عن مخطوطنا العربيّ وتماسات الوعي بالتراث

يكتسب المخطوط التراثيّ العربيّ، كتابةً أو رسماً، راهنيته من وجوه عديدة، لعلّ أهمّها هو كونه وثيقة تحيل إلى حقب سابقة من الحضارة التي تتصل بذواتنا كأفراد أو تُعرِّفنا كجماعة منتجة للثقافة. والإحالة في هذا الحيز ليست محايدة بطبيعة الحال، بل يشوبها قدرٌ بالغ من الحساسية المعرفية التي تُلِزم النظر من خلال النصّ/ المخطوط إلى الوراء، لا في سبيل الإقامة في زمن مغاير لا يمت إلى الراهن بصلة، بل لأن التعلق المعرفيّ بالنصّ أو بالأثر هو في العمق تمكينٌ للراهن من خارج دائرة الاغتراب.
2016-08-03

حسن نصّور

كاتب من لبنان


شارك
عرض لمخطوط من القرآن الكريم يُعتقد أنه الأقدم في جامعة برمنغهام، بريطانيا

يكتسب المخطوط التراثيّ العربيّ، كتابةً أو رسماً، راهنيته من وجوه عديدة، لعلّ أهمّها هو كونه وثيقة تحيل إلى حقب سابقة من الحضارة التي تتصل بذواتنا كأفراد أو تُعرِّفنا كجماعة منتجة للثقافة. والإحالة في هذا الحيز ليست محايدة بطبيعة الحال، بل يشوبها قدرٌ بالغ من الحساسية المعرفية التي تُلِزم النظر من خلال النصّ/ المخطوط إلى الوراء، لا في سبيل الإقامة في زمن مغاير لا يمت إلى الراهن بصلة، بل لأن التعلق المعرفيّ بالنصّ أو بالأثر هو في العمق تمكينٌ للراهن من خارج دائرة الاغتراب. وهكذا إذاً فضمور الوعي التراثي هو سقوط في الاغتراب.

نعرف أن غالبية المخطوطات الأقدم والأثمن هي الآن مرصوفة في المعاهد والجامعات الغربية. (البريطانية والألمانية تحديدا). ولا حاجة لتكرار سياقات نقد مفاهيم "الهوة الحضارية" عطفاً على قرون من البحث ومن جهود تيارات الاستشراق العلمي المتصلة بالاستعمار. وعلى ذلك، فالدراسات التأويلية للمخطوطات والنصوص تجيّرها، عن قصد أو غير قصد، تبعاً لأمزجة الحركة المعرفية الغربية منذ نشأتها. ونعني بالتجيير ــ مع الاعتراف بأهمية تلك الحركة العلمية ــ فرض مزاجات تأويلية على النصوص قد توقع في شبهة الإكراه. بمعنى أن التأويل، على أهميته، بما هو تفتيح معرفيّ للنص في تأسيسات حضارية مغايرة، قد يطمس أو يمارس إكراها على مستقبله "الآخر" (الذات العربية هنا)، في مقابل الفقر الأكاديمي والمعرفي الراهن الذي تعيشه الحضارة العربية.

مثال

آخر ما ورد أن مخطوطاً قرآنياً قد وجد بالصدفة قبل شهور في جامعة برمنغهام البريطانية، وأن تحليلاً بأشعة الكربون قد أشار إلى احتمال أن يكون الأقدم، وأن كاتبه هو في الأرجح معاصر للنبي. بقي النصّ القرآني، نظرا لمستويات التحصين التقديسي، نصّاً آمناً في بيئاته المحافظة ومجالاتها. على أن تحقيقات النصوص المعرفية التراثيّة الثانويّة التي اجتهد المستشرقون في تحقيق أغلبها، دخلت مجالات التأويلات العقلانية التنويرية. وهي مجالات تأسست في مجملها على مركزية العقلانية العلمية الغربية في نظرتها إلى هذا المخطوط أو ذاك كمجال لبناء الآخر، بما يتيح الهيمنة من خلال إقامة الآخر في مربع المهيمَن عليه.

في وقت سابق من العام، حددت مكتبة تلك الجامعة موعداً للراغبين بزيارة معرضٍ يتاح فيه مخطوط القرآن الأقدم المكتشف حديثاً. يأخذ توافد الراغب العربيّ إلى المعرض بعداً استبطانياً، إذ لا تكون الزيارة إلا شكلاً من أشكال الدخول في ذلك البعد المحجوب للحاضر/ الغائب الذي خط تلك الكلمات المتقادِمة المؤسَسة في حضرة منشِئ النص ربما. في الظاهر، لا يستبعد دارس المخطوط العربي ذلك المستوى من دراسة النص أو مجمل نصوص الحضارات المقدسة، وإن كان النص العربيّ مؤسَّساً على فكرة الاعتناء الشكلاني الفنّي باللغة كحامل للوحي، بمستوى الاعتناء بالمضامين والتفسيرات.

