رمضان، سنواتُ الليبرالية والحرب

يجيء رمضان هذا العام بحذر، يطلُّ هلالهُ متوكئاً على مخاوفَ لا تهدأ، فرائحة الغلاء تترسّب فوق الأفواه الصائمة طبقاتٍ إضافية من عرقٍ أبيض لا تزيحها حبّات التمر الرطبة، ولا كأس الماء ساعة الإفطار، والناس يقتصدون من تجوالهم خلال ساعات النّهار، مثلما يقتصدون في مشاعرهم
2016-06-23

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك
سمعان خوّام - سوريا

يجيء رمضان هذا العام بحذر، يطلُّ هلالهُ متوكئاً على مخاوفَ لا تهدأ، فرائحة الغلاء تترسّب فوق الأفواه الصائمة طبقاتٍ إضافية من عرقٍ أبيض لا تزيحها حبّات التمر الرطبة، ولا كأس الماء ساعة الإفطار، والناس يقتصدون من تجوالهم خلال ساعات النّهار، مثلما يقتصدون في مشاعرهم. ربّما صاروا يحسبون حساباً للسعرات الحراريّة التي ينفقونها بلا طائل، وهم ينتقلون بين وجُومٍ يَلكُم سحناتِ بائعي "العرِق سوس" و "التمر هندي" قبل أذان المغرب، أو بين الصالات المبعثرة لمؤسسة الخزن والتسويق، تقلّب أيديهم سلعاً كثيرة ليشتروا القليل منها، تلك التي تصلح كعزاءٍ متواضعٍ للإفطار. تغسلُ أبصارهم الأسعار المغروسة فوق الخضار الموسمية وفواكه الصيف، ثم تختار أرخصها. لا يعلمون أنّ نظامهم رفع عنهم كليّاً أغطية الدعم الاجتماعي، بعدما وفّقته الحرب في مزاولة استرساله في اقتصاد السوق الذي صار فجّاً منذ العام 2008، وأكثر فجاجة في السنوات الخمس الماضية. بحيث بات كل شيء يباع ويُشترى في سوريا، والنّاس باتوا مجرّد متفرّجين يائسين، لا اقتراحاتَ لديهم لمداواة صورتهم المهزومة في مرايا الصباح، وكأنهم زائدون عنها إلى هذا الحدّ.

لعبة الدولار: من يدير سعر صرفه؟

اتّضح للبسطاء قبل أن يبدأ صومهم هذا العام كيف أنّ مصرف بلادهم المركزي بمقدوره لو شاء مقارعة سوق الصرّافة السوداء التي أنجبتها الخيبات المتتالية في سياسته المالية والنقدية. استطاع أن يرغم سعر صرف الدولار خلال الأسبوع ما قبل الأخير من شهر أيّار / مايو على الهبوط بنسبة الثّلث، وحسّن سعر صرف دولار الحوالات ودولار التصدير، ثمَّ وعلى نحوٍ غير متوقّع صار سعر صرف الدولار لديه أعلى من سعر صرفه في السوق السوداء، واستطاع بذلك، عبر فروع المصرف التّجاري وشركات الصيرفة، أن يغيّر وجهةَ كتلةٍ من السيولة النقدية الضالّة ويعيدها باتّجاه القنوات النظامية، من دون أن تغادر إدارة مصرف سوريا المركزي دور "المضارب الأقوى" في سوق القطع باعتباره الدور الوحيد الذي تدرّب عليه المصرف خلال سنوات الحرب، ولم يجرّب غيره، ومعه أبقت إدارته مسألة سعر الصّرف محتجزة داخل قرارات إدارية، وامتنعت عن استخدام أيٍّ من أدوات السّياسة النقدية كطرح سندات خزينة باللّيرة السوريّة بفائدةٍ تعادل بصورةٍ تقريبية قيمة التضخم، وكأنّ تقسيم السوق إلى سوقٍ سوداء وأخرى نظاميّة هو مجرد تهويمٌ ساذج غايته التغطية على اقتسام غلال سوق الصرف. والناس تجرّأت، وشخَصَتْ بأبصارها تترقّب مشاهدة هلال هبوط الأسعار، قبل مشاهدة هلال الشّهر الفضيل. غير أنّ قوانين اقتصاد السّوق التي شرّعها النظام على مقاس الصّعود الجديد لسلطة المال السياسي خلال العقد الماضي أفسدت خميرة انتظارهم، فالأسعار لم تهبط كما انتظروا، بدلاً من ذلك تدحرجت مجدداً حسابات التفاوت في سعر الصّرف بين قيمته لدى الاستيراد وقيمته الجديدة لدى البيع. الدولة هنا لم تعد تستورد وتبيع مواطنيها مباشرة، بل أخْلت مكانها إلى قانون العرض والطلب الذي يحدّه من الجانبين تآكلٌ مرير أصاب القوّة الشرائية للّيرة السوريّة، وارتفاع مطّرد في المستوى العام للأسعار مع ثبات في المتوسط العام للدخول.

