونيف السالفتين، ولكنها لم تنجح. وقد يكون كبَحَ هذا المسعى ما جرى في شقيقة لها قريبة ( ليبيا)، ثم في ما آلت إليه الأمور في دول أخرى، وقد تتوفر تفسيرات أخرى كثيرة. لكنّ الأسباب التي دفعت الآخرين إلى الاحتجاج الشعبي قائمة في موريتانيا، تضاف إليها قضايا خاصة، كما في كل مكان. في مقدمة تلك القضايا الخاصة تأتي قضية الاسترقاق أو العبودية، كما درج على استخدام هذا المصطلح في وسائل الإعلام الغربية، وفي تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية. والمسألة مثيرة للحساسيات. ولكنها خصوصا تصطدم بتعقيدات التركيبة السكانية لموريتانيا، لجهة مكونات البلد الإثنية، ولجهة الهرمية التي تتوزع وفقها كل واحدة من تلك المكونات، إضافة إلى صعوبة استخدام أرقام او إحصاءات موثوقة، لأنه لم يجر هنا أي إحصاء رسمي منذ حوالي 30 عاماً. وفي خلفية هذا العزوف عن الإحصاء، تختفي مشكلة أخرى تتعلق بكشف الأغلبية في تكوين السكان. فثمة عرب سود على سبيل المثال، مما يعقّد المشهد ويخرجه من انقسام بسيط بين بيض وأصحاب بشرة سوداء.

تركيبة عابرة للألوان والأعراق

يتشكل المجتمع الموريتاني من أربعة مكونات عرقية هي العرب (البيض والسود)، ويشكلون معا حوالي ثلثي عدد السكان البالغ نحو 3.500.000 نسمة، وهناك أيضاً ثلاثة عناصر أفريقية غير عربية هي الولوف والبولار والسينونكي. ويعيش المكونان العربي وغير العربي، منذ ما بعد الاستقلال العام 1960، وعلى وجه أخص منذ نهاية الثمانينات، نوعا من الصراع الذي تتفاوت حدته وعلنيته بحسب الظروف. يتحدث الموريتانيون أربع لغات مختلفة، لكن العربية هي اللغة الرسمية للدولة. وهذا ــ من بين أمور أخرى ــ يزيد من التوتر في العلاقة بين المكونات الموريتانية.
اختلاف لسان الموريتانيين يعوّضه اجتماعهم على الإحساس القوي بالانتماء لبلدهم، واجتماعهم على هوية دينية واحدة، فكلهم مسلمون يتبعون المذهب المالكي. وهم جميعا يخضعون لهرمية أو تراتبية تفصل بينهم وتفرق. وتختلف هذه الهرمية بحسب المناطق والاثنيات، وهي كذلك لم تكن ثابتة في الزمان. وبين «البيظان»، وهم عرب، هناك حملَة السلاح ويسمون «العرب» هكذا بالإطلاق، وهم المحاربون. وهناك «الزوايا» وهم أهل العلوم الدينية حفظا وتدريسا، ومنهم «الشرفاء» الذين يؤمنون بتحدرهم من سلالة الرسول محمد. و«الزناغة»، وهم بغالبيتهم يتولون رعي المواشي. وهناك «الخضري» (أي الأخضر)، وهم من أصحاب البشرة السوداء من العرب، وأصولهم متعددة، فمنهم من كان من سكان البلاد من القبائل الزنجية السابقة للفتح العربي، تزاوجوا مع العرب وتحولت هويتهم إلى العربية، ومنهم من كان من الأرقاء الذين استعبدوا بطرق مختلفة كما تحرروا بطرق مختلفة. وهناك «المعلمون»، أي الحرفيون والفنانون ــ ويشتهر منهم المغنون. و«اللحمة»، وهم الذين يقومون بالاهتمام بالسيد إن لجهة العناية الشخصية به كتدليكه مثلا أو الدفاع عنه باللسان، إذ يعرف عن هؤلاء»سلاطة اللسان» كأداة في تحقيق المرجو منهم. ذلك أنّ هناك أسيادا في كل قبيلة. والسيد يتخذ من الزاوي مدرّسا لأولاده، ومن اللحمة من يعتني به في راحته وهناء بدنه، والعبد الذي يقوم بتحضير الطعام والعناية بشؤون المنزل، والحرفي الذي يصنع له ما يحتاجه، والمغني الذي يطربه ويمدحه. وهذه التسميات وان اختلفت من لغة إلى أخرى، لكنها لا تختلف في تقسيم المراتب والوظائف داخل كل مكوّن. وخلاصة، فالرق موجود في كل المكونات، مع اختلاف في التسميات نظرا لاختلاف اللغة. والأرقاء عرب عند العرب، وزنوج عند الزنوج من غير العرب، ووضع هؤلاء قد يكون أشد بؤسا، فعند السونينكي مثلاً، لا يصلي السيد والعبد معاً، ولا يأكلان معا، ولا يدفنان معاً، عكس الحال عند العرب...
ولدت من هذه التركيبة قضية الاسترقاق، ومن أجلها تشكلت حركات وجمعيات، وتحت هذا المسمى تواجه موريتانيا ضغوطاً داخلية وخارجية، على اعتبار أنّ الاسترقاق قضية عفا عليها الزمن، وباتت من ماضي التاريخ الإنساني، ومن غير المسموح أن تستمر حتى أيامنا هذه.

