المسألة الفلسطينية الآن: التشابك مع إسرائيل والاشتباك معها (2)

دولتان لشعبين كان شعاراً مناسباً حتى غاية التسعينات ربما لكن حين نسافر إلى الضفة الغربية ونرى توسع المستوطنات وشبكات الطرقات نستنتج أنّ الفصل الديموغرافي من المستحيلات
2016-11-21

رجا الخالدي

باحث في التنمية الاقتصادية الفلسطينية


شارك
لاريسا صنصور - فلسطين

أجرت المقابلة نهلة الشهال

 

وهم الدولة الفلسطينية انتهى

 

تكلمنا عن مقدار التداخل بين فلسطين والوجود الإسرائيلي، لا يوجد أيّ قدرة للكلام عن فصل، وأنت أكدت ذلك في السفير العربي وغيره، ما هو الحل؟ الإسرائيليون في نهاية المطاف احتلّوا فلسطين وتوسّعوا لكن هم أمام شعب فلسطيني لا يختفي ولا تنقص أعداده على الرغم من أنّه فقير ومضطهد: الناس باقون لا يهربون، وهم موجودون بأرضهم ويمتلكون بيوتاً وغيره.. على المستوى السياسي، الإسرائيليون الذين يتكلّمون عن السلام الاقتصادي، وعلى اعتبار أنّ بإمكان الإسرائيلي إقناع الفلسطيني بأنه يعيش أفضل وبإمكانه الاكتفاء بذلك. المأزق واضح لكن هل تتصور أنّ الإسرائيليين يفكرون بأفق هذا المأزق؟ يقلقهم؟

 

كنت أراهن على العنصر الديموغرافي وما زلت. إسرائيل تعي أنّها لا تستطيع أن تتخلص من الشعب الفلسطيني، رغم أنّ هناك كثيراً من الأحزاب والقوى الإسرائيلية التي ترغب بذلك، وإنّهم لا "يرون" الفلسطينيين، يعني المستوطنون (حوالي 400 ألف في الضفة و200 ألف في القدس) لا يرون الفلسطيني، لا يرون الهضاب التي يعيشون عليها كما يراها العرب. يوجد مناطق تستغرب كيف يعيش المستوطنين فيها. لكن المؤسسة الإسرائيلية ترى الفلسطنيين بالتأكيد، وتفهم خطورة أيّ قوة فلسطينية سواء اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، وتعمل يوميّاً على إدارة هذا الوضع، وعلى ضبط الإيقاع أو على ضبط احتمالات التمرّد الفلسطيني، إنْ كان من خلال الجزرة الاقتصادية أو العصا الأمنية. المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بالذات تعمل ليلاَ ونهاراً على إدارة هذا الشعب الذي يحكمونه، وعلى التحكم بنا. مثلاّ تواجه القرى العربية في الشمال ظاهرة السلاح الشخصي المنتشر في كل القرى وعند كل الناس.. كل يوم يقتل أحد على خلفية جنائية أو غير جنائية، أو إثر شجار عائلي أو عن طريق الخطأ. أحد الناس الذين نعرفهم قتل أخاه بسبب خلاف تافه، والناس تتساءل أين الأمن الإسرائيلي وأين شرطة إسرائيل؟ ولماذا دائما الشرطة تأتي بعد وقوع الحادث ولا نراهم في لحظة التفاعل والحدث ولا يتدخلون؟ ما هي الحكمة من ذلك؟ هل إسرائيل معنية بخلق حالة فوضى عارمة في هذه القرى لكي تدفع الناس للانشغال ببعضها البعض حتى لا تفكر بمواجهة إسرائيل أو تنظيم نفسها والمطالبة بحقوقها؟ ربما لا يوجد تفسير آخر. في السابق كان السلاح فقط مع عملاء إسرائيل، الآن تفاجأ أنّ السلاح الفردي موجود في جميع الحارات.
في الغور الفلسطيني التابع لمناطق "c"، لا رصاصة أو حجر وُجّهت إلى دورية أو سيارة إسرائيلية منذ الإنتفاضة الثانية، لأنّ وضع المزارع الفلسطيني هش في هذه المناطق. حالته تعبانة، لا يقدر أن يغامر هكذا مغامرة، وإسرائيل تعي هذا الشيء جيدا، والمستوطنون الإسرائيليون في الغور يعون أنّ لا أحد سيؤذيهم.. ولكنّهم لا يجرؤون على دخول الأحياء العربية في القدس. عندما دخلتْ سيارة إسرائيلية مخيم قلنديا قامت الدنيا ولم تقعد ولم يكن أحدٌ يعرف لكن بالأخيرعرف الشباب في المخيم وهاجموهم. المقصود أنّ الإسرائيليين واعون تماماً أنّ هذا الشعب لا يحبهم ولا يرغب في تحكم الإسرائيلي به وعندما يديرون ظهرهم فهذا الشعب سيقوم ضدهم.

