مقتنيات مي زيادة في المزاد العلني

حاولت أن أثنيها عن إصرارها الإحجام عن الطعام. كانت قد فقدت الكثير من وزنها وبدا وجهها ناحلا تتطاير حوله خصلات شعرها الأسود دون ترتيب.  "ماري أحضرت لك زجاجة شراب الورد  الذي تحبينه، هل تشربين كوبا إن حضّرته لك؟"  تبتسم بوهن وتكمل تدخين سيجارتها الخامسة منذ أن وصلتُ شقتها الصغيرة. ألمح كتاب لامارتين وصورة دوريان غراي بالقرب من سريرها. <br
2015-10-31

رندا شعث

مصوّرة وفنانة من مصر.. وفلسطين ولبنان


شارك
مي زيادة

حاولت أن أثنيها عن إصرارها الإحجام عن الطعام. كانت قد فقدت الكثير من وزنها وبدا وجهها ناحلا تتطاير حوله خصلات شعرها الأسود دون ترتيب. 
"ماري أحضرت لك زجاجة شراب الورد  الذي تحبينه، هل تشربين كوبا إن حضّرته لك؟"
 تبتسم بوهن وتكمل تدخين سيجارتها الخامسة منذ أن وصلتُ شقتها الصغيرة. ألمح كتاب لامارتين وصورة دوريان غراي بالقرب من سريرها. 
"أتعيدين قراءتهما؟  أكملي ليالي العصفورية لتصبح جاهزة للنشر، أو الأجدر أن تكملي كتابتك عن المنقذين فهو يبعث على التفاؤل".
 "ومن سيقبل نشر كتاب لي؟ لقد اتهمني الجميع بالجنون، وبحرق كتبي. ابن عمي قال للصحافة إنّي أكسر الحديد وأخنق الأطفال، وتبارى الجميع في اختلاق القصص التي تؤكد أني مجذوبة. كل هؤلاء الذين كتبوا لي الأشعار والرسائل إمعانا في إثبات حبهم لي، أنطوان والشناوي والعقاد ولطفي وطه، كلهم شربوا قهوتي وتقاسموا العيش والملح والأغاني، لم يسطروا سطرا للدفاع عني. الله يرحمك يا أمين يا ريحاني ويديم عزك يا فيلكس فارس".
"الناس تخاف الإنسان المختلف وتحاول دائما إخضاعه للقطيع. لا تنسي أنّك أنت أول امرأة تلقي كلمة في مهرجان الخديوي عباس حلمي حين ألقيت كلمة بالنيابة عن جبران الكل يغار من يومها. تكتبين عن المساواة ولا تريدين أن يخافوا منك؟ لقد سخرت من الأسئلة التي طرحها عليك الأطباء. مجتمعاتنا ليست مستعدة لمواجهة حجتك بعد. فقط تذكري وقفة الحلوين بجانبك، أمين والأميرتين الجزائري كمثال للوفاء. الدنيا فيها خير وفيها شر".. 
تتجه إلى الحمام الصغير وتلتفت لي بعينين دامعتين "الضرب والمهانة والحقن والتغذية الجبرية في حلقي وأنفي - كل العذاب الذي تعرضت له في المستشفى، ثلاث سنوات من الشقاء، وحتى الحجْر، وسرقة أغراضي وكتبي.. يهونوا أمام غدر الأصدقاء. أكلمك بصراحة عن سبب كرهي لرجال القانون، لأني لم أغادر مصر ولم يؤت بي إلى لبنان ولم أدخل إلى العصفورية إلا بفضل القانون ورجاله. بل أنا صرت مجنونة قانوناً. غدر الأصدقاء أشد مرارة".
أرجوها أن تغسل وجهها وأن تمشط شعرها وترتدي فستانها الأخضر لننزل للتمشية قليلا في الهواء. "حين نعود للشقة سأسمعك ما تعلمته من الأستاذ السوري علي العود. لن أصبح بمهارتك يا ماري لكن شجعيني". أقول مازحة لعلني أرى شبه ابتسامة على وجهها.
نمشي في اتجاه ميدان سليمان باشا ونمر على عمارتها المملوكة للأهرام في شارع علوي ومنزل الأسرة في شارع المغربي. تتذكر وتتنهد: "العود اللي اشتريته لا يضاهي عودي الحبيب. بحثت عنه في كل مكان وكنت مستعدة لشرائه مرة أخرى بأي ثمن". 
أحسست بوهنها في المشي وخفت أن تترنح وتقع. خفت أن أحكي لها أن بيت العائلة اختفى وأصبح محطة وقود وأن الباعة الجائلين، وبعدهم قوات الأمن احتلوا هذه الشوارع نفسها التي نطرقها، وأن مذكراتها عن المستشفى وخيانة الأقارب وعن منقذيها يباعون في المزاد لمن يخفيهم إلى الأبد. أحببت فقط أن أذكرها أني مثلها "ولدت في بلد، وأبي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد"، وأني حاولت تعلم العزف على العود وأني أحببت السندبادة كما كانت توقّع كتاباتها أحيانا، وأني في صغري استحوذ علي القلق من الوحدة ومن أن يشبه مصيري مصيرها.
ماري، كم صدقتُ قولك في الجامعة وأنت تحاولين تبرئة نفسك من تهمة الجنون أن "الشعوب العربية استيقظت من شتاء حالك الظلام طويل الأمد، وانبرت تستقي الفصل الجديد من حياتها، متعهدة براعم الأمل والمجد في نهضتها، ساعية إلى ازدهار ثقافتها ازدهاراً عامراً بهيجاً". هل يصبح حقيقة؟ أنا لا أرى الآن غير الخراب..

 

 


وسوم: العدد 166

للكاتب نفسه

في حضرة الشيخ إمام

رندا شعث 2015-12-13

كنت صغيرة وأترك في البيت لرعاية أخويّ ليالي زيارة أبي وأمي لبيوت الأصدقاء للاستمتاع بغناء الشيخ إمام المحظور في القنوات الرسمية حتى اليوم – شكرا للذاكرة الجماعية وتسجيلات الكاسيت والساوند...