اتّفاق "أوبك": فتّش عن السعوديّة

السعودية وقرار "أوبك" خفض إنتاج خام النفط.. القرار وافق على استثناء إيران، وهي كانت العقبة أمام إقراره، وكذلك دول من خارج أوبك. وهو أثار موجة ارتياح كبيرة في الأسواق العالمية. وثمة "مصلحة" مخصوصة لكل واحدة من الدول التي اتخذت القرار، من داخل أوبك (وبالاخص السعودية) ومن خارجه (وبالأخص روسيا)، وهما اكبر مخفضان لإنتاجهما..
2016-12-15

رامي خريس

باحث إقتصادي من فلسطين


شارك
حقل نفط في السعودية (رويترز)
توصّل اجتماع وزراء مُنظّمة "أوبك" الذي انعقد في 30 تشرين الثاني /نوفمبر في فيينا إلى اتّفاق يقضي بقيام المنظّمة بتخفيض إنتاجها من الخام الأسود، وذلك بعد عامين من موجة الهبوط التي شهدتها أسعاره في السوق العالمي. بحسب الاتفاق الأخير، ستقوم "أوبك" بخفض إنتاجها الكلّي البالغ حاليّا حوالى 33.7 مليون برميل يوميّا إلى ما يقربُ من 32.5 مليون برميل يوميّا ابتداء من كانون الثاني / ينايرالمُقبل، وذلك بمشاركة بلدان من خارج المنظّمة، وعلى رأسهم روسيا التي يُعوّل بعض مسؤولي "أوبك" على قيامها بخفض مقداره 300 ألف برميل يومياً ضمن الخطّة الجديدة.
التوصّل إلى الاتّفاق لم يكن أمراً متوقّعاً لدى الكثير من المُراقبين. فقد سبق للدول الأعضاء الاجتماع في العاصمة الجزائر قبل شهرين من لقائهم في فيينا، لكنّ الهوّة التي كانت تفصل بين مواقف إيران والسعوديّة آنذاك كانت لا تزال واسعة بما يكفي لمنع التوصّل إلى اتّفاق نهائي. كانت السعوديّة ترفض أيّ حديث عن تخفيض إنتاجها من دون أن تقوم إيران بخطوة مُماثلة، أو أقلّه التزامها بتجميد إنتاجها عند مستوياته الحاليّة، فيما الأخيرة تُجادل في أحقيّتها في الاستمرار بالإنتاج من دون تقييد حتّى تتمكّن من استعادة حصّتها السوقيّة التي خسرتها خلال سنوات العقوبات الدوليّة. أمّا روسيا، فلم تُبد رغبة في التعاون مع "أوبك" في أيّ خطوة لدعم الأسعار واستمرّت بزيادة وتيرة إنتاجها إلى مستويات هي الأعلى لها منذ ثلاثين عاماً.
بعض التقارير الغربيّة التي علّقت على الاتّفاق الأخير أشارت إلى أنّه جاء حصيلة مسعى ديبلوماسيّ على خطّ موسكو طهران الرياض، وأنّ التعهّد الذي نقله بوتين إلى الإيرانيّين بمشاركة روسيا في جهود خفض الإنتاج سهّل عليهم القبول بالاتّفاق في نهاية المطاف. فهل كانت "ديبلوماسيّة النفط" هذه العامل الوحيد وراء التوصّل إلى الاتّفاق أم أنّ هناك عوامل أخرى؟ وهل سيكتب للاتّفاق النجاح؟ وكيف يُمكن فهمه في ضوء التطوّرات الحاصلة في السوق العالميّ للطاقة خلال السنتين الأخيرتين، وفي ضوء تاريخ "أوبك" نفسها؟