 

أفق الوضع الحالي: الاحتلال باقٍ

 

وهي لا تعتبر هذا مأزقاً؟ ما هو الأفق وإلى متى؟

 

إنّها إدارة الصراع إلى أن يتم ترويض وخلق نظام فلسطيني موالٍ لإسرائيل. وهذا إلى حد الآن غير موجود. فبغض النظر عن كل ما يقال عن التنسيق الأمني، لا تزال المؤسسة الفلسطينية الحاكمة تسعى للتخلص من الاحتلال، وما زالت تطالب بحقوق الفلسطينيين، ولا تؤدي الخدمة التي تريدها إسرائيل منها تماماً. يوجد نوع من حالة الهدنة، وهذه الهدنة تحسب من الجانب الفلسطيني ــ حسب القيادات الفلسطينية ــ بأنّه طالما نحن موجودون  فذلك أفضل من أن نطرد، ليس كزعماء أو قيادات (بالتأكيد هناك من يريد الاحتفاض بسيارته وبيته ومنصبه وسلطته وامتيازاته ولا يريد أن يطرد إلى تونس أو الأردن ...)، لكن مبرّر وجود القيادة الفلسطينية ليس هذا، إنّما أن الإبقاء على حالة نضالية  تتطلب بقاء الشعب الفلسطيني وتأمين احتياجاته. في الـ2011 أو 2012 شاركتُ في ندوة نظمتها الأمم المتحدة، وكنت قد كتبت نقداً لحكومة سلام فيّاض والتوجّه الليبرالي للسياسات الاقتصادية، وفكرة أن نستطيع بناء دولة من خلال حسن السلوك أو نفرض دولة، وشارك في الندوة وزير التخطيط وشخصية قيادية ثانية، وأنا بوصفي من الأمم المتحدة. لكنني فلسطيني، وأعرفهم جيدا. ألقيت الكلمة وكانت شديدة بعض الشيء. قال لي أحدهم وهو مع فتح "نؤيد ما تقول لكن لا نريد أن نقوله بالعلن". المعنى: يهمنا الاستفادة من سلام فياض على اعتبار أنّ له أصدقاء في الغرب، وقد حسّن صورة الفلسطيني هناك، وهدفنا أن نُبقي الناس على الأرض.

 

لكنّ الناس لن يرحلوا. ماذا تستطيع إسرائيل أن تفعل؟ لن تستطيع القيام بتهجير جماعي؟

 

