صورة إلى جانب الموت

"وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ" [سورة إبراهيم:17]   يُحصي العراقي على أصابعه عدد المرّات التي نجا فيها من موت محقّق. يُزايد في ذكر اللّحظات المرعبة كلمّا انفتحت سيرة الانفجارات والرصاص الذي يسير في الهواء من دون رادع، ويروي قصص النجاة كساردٍ ماهرٍ لا يفوِّت مشهداً أو تفصيلاً صغيراً من الحدث. يتذكّر العراقي مشهد
2015-05-20

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
| en

"وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ"
[سورة إبراهيم:17]

 

يُحصي العراقي على أصابعه عدد المرّات التي نجا فيها من موت محقّق. يُزايد في ذكر اللّحظات المرعبة كلمّا انفتحت سيرة الانفجارات والرصاص الذي يسير في الهواء من دون رادع، ويروي قصص النجاة كساردٍ ماهرٍ لا يفوِّت مشهداً أو تفصيلاً صغيراً من الحدث.
يتذكّر العراقي مشهد اللهب المتصاعد بعد انفجار سيّارة ملغّمة، ويصف بمهارةٍ الهسيس الذي عَلَق بآذانه بعد صوت الدوي. وسرعان ما يتحرّك، بعد أن تنفد منه اللغة، ليمثّل مشهد الانفجار برّمته: كيف هَروَلت قدماه، وكيف جال بناظريه على الجثث التي ترامت حوله، وكيف سال الدم حاراً على الإسفلت.
يكاد المرء يُعدم أن يجد كائناً يدّب على "أرض السواد" لم يرَ الموت بأم عينه. بيد أن الموت قد فقد هيبته في هذه البلاد، صارَ متوفّراً أكثر مما ينبغي، وتحوّل من العاديّات. وهذا من البشاعة فضلاً عن أنه من القُضاة على الأمل الذي يضيق ويتقلّص يوماً بعد آخر، إذ لم يعد مجدياً عد الأعوام في البلاد طالما أن إتمام يومٍ بكامله يبدو صعباً، ويتحوّل إلى استحالة في الكثير من الأحيان، خاصّة مع اشتداد العنف واتساع رقعة الحرب في بلاد يُسيطر على ثلث مساحتها تنظيم إرهابي لا يوفِّر فعل البشاعة، فيما يتعارك ساسة مجانين على بسط نفوذهم في المساحة الأخرى المتبقيّة.
لم يكن أهلنا وإخوتنا الذين يكبروننا، يتحدّثون في السابق عن الموت صراحة. كانوا يلمّون أنفسهم في دائرة مغلقة، ويسردون قصص الدفن التي غالباً ما تُحاط بالهمس والتعويذ ومط الآذان من النساء وآيات قرآن معيّنة يردّدها الرجال. يحاط الحديث عن الموت بالهيبة.. إنه فعل جبّار مغلّف بالسريّة، غير مكتشف، ويخافه الجميع، ويُلحَق دائماً بأساطير عن الأموات، وغالباً ما تحمل اللحظات الأخيرة قبل دفنهم نتفاً من تفاصيل صغيرة عن وجه الميّت وقدميه. يصير نَفَسُ الجُلاّس بارداً أثناء الحديث، وتصبح الوجوه صفراء كأن الدم فرّ منها مرّة واحدة. كان الموت كثيراً في التسعينيات، لكنه لم يكن مَشاعاً ومتوفّراً إلى هذا الحد. كان للميّت حرمته حيث لا توثّق ميتته وليس من صورة لتابوته ولا مشيّعيه، كان يذهب إلى مثواه من دون صخب.
لكن الموت اليوم يدخل إلى منازل العراقيين ضاجاً عارماً.. بل وصار يجلب النكتة في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. فقد ذاك السر الهيّاب وأخذ الصغار يعرفون كيف يُغسَّل الميّت ويُلَّف، وما هي شكل الحفرة التي سيُطمُّ فيها إلى الأبد. وأبعد من ذلك، صار الجميع يعرف أسماء الدفّانين في مقابر النجف (وهي أكبر مقبرة في العالم)، ولدى أغلب الناس معلومات عن أطلس الأراضي التي تخصّ موتى العشائر مقسّمة حسب العقود، برغم أن ما فُقِدَ من أشخاص في العقد الأخير جعل الجميع ينسى موتى العقود الماضية.