جذور "أوبك" وسياساتها

تأسّست منظمة "أوبك" في مطلع الستّينيات كمظلّة سياسيّة لخمسة بلدان هي إيران، العراق، الكويت، السعوديّة، وفنزويلا، وذلك لتنسيق الجهود في مواجهة شركات النفط الغربيّة العملاقة المُسمّاة بـ "الشقيقات السبع"، والتي كان احتكارها شبه الكامل لعمليّة إنتاج النفط حول العالم آنذاك يُمكّنها من فرض شروطٍ غاية في الإجحاف على الحكومات المحليّة بشأن تحديد أسعار الخام وتقاسم أرباح إنتاجه وتكريره وتسويقه. ومع تسارع عمليّة تأميم الموارد النفطيّة والتحرّر من قوى الاستعمار الغربيّ في البُلدان المُنتجة للنفط، استقطبت "أوبك" المزيد من الدول إلى عضويّتها، وبرزت إلى الساحة العالميّة في السبعينيات بوصفها قطباً رئيسياً في سوق الطاقة العالميّ وعنواناً لعودة السيطرة الوطنيّة على الموارد النفطيّة في غير بلد، خاصّة أنّها كانت تُساهم بما يزيد عن نصف الإنتاج العالميّ في تلك الحقبة.
لكنّ صعود "أوبك" ودورها المُتنامي في سوق الطاقة العالمي لم يُغيّرا في حقيقة أنّها كانت بالأساس أشبه بـ "النادي السياسيّ" الذي جمع منذ البداية دولاً تتباين في وزنها وتأثيرها في سوق الطاقة وفي حجم احتياطيّاتها النفطيّة وأعداد سكّانها، وتختلف في ظروفها التقنيّة والاقتصاديّة ودوافعها السياسيّة (تضمّ "أوبك" في عضويّتها اليوم 13 دولة، وتجمع مثلا بين بلدٍ كالسعوديّة التي يزيد إنتاجها اليوميّ عن 10 ملايين برميل وبلد كالأكوادور التي لا يزيد إنتاجها اليوميّ عن 500 ألف برميل، وقد كانت إندونيسيا دولة عضو في المنظمة حتّى اجتماع فيينا الأخير، رغم أنّها كانت مستورداً صافيا للنفط خلال السنوات الأخيرة). وأوبك، على العكس من المُنظّمات التجارية أو السياسية التي يعرفها حقل العلاقات الدولية، لم تمتلك يوماً سلطة الإلزام على دولها الأعضاء، أكان في تبني سياسات طاقة بعينها أو في تحديد كميّات الإنتاج لكلّ بلد، الأمر الذي يدحض الفكرة الشائعة عن "أوبك" في الأدبيات الاقتصاديّة بوصفها كارتيلَ احتكارياً، وهي الفكرة التي لا زالت تتمتّع بحضور قويّ حتّى يومنا هذا.
في عام 1982، ومع انخفاض الطلب العالميّ على النفط وانهيار أسعاره، تبنّت "أوبك" لأوّل مرّة سياسة سقف الإنتاج التي كانت ترمي إلى إلزام الدول الأعضاء بالتقيّد بإنتاج حصّة مُحدّدة من الخام الأسود يومياً بغية التخلّص من فائض العرض في السوق ودعم الأسعار مُجدّداً. صُممت سياسة "الكوتا" الجديدة بناءً على معايير اقتصاديّة وتقنيّة مُختلفة، مثل تكاليف الإنتاج وحجم الاحتياطيّات وعدد السكّان والطاقة الإنتاجيّة لكلّ بلد. لكنّ معظم الدول الأعضاء لم تلتزم بالحصّة المُقرّرة على كل منها واستمرّت بضخّ الخام الأسود بمستويات أعلى، إمّا عبر التذرّع بظروف اقتصاديّة أو سياسيّة قاهرة أو من خلال تقديم بيانات غير دقيقة حول مُعدّلات إنتاجها التاريخيّة، أو تضخيم مُبالغ فيه لحجم احتياطيّاتها. وفي ظلّ عجز "أوبك"عن إيجاد آليّة مُراقبة فعّالة على هذه المُؤشّرات، وغياب قوّة إنفاذ القرارات داخلها، فقد فشلت السياسة الجديدة في تأدية المطلوب منها وتمّ تعليق العمل بها في عام 1986، خاصّة أنّ أسعار الخام استمرّت بالتهاوي بمستويات كبيرة مُهدّدة الحصّة السوقيّة لكبار المُنتجين. وفي الحالات القليلة التي تمكّنت فيها "أوبك" من دعم الأسعار لاحقاً، كما جرى في أعقاب الأزمة الماليّة العالميّة عام 1998، فإنّ خفض الإنتاج في الواقع لم يكن نابعاً من قرار طوعيّ لمعظم الدول الأعضاء بقدر ما كان خياراً قسرياً فرضه وصول الطاقة الإنتاجيّة في هذه الدول إلى مستوياتها القصوى، أو الحاجة إلى إصلاح الآبار النفطيّة وإراحتها من الضغط الشديد، ناهيك عن تحمّل السعوديّة بشكلٍ رئيسي لأعباء التخفيض.