الميراث الاستعماري الثقيل

في العودة الى الماضي، نجد أقدم إشارة إلى العبودية تعود إلى سنة 1493، حيث انتشرت هذه الظاهرة عن طريق الخطف، والشراء من الشعوب المجاورة، والغزو، وعدم دفع الضرائب... وقد ظهرت في الماضي محاولات للخلاص من هذه الممارسة. فمثلاً، في سنة 1673، ظهرت «حركة التائبين» التي أنشأها الإمام ناصر الدين والتي «حرّمت بيع العبيد للنصارى»، وهم هنا الأوروبيون الذين كانوا قد بدأوا حملتهم للحصول على عبيد من إفريقيا. وظهرت فتاوى فقهية كثيرة تشكك في شرعية الاسترقاق، مستندة الى أن طرقه كما مورست في موريتانيا كانت تخالف الشرع الذي يبيحه كنتيجة للأسر في الحروب فحسب. لكن الممارسة ظلت مستمرة، والفتاوى لم تجد آذانا صاغية. وقد دخل على خط هذه المسألة الصراع الفرنسي ـ البريطاني، فاشترطت انكلترا على فرنسا عام 1817 وقف تجارة العبيد لتسليمها منطقة سان لوي في السنغال. لكن تجارة الرقيق استمرت عابرة للقارات عبر المحطات النهرية وذلك حتى مطلع القرن العشرين. وكان الاستعمار الفرنسي اصدر سنة 1848 مراسيم إلغاء الرق في جميع المستعمرات الفرنسية، وقضى بعدم إعادة العبيد الفارين إلى أسيادهم السابقين، ورفض كل الممارسات التي تناهض روح القوانين ومبادئ الثورة الفرنسية. لكن القوانين كانت في مكان والتطبيق في مكان آخر، وكان ميزان القوى في موريتانيا قد حسم لصالح «البيظان» الذين جددت لهم فرنسا امتيازاتهم الاستعبادية. وبهذا المعنى، فقد توسل المستعمر الفرنسي وساطة البيظان ليستمر في تجارته، وإن بقناع.

