الاقتصاد في المغرب باعتباره مُظلِماً

زاوية أساسية لتفحص موضوع الاقتصاد الموازي في المغرب: الهوامش العشوائية العملاقة حول المدن حيث يختلط البؤس بالعنف باليأس..
2018-04-17

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
| en
همام السيد - سوريا

تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

ما زال "با أمحمد" يلازم مهنته كبائع متجول منذ أزيد من ثلاثة عقود. وبعد كرّ وفر مع السلطات المحليّة، استطاع أن يستحوذ على بقعة إسفلتية يعرض فيها سلعته المتغيّرة حسب احتياجات السوق. في الصيف يبيع تيناً شوكياً وبطيخاً أحمر، وفي الشتاء يعرض ملابساً شتوية صينية، وفي مواسم أخرى يبيع الحلويات ومستلزمات العيد.. وفي أسوأ الأحوال يعرض سلعاً مهربة ومستعملة.

تصنّف الحكومة من يزاول مثل هذه المهن ضمن خانة "الاقتصاد الموازي" أو "الاقتصاد غير المهيكل". ويعني هذا أن ما يمتهنه "با أمحمد" ليس قانونياً بنظر الحكومة وأنه عدو لدود للتجار الصغار وحتى للمقاولين. هو لا يدفع ضرائب عن دخله، ولا ماء أو كهرباء، ولا مستحقات ضريبية لصالح السلطات المحلية. لكن الممتهنين لهذه الأنشطة يتكاثرون سنة بعد سنة.

اقتصاد بديل

تفيد الاحصائيات بأن صافي أرباح الاقتصاد الموازي بالمغرب يصل إلى حوالي 41 مليار دولار. رقم ضخم يعادل دخل دولة فقيرة تقاوم ديونها. ومن قال أن المغرب بلد بدون ديون؟ الحكاية بدأت حينما أعلنت الحكومة في ثمانينات القرن الماضي أن البلد غارق في الديون (12 مليار دولار) واقتصاده يرقد في غرفة الانعاش. لذلك بات اللجوء للاقتراض من صندوق النقد الدولي أمراً حتمياً. هنا بدأت عملية "التقويم الهيكلي"واللجوء لخصخصة القطاعات الحكومية، ورفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية.. كمحاولات لتخفيف عبء الديون ودفع مستحقات القروض المتتالية. في هذه الحقبة الصعبة بدأت تكبر نشاطات الاقتصاد المظلم أكثر من أي وقت مضى، بسبب الاقتصاد "النظامي" المنهك والمريض. وهو في الوقت ذاته منفلت من سطوة الدولة وحساباتها ومتطلباتها. اقتصاد ينمو أكثر فأكثر في بيئة عشوائية ويتغذى منها ويستثمر من وضعها الاجتماعي والاقتصادي.

بسبب هجرة القرويين، تصاعدت نسبة التمدن لأزيد من النصف خلال عقد التسعينات من القرن الماضي. الجفاف والفقر وتهميش الأطراف على حساب المركز، كلها دوافع يبرِّر بها القرويون ترك أغلى ما لديهم: الأرض!

لسان حال الحكومة يقول: "داوني بالتي كانت هي الداء". فعلى الرغم من تأكيدها على أن الاقتصاد الموازي يحرم خزينة الدولة مئات ملايين الدولارات، إلا أنها تعود وتعترف بكونه يساهم بشكل أو بآخر في انعاش الاقتصاد الوطني، فهو يستثمر سنوياً برساميل تصل لنحو 336 مليون دولار، مع ما حققه من نمو في أنشطته، وهي بنسبة 3.2 في المئة منذ سنة 2007، وهو ما يمثل 1.10 في المئة من الرأسمال الوطني الثابت.