شعورياً وجّماليّاً

يقيم المخطوطُ العربيّ الفرد المتلقيّ في مجال شعوريّ بدهيّ من الحميميّة. يعكس هذا المجال الشعوري مستوًى من جدالات الهوية. الهوية المتصلة براهن الوعي بالتراث في الثقافة العربيّة. تشتبك الحميمية بمجمل الحساسيات التي تتصل بالسلطة العربية المتقادمة على مجالات الإنتاج المعرفي في ما يسمى "العصور الوسطى". وفي سياق موازٍ، يستدرج اشتغال الأكاديميا الغربية على ترتيب المخطوط ونشره في مواقع الشبكة تبعاً للكليات، ودراستها بدقة وعناية وإقامتها في منظومة شائكة من التعريفات والإحالات إلى الهوامش والمصادر، يستدرج وعياً فنياً مضافاً إلى حميمية الشعور البديهي.. وعياً بجمالية الدقة والجمالية الناشئة من طرائق الرسم والتخطيط التي اكتسبت في الراهن ــ فوق كونها إرثاً حضارياً ــ أبعاداً فنية تحيل إلى مستويات من الالتباس الفردي الشعوريّ في التعامل مع مادة ثمينة من هذا النوع. هكذا، يكتسب مخطوط كتاب (علميّ أو أدبي أو فلسفيّ..) قيمته المضافة جمالياً من واقعة وجوده الفعليّ أولاً، ومن كونه مادة افتتان وموضوعة راهنة للعناية حفظا وتأويلا، تالياً. يغدو المخطوط صفحة صفحة، تفريقاً أو جمعاً، سلسلة جمالية من اللوحات.

يتجوهر المخطوط ، بالضرورة، في البيئة الأكاديمية المناسبة. وهذا حال المخطوط المنتشر على مواقع الإنترنت ذات الصلة بالجامعات الغربية الكبرى والمتاحة للدارسين. في حين تتكدس المخطوطات العربية في البلدان العربية والإسلامية، أي مواطنها الأصلية، بكمٍ قد يفوق تلك المحفوظة في الأكاديميا الغربية. على أنها واقعة في بيئة تفتقر إلى المستوى المطلوب من الوعي بالمغزى العام له من ضمن السياقات التثاقفية الكبرى. وهذا ما يحيل إليه غير دارس من المستشرقين أو زائر في المعاهد الغربية، في الشكوى من فقر الجهود لتحقيق مخطوطات كثيرة ومتفرقة ومحفوظة في مكتبات الشرق وتحتاج إلى جهود مضاعفة شاقة للتعامل معها أو وضعها في السياق الصحيح.

وجود شطر وازن من المخطوطات العربيّة الثمينة في الجامعات الغربية يساهم بقدر كبير في أشكلة سؤال الهوية العربيّ. هذه المحايثة ليست وجوداً محايداً في المكان / الآخر "المتفوِّق"، أدواتاً وقدرةً على إقامة مجالات رمزية من التفسير، بل هو بشكلٍ ما استلاب يعيد تفتيح مجمل الإشكالات الهوياتية التي تتصل بموقع الأكاديميا الغربية في الذهنية الفردية العربية الراهنة.. وتتصل بمغزى وطبقات معرفتنا الذاتية بالمنتج التراثيّ العربيّ.

في الخلاصة، ينتمي المخطوط العربيّ كمنتج حضاريّ، وفي مستوى من مستوياته، للتراث الإنسانيّ العام. الإشارة إلى جانبٍ من حضارة العرب (الصلة بالمخطوطات) هو بالضرورة طاقة محجوبة تستدرج الحاجة للرؤية إلى المادة التراثيّة العربيّة لا كقطعة أثريّة جامدة مركونة، بل كحاجة هوياتية تدخل في مجمل أسئلة الراهن وتكوينات الوعي المركّب باللغة والتعبير والاستحضار الإيجابي لمستويات بالغة الثراء من تراثنا الضخم.

نعرض للقارئ، مثالا لا حصّرا، رابطاً من الشبكة فيه ترتيب لصفحات كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" لأبي زكريّا القزويني، من محفوظات متاحف وجامعات بريطانيا، هارفرد وكامبريدج على وجه التحديد.

للكاتب نفسه

مدخل إلى تداولات المعجم الجنسانيّ العربيّ

حسن نصّور 2016-01-13

الكتابة، ابتداءً،عملية ذاتية. إنّها أيضا جهد تراكميٌّ يخضع، إلى حد بعيد، لمؤثرات موضوعية تتصل بالحقل السوسيولوجيّ. ولهذه العملية صفة التركيب. فالظاهر أن الفرد (الكائن الاجتماعي) يحدس بذاتية عالية إذ ينشئ...