حلب: ثرثرة فايسبوكية داخل غرفة صغيرة

نتقوقع اليوم داخل إحدى غرف المنزل التي تقع في المناطق الآمنة أو الساخنة بمدينة حلب، إذ لم يعد يوجد فرق بين غرفة مؤيدة في حيّ غربي، أو غرفة معارضة في حيّ شرقي بعد أن خلت ساحاتنا من تظاهراتنا واعتصاماتنا السلمية التي انطلقت في آذار/مارس 2011، ولم نكن نحمل السلاح. 
2016-05-05

موسى بيطار

كاتب من سوريا


شارك
جعفر خالدي - فلسطين

نتقوقع اليوم داخل إحدى غرف المنزل التي تقع في المناطق الآمنة أو الساخنة بمدينة حلب، إذ لم يعد يوجد فرق بين غرفة مؤيدة في حيّ غربي، أو غرفة معارضة في حيّ شرقي بعد أن خلت ساحاتنا من تظاهراتنا واعتصاماتنا السلمية التي انطلقت في آذار/مارس 2011، ولم نكن نحمل السلاح. في غرفة صغيرة بعيدة عن الإحداثيات المفترضة لسقوط القذائف على رؤوسنا وعلى رؤوس أطفالنا، جرت العادة أن يتم اختيارها حسب الخبرة العسكرية التي صارت مكتسبة عند ما تبقى من أهل المدينة العُزّل، الذين يدارون ساعات زمنهم الموحش وتكّاته الموجعة في الهروب من الموت، وهم يتسمّرون أمام مختلف الأجهزة: الكومبيوتر، اللابتوب، الآي باد، التلفزيون.. وقرب أسلاك الأمبيرات والشواحن، وأجهزة "الراوتر"، والتلفون الأرضي والمبوبايل.. يتابعون مستجدات المعارك اليومية، ويتواصلون مع أقربائهم وأصدقائهم، كأنهم يبحثون عن بصيص أمل يخرجهم من مخبئهم إلى شوارع مدينتهم وإلى أماكن عملهم.
أحاديث فايسبوكية متنوعة أتاحت لأهل مدينتنا المنقسمة أن يعبّروا في الستاتوسات والبوستات، وفي عبارات التعليق والدردشة، وفي المشاركات، عن مختلف حالات مشاعرهم، بخطاب من الكراهية وما يحتويه، في كثير من الأحيان، من شتائم وسباب من العيار الثقيل، وكأننا نكتشف فجأة أننا فقدنا عقلنا، ونعيش حالة انفصام مع مختلف مكونات التركيبة السكانية لمدينتنا، من مسلمين ومسيحيين وأكراد وأرمن..، تطاردنا اليوم، تحت وطأة التجاذبات السياسات الإقليمية، والأجندات الروسية والأميركية، الأسئلة المصيرية عن مصائرنا ومستقبلنا، وعن هويتنا وانتمائنا، وعن كيفية التعامل مع فصائل جهادية ظهرت لتكشف حدّة التناقضات بين أهل المدينة الأغنياء المترفين، وبين شبابها الفقراء العاطلين عن العمل الذين حسموا خياراتهم في الالتحاق بجبهة النصرة أو تنظيم الدولة الإسلامية، أو جيش الفتح..، خذلتهم خطط الحكومة الخمسية ووعودها المعسولة في التعليم والرعاية الصحية وتأمين فرصة عمل، وفي الإصلاح واستقلالية القضاء ومحاربة الفساد.

نعم، نشعر بالجنون من هول مصائبنا اليومية، ونحن نشاهد، داخل غرفتنا الصغيرة نشرات الأخبار ويوتيوبات الحرب والدمار. والجنون فنون. لكنّ المدن لا تجن، ولا تفقد عقلها ولا حكمتها في إقامة الحكم الرشيد وإعادة استيعاب كل مكوناتها. فروما لم تجن عندما أحرقها نيرون، وبرلين لم تجن عندما ورطها هتلر بحروب دامية، وسانتياغو لم تجن من هول فظائع بينوشيه..
أحاديث انفعالية وارتجالية، في الفايسبوك الحلبي، لا تؤسس لأي سلم أهلي منتظر في المدى القريب، ولا تبني لأي ثقافة سلام. آلاف الحسابات الشخصية والصفحات التي كشفت كل هذا الكبت التراكمي من غياب حرية التعبير، والرغبة بالكلام، وكل تأثيرات غياب الحياة السياسية التعددية في المدينة، وإلغاء الآخر. فالتحية للمبرمج الأميركي مارك زوكربيرغ، الذي جعلنا نثرثر، ونعبّر عما يحلو لنا، وأخرجنا من القمقم "شبيك لبيك الفايسبوكبين إيديك".
والثرثرة هنا بمعنى كثرة الكلام والمبالغة فيه بلا فائدة، وهي ليست حالة طارئة بحلب، بتأثير ما توفره اليوم مواقع التواصل الاجتماعي من مساحات تعبير واسعة، بلا قيد ولا شرط ("الحكي ببلاش وما عليه جمرك") بل هي تكاد تكون حالة موجودة منذ تحقيق حلم الاستقلال وطرد الفرنسيين، وقبل حادثة أطفال درعا التي كشفت الغطاء عن همومنا المتراكمة في كل مدينة وقرية سورية. ألم نثرثر عند انقلاب حسني الزعيم ووصول العسكر للحكم؟ ألم نثرثر عند انقلاب سامي الحناوي عام 1949؟ وكان كلّ هاجسنا أن نعرف نوع المشروب الذي كرعه عند انقلابه. ألم نثرثر عند الوحدة مع مصر عام 1958، وحل "حزب البعث"؟ ألم نثرثر عند الانفصال عام 1961، رافضين تأميم مصانعنا الذي أضر باقتصاد المدينة برغم غرامنا بعبد الناصر. ألم نثرثر عند عودة حزب البعث واستلامه السلطة عام 1963. كنّا في كل مرة نطلق الزغاريد والأناشيد الوطنية والشّعارات الرنانة، ونستعين بنظرية المؤامرة، الفايسبوك لم يمكن موجوداً.

