تجربة وجودية: تربية طفل

تأمل طفل ينمو هو تأمل لتطور النوع الإنساني في مواجهة محيطه، وهذه تجربة وجودية. سؤال التربية الأساس هو تعلم الطفل الاعتماد على نفسه منذ البداية، ونمو خياله وامتلائه بالاحترام لنفسه
2017-01-30

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
فادي يازجي - سوريا

يستطيع "الكتكوت" أن يبقى حياً بمفرده منذ الأسبوع الأول وهو ما لا تستطيعه طفلتي. لذلك هي تحتاج عناية مركزة منذ اللحظة الأولى لميلادها. تعرف كيف ترضع فور خروجها للعالم، وسريعاً صارت ترى الرّضاعة فتصرخ. تعرف الغاية منها لذلك تمسكها بنفسها.
 أين تعلمت ذلك؟  كان ذلك درس الغريزة.
لا تستطيع أن تنام إن لم تكن نظيفة. منذ الشهر الثاني، تفرح حين تستحم، لم تصرخ أبداً بسبب الماء. تنام ثلاث ساعات على الأقل بعد الاستحمام، تستيقظ فتضع أي شيء تجده في فمها.

 

شروط الاعتماد على النفس

 

أطعمها جلوساً على الأرض. يتسبب تناول الأكل على طاولة والجلوس على المقاعد في تباعد الأجساد.. اصطحبتها إلى بائع الفواكه فأعطاها موزة، بعد أسبوع اصطحبتها ثانية، لم يتحرك البائع فأشارت إلى الموزة وصرخت "آه". للإشارة فثمن كيلو موز في مغرب اليوم دولار واحد.
حين تشبع ترفض الطعام. كانت أوّل إشارة تواصلية إرادية تصدر عنها هي تحريك رأسها أنْ لا. لماذا قول لا أسهل من قول نعم؟
قبل الشهر السابع كان قطعة لحم لا تصدر عنه أفعال أو ردود أفعال منظمة، كان يظن أن كل ما أخفيته عنه لم يعد موجوداً، لذا لم أر ضرورة لأراقبه وأوثق. في نهاية الشهر التاسع صار يصدر صوتاً يعلن أنّه جائع.. في انتظار الأكل أهدئه وأضمه لصدري فأشعر بأن حواسي تشحن بطاقة تعوض كل ما تبدد في جهد الكتابة..

 

يحرره أمان بدنه من كل تهديد، ومن هنا تبدأ التربية. البرهان: جسد مهدد يثمر روحاً مرعوبة عدوانية. ليس صدفة أن أبناء البوادي (الأرياف) أكثر هدوءاً وصبراً من المولودين في زحام المدن

 

هكذا تعوض وتجدد تربية طفل معنى الحياة في لحظات حاسمة. فحين يرى الفرد عبث عالم السياسة يرتد لعالمه الداخلي، يجد في تربية طفل منقذا من الخواء. لا يمكن لمن يربي طفلا أن يصاب بوباء العبث. وحده جاك (جاك نيكلسون) في فيلم كوبريك "شاينين" يعتبر ابنه سبب فشله الأدبي.  
إنَّ تأمل طفل ينمو هو تأمل تكرار تطوّر النوع الإنساني في مواجهة محيطه. مراقبة طفل أكثر تأثيراً في الناس من نقاشات البرلمان المضجرة، خاصة وأنّ الذئب حسم الصراع لصالحه. لذلك ليس صدفة أن الكثير من المناضلين قد اختفوا من الساحة بعد الزواج أو بعد إنجاب الطفل الأول. هكذا صار بناء الأسرة بديلاً عن بناء الدولة والمجتمع. هنا يصبح للنكوص معنى مختلف، يجدد  دوافع المناضل الموسمي، يصير لديه هدف طازج يستحق النضال من أجله. نضال طويل يحتاج منهجاً.
من مقومات هذا المنهج أن يتعلّم الطفل الاعتماد على نفسه منذ البداية.
لتعزيز التوجه، ومنذ مرحلة الحبو تم تحضير ملعب مثالي من أجل تربية تنمي روح الاستقلالية، تجري تربية الطفل في غرفة مفروشة بشكل سميك، حيث توضع وسائد بمحاذاة الجدار. هكذا يتوفر على فضاء واسع بدون حواجز، ولا يوجد به أيّ شيء صلب أو حاد، وكل ذلك لحفظ السلامة البدنية. هنا يقضي طفلي جل وقته، يحبو يقف يقع ينهض إلى أن يتعب. يحرره أمان بدنه من كل تهديد. ومن هنا تبدأ التربية. البرهان بالخلف: جسد مهدد يثمر روحا مرعوبة عدوانية. ليس صدفة أن أبناء البوادي (الأرياف) أكثر هدوءاً وصبراً من المولودين في زحام المدن.