الاستقلال

مع الاستقلال، ورثت الحكومة الموريتانية مجتمعا راسخ القيم البدوية، لم يعرف المؤسسات ولا الدولة الحديثة. وقد نظرت الحكومات المتعاقبة إلى الأرقاء باعتبارهم القوة العاملة التي لا بد منها لاستمرار الاقتصاد التقليدي، من رعي وزرع وحراثة وخدمات منزلية، وتركت معالجة القضية لعامل الزمن كما كان يقال، ولم تسعَ بجدية إلى تطبيق الاتفاقيات والعهود التي صدرت أيام الاستعمار الفرنسي، ولا تلك التي أصدرتها حكومات الاستقلال، رغم ان الرئيس الأول المختار ولد داده، أشار في مذكراته إلى أن هذه القضية تقود إما إلى نزاع مسلح يدمر البلاد أو إلى تغيير مجتمعي يكون الزمن كفيلا باستحداثه. وظلت الإجراءات القانونية مجمدة في كل الحكومات التي تلت عهد ولد داده، رغم أن السلطات العسكرية أصدرت عام 1981 تعميما ينص على أن ممارسة العبودية غير شرعية، ويجب أن تنتهي. وفي عهد الرئيس هيدالة، صدر قانون مكافحة الرق وتعويض الأسياد مادياً، الذي قوبل برفض واسع من قبل القيادات التقليدية، إذ لم توافق على التخلي عن العبيد وإن مقابل تعويضات، وهو ما كان على أية حال يتناقض مع دستور 1958 الذي ينص على المساواة الكاملة بين المواطنين، وكان أيضاً يرتب على الدولة أعباء لم تكن قادرة على الوفاء بها. أما في عهد معاوية ولد سيدي أحمد الطائع (1984 ـ 2005)، فقد أخذ هذا الملف مسارا مضطربا يقوم على استيعاب أطر «الحرّاطين» (كإعطاء مناصب في الدولة للشخصيات المؤثرة في هذا المجال، وقد عيّن مسعود ولد بو الخير، رئيس حركة «أخوك الحرطاني» وزيرا للثقافة). والحراطين هو الاسم الذي صار يطلق على العبيد بعد نشاط حركات التحرر، وهو يعني ــ من بين معان أخرى ــ «الحر الطارئ» أي الذي نال حريته حديثا، للتذكير بكون المسترَقين هم في الأصل أحرار، وقد استرقوا بطرق غير شرعية.
وقد صدرت منذ العام 2006 قوانين تجرِّم وتعاقب الممارسات الاسترقاقية، وأخيراً أُنشئت «الوكالة الوطنية لمحاربة اثار الاسترقاق والفقر والدمج»، لكنها، وكما يؤكد أمينها العام، لم تقدم جديدا على ما حوته القوانين السابقة الوطنية، وأن كل تلك القوانين بقيت دون قدرة على التأثير في هذا الملف نظرا لعدم وضع آلية للمتابعة والتطبيق.

واحدة من إشكاليات الطرح

ولكن المثير أن قضية الاسترقاق تطرح كقضية يتحمل مسؤوليتها العرب البيض فيما هي شبه مغيبة عن النقاش والإعلام في المحيط الزنجي، رغم أن الممارسات التمييزية والاسترقاقية هي أشد وأقسى هنا، وخاصة عند اثنية السونينكي، وذلك لأسباب قد يكون منها التجانس اللوني بين العبد والسيد في هذا المجتمع، كما أن تركيز المؤسسات الدولية على المظالم العامة للزنوج حال دون تناول الرق في المجتمع الزنجي نفسه، وعدم اهتمام العبيد الزنوج بهذا الملف. ويضاف إلى ما سبق شكوك قد تكون في محلها حول خلفيات سياسية مدعومة من الخارج تحرك هذا الملف لتعبث بالاستقرار السياسي لموريتانيا، وهو لا يلغي المشكلة الفعلية القائمة.

مشكلة غير قابلة للحل؟

يؤكد كثيرون من المهتمين بهذا الملف أن العبودية لم تعد موجودة بشكل فعلي إلا في الأرياف البعيدة، حيث الفقر والأمية. وعلى اية حال، فعلاجها لا يمكن أن يتم بعزل قضية الاسترقاق عن مجمل الموروث الثقافي ــ الاجتماعي لموريتانيا، حيث هو، علاوة على وظائفه الاقتصادية، جزء من العادات والأفكار التي تحتاج لا إلى القوانين فقط، بل إلى معالجة الأسباب التي تديمه، وفي مقدمتها الأمية، والى إتاحة الفرص المتساوية أمام جميع الفئات لشغل مناصب ووظائف في الدولة ومؤسساتها. ودور الأئمة وعلماء الدين مؤثر بمقدار القوانين والمراسيم، وعليه فلا بد من اعتماد خطاب ديني واضح وقاطع يحرّم هذه الممارسة. كما من الملح التوافق على الابتعاد، بداية، عن المنحى العنفي في مقاربة الموضوع لأن «ذلك يضر بالقضية نفسها وبالوطن ككل»، كما يؤكد السيد مسعود ولد بو الخير رئيس المجلس الوطني. لا بد من جعل القضية هماً وطنيا لا مشكلة فئة فحسب، وإخراجها من حلبة الصراع السياسي بين النظام والمعارضين، فهذا الميراث الثقيل لا تتحمل وزره فئة واحدة، بل هو مسؤولية الجميع.

مقالات من موريتانيا

للكاتب نفسه