يحلو اليوم لكثير من الفايسبوكيين الحلبيين، وهم من أجيال مختلفة، أن "يتفسبكوا" محاولين أن يؤسسوا لواقعٍ افتراضي، لعلّه ينتشلهم من أزمتهم ويُساعدهم في تحديد خياراتهم في مغادرة المدينة إلى ديار الله الواسعة، أو البقاء فيها والمراهنة على الاقتتال الدامي الشرس بانتظار الحسم العسكري، أو بانتظار الحل السياسي. ويحلو لهم أيضاً متابعة ما يشاؤون عن مستقبل أزمتهم، وأن يناقشوا بيان "جنيف 1" بكل بنوده، وأن يحللوا مقررات "مؤتمر فيينا" و "مؤتمر الرياض للمعارضة السورية"، وقرار مجلس الأمن رقم 2254، فيتعاطفون مع مواقف الحكومة ومعارضة الداخل، أو يتعاطفون مع مواقف الائتلاف ومعارضة الخارج، برغم أنّ آرائهم سرعان ما تطير في عالم وهمي افتراضي، لأن مستقبل وطنهم في إقامة "الحكم الرشيد " صار محكوماً بالقوى الإقليمية والدولية.

الفايسبوك خارج الغرفة الصغيرة

تنتشر في أحياء حلب المتخاصمة حالياً العديد من المقاهي التي تؤمن الكهرباء ومياه الشرب وخدمة الإنترنت التي تجعلني أتجرأ لأخرج من غرفتي الصغيرة، لأسهر مع جيراني وأصدقائي، ولكن تبقى العيون مشتاقة لأهل الأحياء البعيدة عني، الذين أفتقد أصواتهم وأخبارهم بسبب المعارك اليومية وانقطاع جسور الحوار معهم، مع أنّ المسافة للوصول إليهم لا تتجاوز عشرين دقيقة سيراً على الأقدام، أو خمس دقائق بالسيارة، ولا تحتاج لليالي الأنس في فيينا أو في الرياض، ولا في واشنطن أو موسكو. تخذلني خطوط التماس والحواجز القائمة، في العبور فوق جسور المدينة، جسر الصاخور، جسر الحج، جسر ميسلون. ولمّا صار ذلك متعذراً، سرعان ما أهرب عائداً إلى غرفتي الصغيرة، لا شيء جديد، ولا بصيص أمل. فأتوهّم أنني شربت كاساً بارداً من البيرة مع أصدقائي في أحد مقاهي "حي الموكامبو" المؤيِّد ، وأنا أثرثر حول المعارضة المعتدلة، أو أتوهّم أنني شربت كأساً ساخناً من الشاي مع أصدقائي في أحد مقاهي "حي بستان القصر" المعارض، وأنا أثرثر حول النظام والحكومة...

 

مقالات من حلب

للكاتب نفسه

مسرح الشعب في حلب

موسى بيطار 2016-06-14

شهدت مدينة حلب، عقب هزيمة حزيران/يونيو، ظاهرة مسرحية متميزة عُرفت باسم "مسرح الشعب"، أسسته بلدية حلب عام 1968 بجهود مشتركة من أدباء وفناني المدينة، وبقرار جريء من محافظها، تجاوز فيه...

التعليم الثانوي في سوريا: تداعيات الحرب

موسى بيطار 2016-05-16

أثّرت الحرب بصورة سلبية كبيرة على طلاب مرحلة التعليم الثانوي، من مختلف الجوانب الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والنفسية والجسدية، وهي ستترك تداعيات خطيرة على صعيد القيم الإنسانية للمجتمع بكل مكوناته المتنوعة،...

خلطات عربية بنكهات متعدّدة

موسى بيطار 2016-02-24

عندما كنت طالباً على مقاعد الدراسة الجامعية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت مكتبة "كلية الآداب و العلوم الإنسانية" بجامعة حلب عامرة بأمهات المصادر والمراجع التي تشفي غليل  الباحث الذي...