لا ليس تهجير جماعي لكن استنزاف متواصل للطاقات والشباب، دفع الشباب للدول العربية والأردن وأوروبا. من وجهة نظرهم، إنْ لم يكن هناك حد أدنى من الازدهار فالناس سوف تذهب أو تُحبط. فبالتالي رؤيتهم أنّه طالما نحن نؤمن لقمة العيش والمعاش وشيئاً من الحياة الكريمة، سيبقى شعبنا على الأقل ملتفاً من حولنا وحول القضية ويبقى في البلد ولا يهاجر. وهذا هو الحد الأقصى الذي نقدر أن نقوم به. ورأيهم أنّه يجب ألّا ننتقد أداء هذه الحكومة لأنّ هذا ما نقدر عليه. شخصياً أصبحت أقلّ شدّة وأتفهم منطق المؤسسة الحاكمة، بمعنى أنني بت أفهم أنّ أيديهم مقيّدة، والأدوات السياسية والاقتصادية  لديهم محدودة جداً.

 

لنفترض أنّهم ليسوا موجودين، وقالوا للأمم المتّحدة تفضلوا وقوموا بإدارة الوضع، نحن أصابنا اليأس والعجز ولا نريد أن نأخذ بصدرنا واقع الاحتلال. وهي دعوات تكررت كثيراً بأن تعلن السلطة حلّ نفسها وتسلم الأمم المتحدة مسؤولياتها. ما هي تبعات هذا؟

 

كيف من الممكن أن تقول منظمة التحرير هذا الشيء؟ هي استلمت مسؤولية إدارة شعبها بغض النظر عن الشروط، ومثل هذا الكلام معناه أنّها تحلّ نفسها تماما وليس أن تذهب إلى عمان وتونس وبيروت، بل تكون انتهت. ما هو الإنجاز الفلسطيني غير منظمة التحرير، مع كل مساوئها وعجزها وسوء إدارتها؟ لا، ليس لدينا إنجاز فلسطيني ثانٍ. أنا لا أسمي السلطة الفلسطينية إنجازاً بل هي واجب، هم مجبرون بعمله وهم طوّروه قدر الممكن. لكن كيف لمنظمة تدعي تمثيل شعبها أن تتخلى عن نصفه وتسلمه للأمم المتّحدة؟ وعلى الرغم من اعترافنا بفشلها، والحركة الفلسطينية المعاصرة فشلت، لكن ليس معنى ذلك أنها تنتهي. ليس كل من يفشل ينهي نفسه.

 

تتحول السلطة أكثر فأكثر إلى شكل من "الإدارة المدنية"، وهذا مشروع إسرائيلي نموذجي..

 

حتى لو حُلت السلطة سنبقى بحاجة إلى إدارة مدنية، افضل من أن يحكم الشعب الفلسطيني ضابط إسرائيلي.

 

ربع الموازنة الحكوميّة تُنفق على الأمن

 

لكن الأفضل ألا يكون هناك ادّعاء أننا في إطار حلٍّ سياسي. السلطة اليوم ليست في طور حلّ سياسي، ولا تملك أفقاً سياسيّاً، وهذا الحال ليس نتاجها. لنحيّد الفساد والقصور وكل شيء. يبقى أن السبب هو إسرائيل. العقبة إسرائيل والوهم أسمه الدولة.

 