 

هاني زعرب - فلسطين

 

في هذا الفضاء الآمن، يساهم اللّعب في التربية الوجدانية، تلعب معتمدة على طاقتها الذاتية، وحين تتعب تصرخ دقيقتين فتنام في الملعب.. تستيقظ وتشير للحقيبة التي ترافقها إلى الحضانة. مع الزمن صارت تقلد الحركات: تضع الهاتف في أذنها، تقلد الأصوات: ها، هيا، ماما، بابا، تطلب أن نلعب الغماية، تجرّ الغطاء لتغطي وجهها وتكشفه. تدفع الكرسي وتسير خلفه.. في الشهر العشرين تعرف أني سأخرج فتسبقني إلى الباب، تصرخ إن أغلقت الباب وهي تنظر، تقف في الباب لتمسكني كي لا أخرج فيقع قلبي..أجلس وأضمها.. هذه تربية تحتفظ بلمسة من فطرة الصلة بالأرض، أضعها في الملعب لتلهو، وقد تم إجراء تغيير فيه بإضافة عوائق وصعوبات تفرض التكيف وبذل جهد اكتشاف الاتجاه.. تلعب بالهاتف، تضغط على الريموت كونترول وتنظر للشاشة، تعرف أن هناك صلة بينهما، اخفي عنها شيئا فتبحث عنه، تعرف أنه موجود رغم أنها لا تراه.. وقد حاول طفلي وصل فأرة الحاسوب بالهاتف. لم يتمكن فرمى الهاتف من الشرفة وشرع يصرخ "هنا هنا".
في باب التربية، يعيش المجتمع المغربي عادة مفيدة. ففي السنوات الأولى للزواج تصطحب المتزوجة أمّها ويرحب الزوج بحماته التي تضع بصمتها على تربية الطفل الأول، تخصص له أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين.. طبعا تساعد الجدة على حماية المولود في المؤسسة الشعائرية، تستخدم بعض الطقوس لحمايته من العين الشريرة وتزرع فيه تعاليم القطيع، كما تعلمه بالحيلة، تربي الطفل كما يُصنع الفخار، بطريقة حلزونية، طفل كقطعة صلصال تحتاج الكثير من العمل لتصقل..  
تسأله الجدة بدل أن تأمره، لا تصرخ في وجهه، تعرف بالفطرة أن بكاء الطفل كل ربع ساعة يزعزع تشكل ونمو شخصيته. هكذا تبني تربية اللاعنف ذكاء الطفل.. تدندن له، ومع الزمن تحكي له لأن الحكاية وسيلة جيدة للتسلية وللتدريب على التوقع وتحليل المخاطر..
تقول الجدّات "إن الولد كالوتد يشدك للأرض كي لا تذهب بك الرياح"، ويضفن أنّ الذكر يولد وسط الكبد وكلما كبر خرج منه، بينما تولد البنت خارج كبد والدها وكلما كبرت دخلته. وقد كشفت دراسة نشرتها مجلة هارفارد أن آباء البنات أكثر مسؤولية..