الأرقام تقول بأن أزيد من 2.4 مليون مغربي يزاول مهناً سوداء (تدخل في خانة الاقتصاد غير المهيكل)، أزيد من نصفهم يمتهنون التجارة غير المنظمة، و24.5 في المئة في قطاع الخدمات، فيما يشتغل 16.1 في المئة منهم في قطاع الصناعة. تجد الحكومة صعوبة في إدماج هذه الفئة ضمن وعاء الاقتصاد المنظم، وفي الوقت ذاته تغض الطرف عنهم، فهي عاجزة عن حل أساس المشكل، وترى بشكل مبطن وغير صريح بأن الاقتصاد غير المهيكل سيخفّف عليها عبئاً آخر متمثلاً بتوظيف الكوادر واليد العاملة وتقديم الخدمات وتطويرها وخلق عالم اقتصادي متكامل يمتاز بالشفافية والوضوح.

عناد السماء

لم يولد الاقتصاد غير المهيكل بالمغرب بمحض الصدفة، بل خرج من رحم الأزمات. فمع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي بدأ اقتصاد البلد يسجل تراجعاً وانكماشاً كبيرين نتيجة توالي سنوات الجفاف، لأنه يعتمد بالأساس على الأرض وما تجود به السماء من أمطار. هنا ستبدأ عوامل تشكّل الاقتصاد الموازي.

تضرر الفلاح إبن القرية من عناد السماء. سنة تمطر، وثلاث أخرى ترفض. يستجديها في السنوات العجاف، لكن دون نتيجة. بعد أن خسر كل شيء إلا الأرض البنّية الجافة التي تظل مقفرة إلى أن يأتي الفرج، يضطر إلى بيعها، ويقرر مرغماً حزم حقائبه نحو المدينة ليوفر القوت المأمول.

بسبب هجرة القرويين، تصاعدت نسبة التمدن لأزيد من النصف خلال عقد التسعينات من القرن الفائت. الجفاف والفقر وتهميش الأطراف على حساب المركز، كلها دوافع يبرر بها القرويون ترك أغلى ما لديهم. يُطرح سؤال كيف سنعيش في الدار البيضاء والرباط ومراكش وطنجة وأغادير وفاس ووجدة... وهي مناطق جذب المهاجرين القرويين، وقد عرفت توافدهم المستمر إلى حدود الألفية الثالثة. وكحال "با أمحمد"، يختار القروي مزاولة مهنٍ في معظمها حرفية أو موسمية: بنّاء، صبّاغ، بائع متجول.. وهي في الأغلب لا تتوفر على شروط الاقتصاد المهيكل.

مورفولوجيا مشوهة

تنتج هذه المنظومة مدناً مشوهة مورفولوجياً. كل المدن الكبرى تواجه تمدداً للمدن الخلفية الصغيرة والهوامش السوداء. فالدار البيضاء مثلاً تنفجر ديمغرافياً سنة بعد سنة. ولأنها تستحوذ على حصة الاسد من الانشطة الاقتصادية، بما فيها "أنشطة الظل"، من تجارة وبيع واستيراد وتصدير، كما سائر التعاملات الاقتصادية غير المشروعة، فهي تظل وجهة جاذبة للوافدين عليها من القرويين الفارين من جغرافيا الفقر والتهميش.

"با أمحمد" كغيره ممن يقاسمهم القصة نفسها، يضطر للاستقرار في ضواحي الدار البيضاء، المدينة الاسمنتية، لكن في علبة قصديرية في أحياء غير بعيدة عن المركز، مثل" كريان سونطرال" أو"الحي المحمدي"، وأحياء أخرى في أقصى الهامش كحي "سيدي مومن". تحاول المدينة ما أمكن أن تتخلص من "الخنّونة" كما يقول المغاربة (وهو مخاط الأنف) عبر عملية ماكياج غير موفقة، إذ ما زالت ظواهر الاقتصاد المظلم تنتج سكناً عشوائياً في الهوامش يشوه ألق ناطحات سحاب المركز!

على مدار عقود، عاشت الهوامش العشوائية المغربية تتابعاً لكل الألوان السياسية. فمن اليسار الاشتراكي الى الأحزاب الادارية الموالية للدولة وأخيراً اليمين المحافظ الاسلامي.. وتعتبر هذه الرقعة بالنسبة للسياسي مجالاً للكسب السريع للأصوات بغية الوصول لقبة البرلمان أو المجالس المحلية: تَغيّر الخطاب ولم يتغير شيء على الأرض.