في الحقيقة وهم الدولة ذهب. المحاولة الأخيرة للتوصل إلى حل سلمي كانت في المفاوضات التي استمرت إلى عام 2000، وفكرة أن "الدولة آتية" انتهت. على سبيل المثال، تُعدّ السلطة اليوم خطتها التنموية السداسية بدلاً من الثلاثية، ولأوّل مرّة منذ 7 أو 8 سنوات، لا تفترض الخطة انتهاء الاحتلال خلال الفترة الآتية ولا تركز على حتمية إقامة الدولة. هذه الواقعية برأيي من أهمّ إفرازات الفشل الذي تكلمنا عنه. أي أنهم اضطروا إلى القول أمام شعبهم أنّهم لن يستطيعوا في هذا الجو العالمي والإقليمي والإسرائيلي أن يَعِدوا بإقامة دولة في الفترة القريبة. وبالتالي فالاحتلال باقٍ، لكن نحن نريد أن ننظم أنفسنا ضمن هذا الواقع. إدارة ذاتية واقعية دون أيّ تعهد بأننا لن نقاوم وأنّنا سنتخلّى عن الأهداف الوطنية. في الوقت نفسه نجد السلطة أمام ضغوط مطلبية، مثلا إضراب المعلمين هزّ أركان السلطة الفلسطينية والوزارات المعنية، واضطر أبو مازن إلى التدخل وعمل أسبوعاً على حل هذه المشكلة ولو جزئيا. وآخر حركة هي الضمان. هناك أكثر من صندوق تقاعد حاولوا تنظيمها ضمن قانون موحد بشكل لم يلبِ غرضه بعد 5 سنوات من الجدل والحوار المجتمعي والقانوني والدراسات... إلى آخره. وفي الأخير نفذوا القانون بشكل سريع دون أخذ بالاعتبار للكثير من المشاكل، مما خلق حالة احتجاجية جديدة بعد إضراب المعلمين، فاضطرت الحكومة إلى التراجع، وأصبحت السلطة مجبرةّ على حل مشاكل الناس كونها تدّعي أنّها إدارة فلسطينية وطنية. لكن في الوقت نفسه فأدواتها القانونية والتطبيقية ضعيفة، والمؤسسة العامة بحاجة لموظفين كونها بيروقراطية كبيرة. مثلا وزارة الشؤون الإجتماعية لديها مفتش واحد في كل محافظة للحضانات. هناك مشكلة في تخصيص الموارد المتاحة، وهناك خلل كبير، حيث أنّ 25 في المئة من موازنة الحكومة تُنفق على الأمن، و25 في المئة على التعليم والصحة. هناك جدل متواصل، وطالما أنّنا أمام أفق ليس فيه  تحرير ولا دولة ولا سيادة، فمن اللازم أن يكون هناك عدالة أكبر في توزيع الموارد. مثلا المعهد الذي أعمل فيه ينظم الآن مؤتمراً اقتصادياً في شهر 9 وقمنا ب 4 ندوات تحضيرية، وعناوين المؤتمر البطالة والفقر، وسوء توزيع الدخل، وسوء توزيع الموارد ما بين المناطق، وضرورة دعم الصناعة الوطنية، والزراعة. فهناك تركيز على ما يمكن إنجازه لكن بعيدا عن توهّم أن تؤدي الإنجازات إلى تحرير البلد. هذه الإنجازات هي لتأمين حد أدنى من العدالة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي المتواصل، وبناء أركانٍ للمستقبل وتقوية النفس اقتصاديّاً على أمل أن نُعزّز موقعنا في المعركة الأكبر. تعزيز التواصل بين الضفة وشمال فلسطين سيحسن من الأداء  ويجعل الحكم يبدو أكثر مسؤولية أمام الشعب.

 

هل نحن أمام فترة إدارة ذاتية للناس الموجودين في كلّ فلسطين.. بانتظار أن يتّضح أُفق نضالي لمرحلة أخرى عناوينها مختلفة؟ لا يمكن حلّ المسألة الفلسطينية داخليّاً، فلا هي نشأت على أسس محلية ولا تُحل على أسس محلية،. فهل المهمة المركزية اليوم هي إدارة الحياة اليومية للناس بأكبر جدارة ممكنة وبأحسن الشروط الممكنة.

 

نعم، لكن إن وقفنا هنا فثمة خطورة، ومعناه أن نكون قد قبلنا بالاحتلال. هنا ينفتح أفق آخر وهو الدولة الواحدة، وهي الواقع الذي نعيشه دون مواربة.