 

في تربية اللاعنف

 

ذكرت منظمة يونيسيف أن تسعين في المئة من الأطفال المغاربة المتراوحة أعمارهم بين سنتين و14 سنة ينالون تأديباً عنيفاً. يتسبب التعنيف في انكماش عضلة الخيال لدى الطفل، والنتيجة أنّه يرى احتمالاً واحداً دائما ولن يكتسب أبدا كفاءة التوقع والتخطيط وحساب الاحتمالات. من يرى احتمالاً واحداً لا يستخدم عقله، هكذا ينتج العنف إنساناً ذا بعد واحد!
بنيتُ نظرية تربية طفلي على تجنيبه طوفان العنف الشديد الظاهر والمضمر الذي يتعرض له الأطفال في المجتمع المغربي. إنّ هذه الإستراتيجية تجيب عن سؤال محدد: كيف تربي طفلاً لا يكون عصبياً وعنيفاً؟
الطفل الذي يوصف بالحمار لن يعرف معنى الكرامة لأنّه تعود الإذلال، والرأس الذي يُضرب لا يتعلم الفهم. يعرقل التهديد الدائم بناء المخيلة. من لا خيال له لن يفهم. وأولاد العنف لا خيال لهم. تنكشف طريقة تربية طفل حين تكون الأسرة مسافرة، حينها تحرص أمه ألا تضربه أمام الناس مهما فعل، تخاف الأم على صورتها لا على طفلها. حين لا يُضرب طفلها لا ينضبط. بينما الطفل الذي تربّى باحترام يسهل التعاقد معه لأن مربيته تعمل على إدارة عقله لا إخضاع جسده.

 

الطفل الذي يوصف بالحمار لن يعرف معنى الكرامة، والرأس الذي يُضرب لا يتعلم الفهم. يعرقل التهديد الدائم بناء المخيلة. من لا خيال له لن يفهم. وأولاد العنف لا خيال لهم

 

يؤدي العنف اليومي إلى تحطيم الأنا وسحق الخيال. بسبب التربية والبيئة، أعلن مدرب للمنتخب المغربي لكرة القدم أنّ اللّاعب المغربي ينضج في سن الثانية والثلاثين. بشكل جد متأخر حين تكون لياقته البدنية خانته.. مع ذلك يحزن المغاربة كلما أقصي المنتخب المغربي دون أن يروا علاقة بين طريقة تربية الطفل ومآله في سن العشرين.   
يسحق العنف الفرد والمجتمع، من الصعب إعادة إعمار ما تحطم، خاصة حين يكون المتحطم هو كرامة فرد. الحل هو استباق منابع القلق لدى الطفل. حين يشعر بالأمان يترسخ الهدوء في أعماقه. حين يتوفر الأمان للجسد يعمل العقل بهدوء لأنّه يتحرر من الإكراهات. من يشعر بتهديد دائم لن يعمل عقله بهدوء، وستدفع أمّه الثمن طيلة عمرها مع طفل عاق. وحدهن النساء الصبورات تستطعن توفير الأمان لأطفالهن والحصول على المكافأة من طفل ذكي وعطوف.
من هو الأب الغبي؟ هو الذي يجلس ليرعى طفله فلا ينظر لعينيه بل يلعب بهاتفه، ويتساءل لماذا يبكي ولدي؟
لتجنب إنتاج الغباء يجب أن يكون للعلاقة بالطفل بعدٌ شاعري. وهذا ليس مفيداً للطفل فقط. لأنّ تربية طفل توقظ فيك الأحاسيس الأكثر عمقاً لكي لا تصدأ. كثيرون لديهم أطفال، لكن قليلين يعيشون هذه التجربة الوجودية، فكم من واحد سهر مع طفله وغير حفاضاته بعد منتصف الليل؟ الرجال يجهلون هذه التجربة الوجودية، لذا يقترح هذا النص على كل أب أن يترك هاتفه اللعين ليتأمل طفله ينمو، تأمل نمو هو تكرار لتطور النوع الإنساني في مواجهة محيطه. في هذه الحالة فإن تعبير "تعب طفلتي راحة" صادق وليس مجاملة.   
طفل أم طفلة؟  
هما توأم. طفل وطفلة مختلفان جداً شكلاً ومزاجاً، وهذا يفرض التعامل مع كل واحد وفق شخصيته.

مقالات من المغرب

للكاتب نفسه