يستغل البائع المتجول الهارب من قوانين الدولة الليل، عندما تنام الأعين، لبناء أربعة حيطان مغلفة بقطعة قصدير. ويحاول هؤلاء أن يعيشوا نمط حياة موازِ لما يرونه لدى الآخرين، ففوق القصدير ينتصب الصحن الهوائي بضخامته، في محاولة عنيدة لتحسين الأحوال الاجتماعية والهروب ما أمكن من واقعٍ مزرٍ. بين ثنايا الأزقة الضيقة، تغيب خدمات النقل والصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب. "أنت لا تدفع ضرائب إذاً فأنت تستحق هذا العيش"، يجيب ممثل السلطة عادة على شكاوي الساكنة. هذه الأخيرة تحاول أن تجد بدائل ضمن عملية صراع البقاء، فالتضامن ما زال موجوداً وإن بدرجات متفاوتة، فمن يحتاج للكهرباء، يزوده جاره بكابل على أساس اقتسام مصاريف الفاتورة، والشيء نفسه مع الماء أو عند الحاجة لوسيلة نقل.

يساهم الممتهنون للاقتصاد الموازي على شاكلة "أبا أمحمد" في ترييف المدن. فهم في الأصل قرويون وعلى درجة كبيرة من الأمية، معظمهم لم يدرس أو لم يكمل تعليمه الأساسي (ووفق دراسة لمندوبية التخطيط، فإن أزيد من الثلث لم يتعلموا حرفاً في المدرسة، و33.6 في المئة منهم لم يتجاوز تعليمه السلك الابتدائي، و28.4 في المئة درسوا في التعليم الإعدادي، في حين تمكن فقط 3.3 في المئة من الوصول إلى التعليم العالي). وهم لا زالوا متمسكين بتقاليد ونمط القرية كتربية الدواجن وقطيع صغير من الأغنام، ويعتمدون أحياناًعلى عربات الحمير كوسيلة للتنقل والتبضع..

خزان انتخابي

"علاش علاش تاوينا.. علا فلان اللي بغينا"، هكذا يهتف بعض الباعة المتجولين في حيّهم العشوائي بحياة أحد المرشحين. بدأت الحملة: إنها الانتخابات! في كل خمس أو ست سنوات، يتحسن الوضع لدى الساكنة بشكل ظرفي، يتم توزيع الهدايا وقطع ورقية زرقاء على النساء والرجال، ووعود كلامية وأحلام وردية ومشاريع خيالية مكررة عن توفير الشغل وسوق خاص للباعة المتجولين وتحسين ظروفهم وشروط سكناهم. يأتي ممثل السلطة ليستميلهم لصالح أحد المرشحين، لأن التصويت في صندوق الاقتراع من فرائض الديمقراطية، "وأنتم صمام لها أيها المواطنون!". هكذا يتم استغلال هذه الفئة انتخابياً وسياسياً، ليس كمواطنين ولكن كأرقام قد تغيّر من مجرى لعبة السياسة وتوازناتها الحزبية الضيقة.

على مدار عقود، عاشت الهوامش العشوائية المغربية التي أنتجتها عوامل الاقتصاد المظلم تعاقباً متوالياً لكل الألوان السياسية. فمن اليسار الاشتراكي الى الأحزاب الادارية الموالية للدولة وأخيراً اليمين المحافظ الاسلامي، تعتبر هذه الرقعة بالنسبة للسياسي مجالاً للكسب السريع للأصوات بغية الوصول لقبة البرلمان أو المجالس المحلية. تغيّر الخطاب ولم يتغيّر شيء على الأرض. لذلك فقَد المواطن هنا ثقته في خطب السياسيين، وصار يتشبت بعربته ومساحته الإسفلتية أكثر من ديمقراطية الصناديق. فهو لن يصوّت إلاّ لمن سيضمن له حماية فعلية من شطط السلطة ومضايقاتها في ممارسته لنشاطه التجاري. أحياناً قد تبتز السلطة البائعين المتجولين بغية التصويت لمرشح مدعوم مقابل ضمان إستمرار نشاطهم التجاري بشكل سلس وبدون عراقيل.. وإلا استمروا في دوامة الكر والفر مع السلطة ومعاكساتها.