 

الدولة الواحدة هو ما نعيش فعلياً

 

لا المقاومة ستقضي على إسرائيل ولا إسرائيل قادرة على طرد الفلسطينيين خارج فلسطين! ولنفترض أنّ المؤسسة الإسرائيلية انهارت بفعل الكثير من العوامل، ليس الداخلية فحسب ولا العائدة للمقاومة فقط.. إلا أنه سيبقى في النهاية عدة ملايين من اليهود الإسرائيليين الموجودين على الأرض. وعودتهم إلى أرض أجدادهم، مثلا في بولونيا أو سواها، هي مجرد شعارات. الآن هناك بلد متساوي بعدد السكان بين العرب والإسرائيليين اليهود، وهذا واقع موجود وقد يتغير قليلاً مع تغير الشرط السياسي لكنّه سيظلّ واقعاً لا بدّ من التعامل معه. وبهذا يصير وجود الفلسطينيين والمقاومة على مستوى الحياة اليومية نوعاً من الاستعداد لأفق آخر غير وجود في الوقت الحالي..

 

أنا شخصيا أوافق. دولتان لشعبين كان شعاراً مناسباً حتى غاية التسعينات ربما لكن حين نسافر إلى الضفة الغربية ونرى توسع المستوطنات وشبكات الطرقات نستنتج أنّ الفصل الديموغرافي من المستحيلات. من جهة ثانية الهوية العربية عند الفلسطينيين وعند فلسطينيي 48 تتقوّى ولم تذب. بالطبع هناك أسرلة وهناك حالات اندماج، مثلا ملكة جمال "الكويرز" في إسرائيل كانت مؤخراً عربية. لكن الانفصال بين اليهودي والعربي موجود عمليّاً في كلّ مكان من الشمال إلى غزة، وفي القدس. لا يوجد انصهار للشعبين ولكن إمكانية الفصل الجغرافي صعبة، أنا أتساءل وأعتقد أنّ على الفلسطينيين جميعاً أن يتساءلوا عن ماهية انهيار إسرائيل. ربما انهيار كلمة كبيرة، لكن لنتساءل عن التناقضات داخل إسرائيل. نحن في الوقع لا نعمل على هذه التناقضات، ولم تركّز سياساتنا يوماً على تعزيزها كما تفعل إسرائيل معنا. هناك دولة تل أبيب وهناك دولة يهودا والسامرة كما يأتي في الإعلام الإسرائيلي، وآخر ما حصل بين نتنياهو ويعلون يعكس الأمر نفسه. ليست المسألة فقط في التوجه نحو الفاشية في إسرائيل، بل هي مسألة أنّ هناك من يريد أن يبني الدولة اليهودية الخالصة في كلّ أرض إسرائيل، وهناك من هو مستعدّ لأن يعيش خلف الجدار ولا يرى عربيا ولا يحكم عربياً حتّى. هذا تناقض كبير، وهو إلى حد ما مرآة التناقض بين المتدين والعلماني وبين المستوطن ومن لا يريد أن يستوطن. هذا التناقض قد يزداد بحكم الخلافات بين اليهود أنفسهم، لكن ما الذي يستطيع الطرف الفلسطيني عمله لتعظيم هذا التناقض وزيادة الصراع الإسرائيلي الداخلي، الذي ربما يكون المفتاح لنضالات جديدة موازية، على أقل تقدير للحصول على الحقوق الفلسطينية وللقضاء على الفاشية الإسرائيلية؟

 

تعرف أنّ الضعيف يحاول دائماً أن يحافظ على تماسكه بتحويل عدوه إلى كتلة واحدة. ينزعج الكثير من الفلسطينيين، وينظرون بعين الريبة للحديث عن مظاهرة من ألف يهودي مثلاً ضد نتنياهو وسياساته، وأنها شيء ثمين، فهم يعتبرون أنّ ألف شخص لن يغيّروا شيئاً. لدينا حلفاء داخل إسرائيل حتى ولو كانوا ضعفاء وغير مؤثرين، أن وجود سيدة كعميرة هاس أمرٌ ثمين. ينظرالمستاؤون الى ذلك على أنه وهم، ويرون أنّ الواجب هو تحويل الإسرائيليين كُتلة واحدة صمّاء. الإسرائيليون ليسوا كتلة صماء، وليس من مصلحتنا أن يكونوا كذلك. وصحيحة عدم قدرتهم على اقتلاعنا، لكننا لا نستطيع في الوضع الراهن وحتى في الأفق الظاهر اقتلاعهم. فإذا تخلى الإسرائيليون عن تسلطهم وعن كونهم الحاكمون وحدثت مساواة بين الطرفين في المواطنة. أيّ مشكلة ستبقى؟ هل أنّهم يهود؟ّ

 

لا ليس هناك مشكلة. نحن اعتدنا عليهم بعد 50 سنة من الاحتلال، لا بل 70 سنة و100 سنة، رغم ظلمهم، اعتدنا على وجود ثقافتهم. المشكلة أن تصبح الحقوق المعيشية هي الحقوق الوطنية وحق تقرير المصير الفلسطيني الوطني. الرموز والعلم وجواز السفر وكل شيء بالضفة متوفر ولكنه صار مملاً من فرط التشديد على Pal قبل كل اسم. يوجد ثقافة وموسيقى ومحمد عساف وكلّ شيء. لدينا كل الرموز الوطنية، أي أنّ الدولة الفلسطينية موجودة رغم كونها محتلة ولا تتمتع بالسيادة. النظام السياسي الفلسطيني رغم شوائبه وخلله موجود، الفساد الفلسطيني موجود، وكذلك المجتمع والتقاليد... بالتالي نحن حققنا جزءاً كبيراً من طموحنا الوطني، الناقص هي الحقوق الوطنية. فكيف يمكن إعادة تعريف النضال الوطني أو ما تبقى من التحرر الوطني بمفاهيم اجتماعية مطلبية حقوقية؟ هذا هو التحدي من أمامنا.

 

هنا اصطدام مع الهيمنة. وهم يجنون ويذهبون نحو "يهودا والسامرة" و"الأرض الموعودة" و"القدس عاصمة أبدية".. هذه هي تناقضاتهم، وهم مجانين ومتطرفين وفاشيين ويزدادون تطرّفاً. ما هي الوسائل المتاحة عند الفلسطينيين؟

 

ينتقد أبو مازن كثيرا لكن واحدة من إنجازاته هي الحوار مع "اليهودي". هذا أقلّ جانب يقدر عليه، هو دائماً يدعو مجموعات من اليهود وخصوصاً الشرقيين. أضعنا وقت طويل وكثير من الجهود على المشاريع المشتركة واعتبارها الطريق للسلام لكن عدم مخاطبة الإسرائيلي خطأ فادح. مثلا عندما طُردت عميرة هاس من جامعة بيرزيت.. نتخاطب مع الجميع. مع اليمين واليسار. مع العدو والصديق. المهم هو خطابنا. لا يجب أن نظهر كمن يريدون السلام لأننا أناس جيدون بل يجب أن يرتكز الخطاب على أنهم أجرموا فينا ونحن لنا حقوقنا. مثلا فيلم "نون وزيتون" يقول عنه الإسرائيليين إنه وضع الخنجر على أعناقهم دون أي عنف وأظهرهم مجرمين دون أي طلقة أو قطرة دم. هذا ما يجب أن يكون، أن نأخذ المنطق الأخلاقي الأعلى بحسب تعبير الإنجليز. فالمخاطبة تكون من المرتفعات الأخلاقية وليس من منطق حبّ السّلام وطلب القبول. الإقتصاد جزء من هذا الحوار، ولا أتحدث هنا عن الشراكة الاقتصادية، بل عن بناء قوة اقتصادية منافسة في بعض المجالات أو تساعد على الاستغناء عنهم على الأقلّ. مثلا عندما أوقفوا الاستيراد لخمس منتجات إسرائيلية، رأينا السلطة الفلسطينية لأوّل مرة تتجرّأ على تحدّي لوبي اقتصادي تجاري إسرائيلي، هذه وسيلة من الوسائل المهمة: قطع العلاقة الاقتصادية أو على الأقل الانفصال اقتصادياً عن الإسرائيليين.