يطلب العراقي اليوم بعد حدوث الانفجار، سيارتي إسعاف وإطفاء وعازف التشيلو كريم وصفي. ويحضِّر الجميع أجهزة الموبايلات ويمسحون عدساتها بأكمِّهم من أجل التقاط "سيلفي" مع القبر المفتوح أو على أقل تقدير مع التابوت. في إحدى المرات انتشرت صورة لشبّان متجمّعين خلف تابوت التقطوا صورة تذكارية. وفي أخرى التقط أحدهم صورة مع قبر صديقه. كما بات من اليسر أيضاً طلب الدفّان عن طريق صفحته في "فايسبوك"، مثل الدفّان من مقبرة النجف "علي العميه الكعبي" الذي تحوَّل إلى ظاهرة بعد أن نشط على فايسبوك ناشراً صور القبور التي "يعمرّها" إلى جانب رقمي هاتفه.
قبل أعوام، ولأجل محاربة الموت الذي أنفق العراقيون حيواتهم عليه بتبذير، وحينها لم يكن اليأس قد بلغ هذا المبلغ، أقترح كاتب عراقي (ساخراً) أن يهاجر سكّان بلاد ما بين النهرين لعشرين عاماً ويتركوا البلاد للساسة كي ينهبوا ويشبعوا، ومن ثم يعودون بعد ذلك ليتسلموها ويبنوها. كان هذا بعد تظاهرات شباط/فبراير 2011 التي حاولت إزالة حكومة نوري المالكي الثانية، إلا أنَّها فشلت.
بدت الفكرة "رائعة"، وراقت للكثير من العراقيين طالما أن فيها نوعاً من الأمل بالخلاص. إلا أنَّ ما تناساه الجميع هو أن هؤلاء الذين يغلقون على نفسهم في المنطقة الخضراء المحصّنة ويدوِّرون مصائرنا كلعبة "الروليت" لن يشبعوا ولا بقرن من نهب أموال العراق. وعلى العكس مما سرى الاعتقاد، فهم يزدادون رسوخاً في هذه الأرض الرخوة، وإنهم ماضون بإهلاكها حتى يسقط الجميع، كما فعلها من قبلهم صدام حسين، الدكتاتور الذي خنق البلاد بنياشينه الزائفة.
اليوم، مع تقلّص مساحة الأمل، والاستثمار بزراعة اليأس في نفوس العراقيين، وجد أغلب ساسة العراق "الديموقراطي"، الذين أشاعوا فكرة الموت ودعّموها وآزروها بالفشل الأمني وصفقات فساد الأسلحة، فضلاً عن تلطيف الفقدان بمنح أهالي الموتى امتيازات ومكافآت، وجد هؤلاء اليوم بحضور "داعش" استثماراً جديداً. فالتنظيم بالرغم من أنّه يهدِّدهم إلا أنه في الوقت ذاته يساعد على بقائهم.. إنه مشروع يدر عليهم الأموال من خلال صفقات الأسلحة وتشكيل الميليشيات "الفضائية". وبالمقابل فإنّ عامَّة الناس لن تثور عليهم، برغم أن نسبة الفقر بلغت أكثر من 30 في المئة بالإضافة إلى وجود 3 ملايين مهجّر نصفهم يفترش العراء، طالما أن هناك غولاً يفوق بشاعتهم بأضعاف على حدود المُدن يهدّد وجودهم.
أعرف اليوم نحو عشرة من الأصدقاء والأقارب كانوا يتمنّون ألا يلدوا أكثر من طفل أو طفلين لتحمّل نفقة تربيتهم وتعليمهم أفضل تعليم، إلا أنّهم مضوا في زيادة عددهم خشيّة أن يموت أحدهم بانفجار أو على يد ميليشيا ويصبحوا عاجزين حينها عن ولادة آخرين. حينما يفكِّر المرء بالموت قبل الولادة فلن يوجد أبشع من مصير كهذا قد وصل إليه. ليس ثمّة ما يُدين له المرء للموت ـ حسب سيوران - حين يفكِّر الرجل قبل أن يتزوّج بشكل زوجته المستقبليّة وهي أرملة تلبس السواد وتخمش خديّها، حين يتخيّل المرء حتوفاً عديدة وهو في طريقه إلى العمل، أو وهو جالس في مقهى. هذه التفاصيل تحوّل البلاد إلى قبر، أو ردهة تتسع لشتّى أنواع الموسوِّسين.
بات العراقي يحدِّق اليوم في موته القادم من بعيد، ويتخيّل مصائره، فيما يربّت على الأمل عسى أن يتعثّر حتفه.

 

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...