الشيطان في التفاصيل

تُهيمن أشباح ماضي "أوبك" على تفاصيل الاتّفاق الأخير بوضوح. فبالإضافة إلى إعفاء كل من نيجيريا وليبيا من حصص الخفض المُقرّر بسبب الظروف الأمنيّة الصعبة التي تعيشانها، والتي أثّرت كثيرا على صادراتهما من الخام الأسود إلى الأسواق العالميّة، فقد جرى التوصّل مع إيران إلى مقايضة تتمتّع بموجبها بالحق في الوصول بمعدّلات إنتاجها الحاليّة إلى ما كانت عليه قبل فرض العقوبات (حوالى 4 ملايين برميل يومياً)، على أن تلتزم لاحقاً بحصّة الخفض المُقرّرة عليها بعد وصولها إلى هذا المستوى. وفي المقابل، ستتحمّل السعوديّة بحسب الاتّفاق العبء الأكبر من الخفض بمقدار 486 ألف برميل يومياً، فيما ستتحمّل العراق خفضاً مقداره 210 ألف برميل يومياً، والإمارات والكويت وقطر خفضاً مقداره الكلّي 300 ألف برميل يومياً، بينما ستتوزّع الحصّة المُتبقية على الدول الأخرى.
تفاصيل الاتّفاق أثارت موجة من الارتياح في الأسواق العالميّة ارتفعت على إثرها أسعار خام برنت في نهاية الأسبوع الذي أعقب اجتماع فيينا إلى 55 دولارا للبرميل، بزيادة مقدارها 16 في المئة، مقارنة بمستويات الأسعار قبل الاتّفاق. إلا أنّ التخوّفات لا زالت قائمة، وهي لن تنجلي قبل عدّة أشهر على الأرجح. فعلاوة على الاحتمال القائم بعدم التزام بعض الدول بحصّتها المقرّرة، فإنّ قدرة ليبيا على استعادة الضخّ بوتيرة أسرع بعد استعادة المرافئ النفطيّة من الجماعات المُسلّحة قد يُقلّص إجماليّ الخفض الذي ترمي "أوبك" إلى تحقيقه (ارتفع الإنتاج الليبي من 300 ألف برميل يومياً عشيّة السيطرة على المرافئ النفطيّة إلى 600 ألف برميل يومياً، وتسعى المؤسّسة الوطنيّة للنفط إلى زيادة إنتاجها إلى 1.1 مليون برميل في عام 2017)، والأمر ذاته ينطبق على نيجيريا.
أمّا العراق الذي وافق على مضض على تحمّل نسبة من التخفيض، فإنّ احتماليّة مشاركته الفعليّة فيه تُحيط بها الكثير من الشكوك في ظلّ حاجته الماسّة للموارد الماليّة تحت ضغط حربه على "داعش" وطبيعة عقود الصناعة النفطيّة الممنوحة للشركات الأجنبيّة بعد الغزو الأميركيّ للبلاد عام 2003 (تدفع الحكومة حسب هذه العقود قيمة ثابتة للشركات الأجنبيّة عن كل برميل نفط تُنتجه، وهي مُلزمة بالتالي بتعويض هذه الشركات في حال انخفاض الإنتاج). ويبقى الجزم بالتزام روسيا بالخطّة أمراً سابقاً لأوانه، خاصّة أنّها قرنته بالتزام كلّ دول "أوبك" في عمليّة التخفيض.