 

إلى أي مدى هذا الأمر متاح؟ وما الذي يعرقل في وجود استثمارات؟

 

هذا يعتمد على مدى قدرتنا على الاستثمار في اقتصادنا. بقدر ما تسهل عملية الاستثمار في الصناعات الغذائية للمستثمر المحلي الفلسطيني بقدر ما يمكن الاستغناء عن الحليب الإسرائيلي والخضروات الإسرائيلة... مشكلة القطاع الخاص – وهذه مشكلة في كل العالم- هي أنّ حماية الإنتاج الوطني في عصر العولمة والتحرير التجاري أصبح ضعيفاً بل وممنوعاً حسب منظمة التجارة العالمية. لكن الفلسطينيين غير ملزمين بمنظمة التجارة ويمكنهم فعل ما يريدونه، اتفاقية باريس تُمكّنهم من رفع الجمارك عن كل السلع إن أرادوا. فأحد العوائق هو العقيدة الاقتصادية التي تفترض أنّ تحرير التجارة هو وسيلة الاندماج، بينما في الحالة الفلسطينية يُمكن القول إنّ تقييد التجارة في بعض القطاعات ضروري لبناء قاعدة صناعية مثلاً. الزراعة الفلسطينية يجب أن تُعتبر إرثاً وطنياً كما هي الحال في فرنسا، وهذا قطاع استراتيجي له علاقة بحضارتنا وثقافتنا ورزقنا وأمننا الغذائي. لذا يجب تنشيط الضابطة الجمركية التابعة لوزارة المالية ومن المفروض أن يكون لها دور أكثر فعالية في منع تهريب البضائع الإسرائيلية على أنّها فلسطينية. يقال إن بعض المواد تخرج من الضفة على أساس أنّها فلسطينية بينما هي مصنوعة في المستوطنات. هذه الأمور يمكن ضبطها، ودعونا لا ننسى أنّ المنطق الاقتصادي الحاكم هو أنّ على الدولة الابتعاد عن الاقتصاد أن تضع القوانين ولا تراقب. لكن برأيي في هذه الحالة يجب أن تكون السلطات العامة نشطة في الاستثمار. مثلا، السلطة الفلسطينية تحصل على 900 مليون دولار سنوياً من الدول المانحة لكن غالبية هذه الأموال تضخ في الرواتب، وهذه السياسة بدأت في الـ2001 مع بداية الإنتفاضة الثانية، على افتراض أن الاقتصاد آخذ في الانهيار وأفضل ما يُمكن فعله هو أن تُعطى الأموال للمواطنين فيحرّكون العجلة الاقتصادية. هذا كان ضروريّاً لفترة الانتفاضة، أما اليوم فيجب وضع كلّ الـ900 مليون في الاستثمار الحكومي العام، في المباني والشوارع والمنشآت والمرافق المساندة أو البنية التحتية الاقتصادية. لو كان دور الدّولة في الاقتصاد أكثر نشاطاً فسيحذو القطاع الخاص حذوها لأنّ الدولة حين تغامر فهي تُقدّم حماية لرجال الأعمال في الاستثمار. هناك وسائل إذاً لكن يجب إعادة التفكير وامتلاك الرؤيا.

 

المقابلة بالتعاون مع إذاعة الوضع Status Hour

مقالات من فلسطين

أيرلندا تتبرّأ من عار بايدن

2024-03-21

ليس التماهي الصادق والعميق الذي يعبر عنه عموم الأيرلنديين تجاه الفلسطينيين وقضيتهم جديداً في أيّ حال من الأحوال. الآن، خلال الإبادة التي تتعرض لها غزة، وقبلها، وعند كل منعطف وحدث،...

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...

للكاتب نفسه