الطريق إلى السوق السوداء

تنسحب الدولة إذاً بمنطقها ومؤسساتها من جذع الحياة العامة وفروعها، كفعلٍ ملموس يمكن قياسه والبرهنة عليه. النّظام، باعتباره حالةَ التظهير الدائم لفعل السلطة داخل بنى المجتمع، بَرمَجَ مثل هذا الانسحاب وأشرف عليه، ثم ترك السوق غنيمةً تقتسمها قوى جديدة صاعدة تبلورت داخل الدولة الأمنية العميقة خلال فترة الاقتصاد المغلق، وأخرى نجحت في تطعيم ثرواتها المتراكمة بالسياسة، فحجزت مكاناً لائقاً لها بين الورثة المحتملين لتركة "اقتصاد الدولة التأشيري"، وهي السوق السورية المغلقة طيلةَ ثلاثة عقود، تركةٌ شهيّة لورثةٍ غير شرعيين أسقطوا الناس من حساباتهم لمصلحة معادلة تعظيم ثرواتهم الشخصية. ثم جاءت حجّة الحرب تَجْلي ما تبقى من شكوك محتملة تخصّ شكل الاقتصاد ودور الدولة، وتقترح على الناس تدريباً إضافيّاً مضنياً ينفعهم في التعايش مع قوانين اقتصاد السوق، فاعتادوا اختفاءَ بعض السلع الأساسية من منافذ البيع النظامية، ثمَّ اعتادوا ظهورها بأثمانٍ كبيرة في أسواق الظلّ، تلك التي لا تخضع ـ من الناحية النظرية على الأقل ـ لرقابة الدولة وقوانينها. أسواق سوداء أنعشتها الحرب، ووسّعت شهيّتها، فصارت تبيع على الملأ القطع الأجنبي، والمحروقات، وبعض صنوف الأدوية النوعية. والنّظام تعمّد رعايتها في الخفاء وفي العلن. هذه الرّعاية امتدت أيضاً لتشمل التغاضي عن تعطيل رئيس قسم الأمراض الباطنية في مستشفى حكومي مثلاً لجهاز التنظير، حتى يلجأ المرضى صاغرين إلى جهاز التنظير الذي يمتلكه في عيادته الخاصة (تنظير المعدة يكلّف 10 آلاف ليرة أي 20 دولارا في العيادات الخاصة)، ثم تُعطّل نفس اليد الجهاز المستخدم في عمليات ERCP داخل المستشفى الحكومي، فيضطر المرضى لإجراء هذا النّوع من العمليّات داخل مستشفى خاص لديه بالمصادفة مثلُ هذا الجهاز (تكلّف عملية إزالة الحصى من القناة الجامعة في مستشفى خاص بتقنية ERCP نحو 100 ألف ليرة أي حوالي 200 دولار). تتكلّس تلك الصفعات المتتالية على وجوه المرضى في حرم الشهر الفضيل، يعْبرون بأوجاعهم صائمين من بين شقوق الصور الشعاعيّة للقفص الصدري، إلى غرفٍ تشقّ بطونهم بعجل، لتعالج تَلَفَ أجسادهم.

قانون الإفطار بالإغاثة

اختلطت خطوات التعبّد خلال الجزء الأوّل من شهر رمضان بكمائنِ الموت المتخفّي خلفَ فتاوى تؤجّجه، ليصير ضحايا القصف على إدلب يوازنون ضحايا السيّارة المفخخة التي فجّرها "داعش" في حي "السيّدة زينب"، لكنّ رمضان بمكنوناته الليبرالية الجديدة داخل خريطة سيطرة النظام يظلُّ أهونَ من رمضان الذي يجيء على جغرافيا سيطرة المعارضة، وهي الخاضعة لفلسفة القصف الجوّي في كلِّ لحظة. تصفيةٌ غير متوازنة، وموتٌ مؤكد يتناوب على قضمِ الضمائرِ قبلَ الأجساد. لكن قوانين السوق تظلُّ قائمة، تسوسُ حياة الناس وتلازمهم كظلّهم، داخل مناطق سيطرة النظام كما داخل مناطق سيطرة المعارضة، حيث "المحاكم الشرعيّة" لا تنفكّ في مطالبة غرف الرقابة التابعة للمجالس المحلّيّة بمتابعة أسعار المواد الأساسية بصورةٍ يوميّة. لديهم أيضاً احتكارات كالتي تحكم منطق الاستيراد في أماكن سيطرة السلطة، وإن بصورةٍ أقل جلافة، ليصل سعر كيلو الطّماطم هناك إلى 400 ليرة (أقل من دولار) ومثله سعر كيلو السكر. تتذبذب الأسعار بصورةٍ يوميّة، قبل أنّ تُعلّق على لافتاتٍ صغيرة من الورق المقوّى سرعان ما يجري استبدالها بأخرى في يوم الصيام التالي. وفي مناطق أخرى يتسكع الجوع بلا تعب، جوعٌ لا يتعقّب هلالاً شحيحاً في السماء لينتهي، ولا يريحهُ أذان المغرب المنبعث شحيحاً من ثقوب مئذنة. في داريا يفطر الناس على محتويات المساعدات الغذائية المعلّبة، بعدما أدخلت الأمم المتحدة تسعَ شاحنات إغاثيّة خلال الأيام الأولى من رمضان علّها تفكُّ بها بعضاً من ملامح الجوع الذي يحاصر المكان، ولا يشبع. إذ تقدّر أرقام المعارضة السوريّة خضوع 535 ألف شخص لحصار طويل، يتوزّعون بين 50 ألفا في مضايا، و325 ألفا في الغوطة الشرقية، و40 ألفا في المعضمية وداريا، و60 ألفا في مخيم اليرموك والحجر الأسود بدمشق، و15 ألفا في حي الوعر بحمص، و20 ألفا في مراكز دير الزور.
في سوريا لا يبدأ رمضان بهلال، ولا ينتهي بآخر. اعتاد الناس الباقون في البلاد على صيامٍ طويل يَفْطَر على صبرهم.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...