فتّش عن السعوديّة

في أواخر عام 2014، بدا أنّ أساسيّات سوق النفط العالميّ تشهد تحوّلاً نوعياً بسبب الزيادة غير المسبوقة في مُعدّلات إنتاج النفط الصخريّ الأميركيّ التي استفادت من سنوات ارتفاع أسعار الخام الأسود، الأمر الذي دقّ جرس الإنذار في الرياض، ودفعها لتبني استراتيجيّة جديدة للحفاظ على حصّتها السوقيّة عبر ضخّ المزيد من البترول في السوق. نجحت هذه الاستراتيجيّة إلى حد بعيد في احتواء التهديد الذي مثّله مُنتجو النفط الصخري، إلا أنّ المنافسة سرعان ما انتقلت من الغرب إلى الشرق بسبب الزيادات الكبيرة في الإنتاج العراقيّ والإيراني والروسيّ، وتدفقها بشكلٍ رئيسيّ إلى الأسواق الآسيويّة لتُزاحم السعوديّة على حصّتها هناك ولتدفع بالأسعار إلى مزيدٍ من الهبوط.
من هُنا، يبدو قرار السعوديّة الأخير في الدفع بـ "أوبك" نحو خفض الإنتاج مزيجاً من اعتبارات مُختلفة، أوّلها العامل الاقتصاديّ الضاغط على موازنتها واحتياطيّاتها النقديّة، خاصّة في ظلّ التعسّر الذي أبدته في السنة الأخيرة في دفع مستحقّات الشركات الخاصّة، وتعليق الكثير من المشاريع الحيويّة، واللجوء إلى الدين الخارجي، واستمرار ارتفاع تكاليف حربها على اليمن، وثانيها العامل السياسيّ المرتبط بتوفير الأجواء المناسبة لخططها المُزمعة للقيام ببرنامج خصخصة واسع النطاق بما يشمل أجزاء من شركة "أرامكو" العملاقة.. إذ سيكون من الأسهل تمرير هذا النوع من الإجراءات في ظروف ماليّة أفضل ممّا هو قائم الآن، وثالثها العامل الفنّي، إذ يعتقد الخبراء السعوديّون أنّ تخفيض الإنتاج في هذا الوقت ضروريّ لإراحة الآبار ولأنّه لن يُؤثّر على الحصّة السوقيّة للسعوديّة، لا سيما أنّ الخفض سيكون على الأرجح من الزيادة التي طرأت على الإنتاج المحلّي لتلبية الطلب المرتفع في أشهر الصيف وليس من مستوى الإنتاج الأصليّ، ولأنّ بعض البلدان المُنتجة في "أوبك" وخارجها قد وصلت فعلاً إلى طاقتها الإنتاجيّة القصوى، ولذلك فإنّ تخفيضها أو تجميدها للإنتاج سيكون تحصيل حاصل، وربما يُفسّر هذا المرونة التي أبدتها السعوديّة إزاء شروط إيران، لأنّها تُدرك أنّ الأخيرة لن تستطيع تحقيق زيادة كبيرة في طاقتها الإنتاجيّة قبل سنوات من الاستثمار الذي افتقدته خلال فترة العقوبات.
وبكلّ الأحوال، لن تتضح مفاعيل الرهان السعوديّ تماماً قبل رؤية الكيفيّة التي سيستجيب من خلالها منتجو النفط الصخريّ للارتفاع المُحتمل في الأسعار في العام المُقبل، وعمّا إذا كانت هذه الزيادة ستدفعهم لإعادة الإنتاج بوتيرة أسرع والتأثير على الأسعار مُجدّداً، وقبل أن تنجلي أيضا خطط الرئيس الأميركيّ الجديد، دونالد ترامب، الذي وعد بمنح تسهيلات كبيرة لشركات النفط الصخري، ومدّ خطّ أنابيب "كي ستون" من ألبرتا في كندا إلى خليج المكسيك، الذي سيقلّص الحصّة السوقيّة للنفط السعوديّ في أميركا، وأخيرا نياته المُعلنة لإعادة النظر في الاتّفاق النووي مع إيران، والتي يُمكن أن يكون لها تبعات على موقعها في سوق الطاقة العالميّ.. لننتظر كي نرى.

مقالات من السعودية

خيبة م ب س الاقتصادية

كان النزاع المدمر على سوق النفط، ودور السعودية - وبخاصة محمد بن سلمان- في تأجيجه، مقامرة وحماقة في آن. فإن كانت السعودية تخسر 12 مليون دولار يومياً مقابل كل دولار...

للكاتب نفسه

غزّة: الوجوه المُختلفة للحصار

رامي خريس 2016-07-27

حين غادرتُ غزّة في العام 2011، وكان الحصار الإسرائيليّ قد أرخى بغمامة سوداء ثقيلة على الأحوال المعيشيّة والقدرة الشرائيّة للناس لبضع سنواتٍ آنذاك، كان العديد من المشاريع الصغيرة كمحال البقالة...

"حماس" وتركيّا.. بين الحلم والواقع

رامي خريس 2016-07-14

مثّلت التجربة الأردوغانيّة خلال العقد الفائت نموذجا جذّابا للكثير من الإسلاميّين العرب. لم تأتِ هذه الجاذبيّة فحسب من حقيقة أن الحزب الذي أسّسه أردوغان تحت اسم "العدالة والتنمية" مطلع الألفيّة...