مصنع العنف

لا يستطيع "با أمحمد"، كسواه من أمثاله، أن يغيّروا واقعهم المعيشي وسط كومة من العشوائيات، فهي إنتاج لسيرورة أكبر منهم ولحاجتهم للعيش ولو بربع حياة. سيرورة تعيد إنتاج البؤس في أسوأ تجلياته.. يظهر طافحاً ليفرز ظواهر اجتماعية أخرى.

لكل ممتهن للاقتصاد الموازي أسرة تعيش في ضنك. ينشأ الابن في وسط "لا صوت يعلو فوق صوت العنف"، يكبر ويترعرع على قاموس الشارع وظواهره المنفلتة، حيث شريعة غاب فعلية وإن مدينية. وكغيره من شباب العشوائيات يضطر للعمل في نشاط اقتصادي موسمي غير مهيكل وغير ثابت لا من حيث دخله ولا من حيث استمراريته. وبين كل عمل موسمي وترميق مؤقت تحضر بقوة بطالة مقنّعة يعيش تحت وطأتها معظم شباب ذلك المجتمع. وعلى الرغم من حصول نسبة منهم على شهادات جامعية أو مهنية، إلا أنها لا تسعفهم بالشكل المطلوب، وهذا ما يولد مشاعر الإحباط واليأس والغضب التي تنتج عنفاً مادياً يمارسونه داخل منظومات الأسرة والحي والمجتمع، هو يعتبر بمثابة انتقام من الظروف المحيطة بهم.

حي سيدي مومن في الدار البيضاء هو نموذج يختزل على سبيل المثال هذه الحالة: حي هامشي ولد من رحم سياسات الإفقار. سكانه يتجاوزون الـ250 ألف شخص، أكثر من 80 في المئة منهم جاءوا نتيجة الهجرة من القرية إلى المدينة. في الأول كان صفيحياً ثم تحوّل إلى غول إسمنتي من العمارات والمساكن الاجتماعية المندرجة ضمن مشروع تبنته الدولة منذ بدايات الالفية الثالثة، يستهدف القضاء على دُور الصفيح في المدن الكبرى، حتى صار وعاءً ضخماً أنتج جيلاً من الشباب يمارس في معظمه العنف بكل تجلياته تارة كآلية استعراضية للفتوة المُجَسِدَة للشهامة بشكل قوي وشرس، أو كتعبير عن تمرد من فشل منظومة المؤسسات (الأسرة، الأحزاب، الدولة، المجتمع...) في احتواء عنفوانه وكبته، وتارة أخرى كرغبة في الانتقام والانتحار مثل انخراطه ضمن جماعات دينية متطرفة. ولعل ما وقع في 16 أيار/ مايو من عام 2003 أكبر دليل على ذلك، عندما فَجَّرَ شباب (من بينهم 12 انتحارياً من حي سيدي مومن) أنفسهم في مواقع مختلفة في الدار البيضاء. آنذاك قيل إن الحي مصنع للانتحاريين والمحبطين، لذلك سارعت السلطات لمعالجة المشكل جزئياً ببناء ملاعب قريبة وفضاءات ثقافية وترفيهية للشباب.. وعلى الرغم من تلك الجهود فما زال الحي ينتج انتحاريين يلتحقون بجماعات أصولية خارج البلد وفي بؤر التوتر الموجودة في العراق وسوريا وليبيا.

وبحسب أرقام وزارة الداخلية التي أُفْرِجَ عنها في أيار/ مايو من العام الماضي، فإن تعداد المقاتلين المغاربة في صفوف التنظيمات المتطرفة في الشرق الأوسط يُقدر بأزيد من 1699 مقاتل، 929 منهم يقاتلون في تنظيم داعش. وتفيد تلك الأرقام أن 596 مقاتلاً مغربياً لقوا حتفهم في مختلف تلك المناطق في حين عاد 213 منهم إلى المغرب.

شباب هذه الرقعة العشوائية ومثيلاتها ما زال ضحية منظومات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية أُرِيدَ لها أنْ تكون متردية. ويبقى المستفيد الأكبر هو أنشطة الاقتصاد الموازي الذي استثمر في هذه الحاضنة بقوة ونمت أرباحه وصار يحسب له ألف حساب.

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه