هل تفقد فلسطين لاجئيها

في المرحلة الأولى من الصراع العربي الإسرائيلي، اعتمدت إسرائيل في ضبط معادلة صراعها مع العرب والفلسطينيين  ــ مستفيدة من تمسكهم الرخو والمرن بمواقفهم ــ سياسات تقضي بالسعي لتشريع مكتسبات احتلالها للأراضي العربية عبر عمليات تفاوضية وتبادلية معهم. وهو ما حدث  بما خص الاعتراف المتبادل، حق إسرائيل في الوجود، التمييز بين الأراضي التي تم احتلالها عام 1967 وتلك في 1948...إلخ. قواعد
2015-12-06

محمد جميل

باحث من غزة، فلسطين


شارك

في المرحلة الأولى من الصراع العربي الإسرائيلي، اعتمدت إسرائيل في ضبط معادلة صراعها مع العرب والفلسطينيين  ــ مستفيدة من تمسكهم الرخو والمرن بمواقفهم ــ سياسات تقضي بالسعي لتشريع مكتسبات احتلالها للأراضي العربية عبر عمليات تفاوضية وتبادلية معهم. وهو ما حدث  بما خص الاعتراف المتبادل، حق إسرائيل في الوجود، التمييز بين الأراضي التي تم احتلالها عام 1967 وتلك في 1948...إلخ.

قواعد اللعبة السابقة كانت تقضي بمنح الفلسطينيين والعرب شيئا من حقوقهم الأصلية مقابل تسليمهم لها بشرعية إحدى وقائع احتلالها المادية. ولم تكن تلك القواعد تغفل عن منح الإسرائيليين، بفعل اختلال موازين القوى والانحياز الغربي لصالحهم، امتيازات في نصوص الاتفاق تربض فيها كثغرة سرعان ما تتمدد تحت وطأة تأويل التفسيرات وذرائع حفظ الأمن، أو ما يرونه قصورا فلسطينيا في التنفيذ، لتعود وتُفرِّغ ما حصل عليه الفلسطينيون من أي قيمة فعلية. ثم يمطّ التشريع مكتسبات إسرائيل من صيغته الأولى ليغطي التوسعة التي أنتجتها الترجمة العملية للاتفاق. وبذلك تصبح العملية التفاوضية من وجهة النظر الإسرائيلية إستراتيجية توسع احتلالي أخرى تستكمل ما بدأته آلة حربها. 

اين الثوابت الوطنية؟

مسلسل التنازلات التي قدمتها القيادة الرسمية للفلسطينيين منذ أن تم استدراجها إلى تيه أوسلو أتى على الجزء الأكبر من أرصدة ما اصطلح على تسميته "الثوابت الوطنية"، ولم يبق لديها ما تحتفظ به كأوراق هامة تعزز موقفها التفاوضي، لاسيما أن حبل الوصل بين الحالة الفلسطينية في الداخل والخارج تم قطعه لدى توقيع اتفاق أوسلو الذي يمثل ارتداداُ عن عقيدة الحق الفلسطيني الأصلية ممثلة ب"حق العودة" لتختزله إلى برنامج عمل يقتصر على السعي لتخفيف شروط احتلال فئات بعينها في مناطق محددة. 

في العقود التي تلت النكبة ونشأة منظمة التحرير الفلسطينية، ارتكز رهان العقل السياسي الفلسطيني على مسلمة فكرية مفادها أن استمرار وجود اللاجئين كحقائق مادية وديمغرافية منتشرة في بلاد الطوق، خصوصا تلك الدول التي اتسمت وضعية هذا الوجود فيها بالقلق بفعل الإشكالات التي ترتبت عليه في العلاقة مع الدولة المضيفة، من شأنه أن يشكّل ضمانة لحفظ الحقوق الوطنية الفلسطينية من التصفية، عبر سريان مفاعيل هذه الحقائق في اتجاهات متعددة سواء على صعيد تمسك اللاجئين بحقهم في التحرير والعودة كطوق خلاص لهم من هوان التشرد وبؤس العيش تحت نير محددات الاستضافة في حواضن شتاتهم، أو على صعيد حث هذه الحواضن على إسناد المساعي الفلسطينية بشتى الطرق لتحقيق العودة المنشودة للاجئين لتزيح عن كاهلها الأعباء التي حمّلها هذا اللجوء لخريطة توازناتها الديموغرافية. أيضا فإن قضية اللاجئين مثلت على المستوى الدولي النتيجة المادية والأثر المباشر لفعل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وقيام إسرائيل، و بالتالي فالعالم ملزم بالإجابة على سؤال مصير هذي الجموع المشتتة قبل الحديث عن أي مسارات للحل والسلام. إلا أن هذه العقلية التي استسلمت باطمئنان لهذا الرهان لم تلتفت إلى مؤشرات مفزعة انطوت عليها أحداث عصفت بمسار تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية.

وقائع اللجوء في الشتات

في العام 1991، وحتى اللحظة التي سبقت حرب الخليج الثانية، قدّر تعداد الوجود الفلسطيني في الكويت بما يزيد عن 600 ألف نسمة، ما جعله واحدا من اكبر التجمعات الفلسطينية في الشتات. واكتسب أهمية إضافية كونه شكّل قاعدة إسناد مالية لباقي التجمعات الأخرى، حيث أسهمت تحويلات الفلسطينيين العاملين في الكويت في تحسين الظروف المعيشية لسكان باقي التجمعات الأخرى، سواء في خارج الأراضي المحتلة أو في داخلها، الذي بلغ إسهام التحويلات المالية إليها من الخارج في السبعينيات 30 في المئة من إجمالي دخلها العام. كما أن البحبوحة التي اتسمت بها سياسات الصرف والإنفاق لمنظمة التحرير الفلسطينية، اعتمدت إلى حد كبير على الاقتطاعات التي كان يتم تحصيلها أوتوماتيكيا من رواتب هؤلاء العاملين سواء في الكويت أو في باقي الدول العربية. 
في غفلة من الزمن، وفي زحمة الأحداث التي أعقبت وضع الحرب لأوزارها، لم ينتبه كثيرون إلى المأساة التي تسبب بها قرار الحكومة الكويتية بطرد الفلسطينيين من أراضيها كعقاب لهم على موقف قيادتهم التي انحازت لصدام حسين خلال الحرب. وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام  1982 وما رافقه من مآسي ألمت باللاجئين الفلسطينيين هناك، والعودة إلى تشديد القيود على ظروفهم المعيشية في البلد المضيف، أطلق موجات هجرة جديدة لهم من ملجأهم الأول إلى ملاجئ جديدة في كافة أصقاع الأرض، أسفرت عن تقليص كبير لكتلة فلسطينية لو قدّر لها البقاء في لبنان لتضاعف تعدادها بفعل الزيادة الطبيعية بدلا من التقديرات التي يتم تداولها عن تعدادها الحالي. وفي العراق، فإن حرب العام 1991 وصولا إلى غزو البلاد في العام 2003 أنهت بشكل كامل الوجود الفلسطيني فيه، لتأتي المأساة السورية وتستكمل الإجهاز على آخر معاقل اللاجئين الفلسطينيين الرئيسية. فمخيم اليرموك بدمشق والذي تحول خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى عاصمة رمزية للجوء الفلسطيني، لم تُبق فيه طواحين آلات القتل والدمار الدائرة منذ خمس سنوات في البلاد حجرا على حجر، وتناوبت على التنكيل بأهله عصابات الموت التي عبرت به حتى أفرغت سكانه منه وأحالته إلى تراب، لتفيد تقارير لجان الإغاثة الدولية إبان الأزمة الأخيرة التي عصفت بالمخيم الذي كان يربو عدد سكانه عن المليون بأن الموجودين حاليا فيه عددهم ثلاثة ألاف شخص، جلهم من السوريين.

كيف تتكيف اسرائيل؟

ترهل وتشظي الحالة الفلسطينية في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، وانكماش وذوبان التجمعات الفلسطينية في الشتات كنتيجة للانهيارات المتتالية في المنطقة العربية تترصده إسرائيل بفرح واهتمام، وتكيّف سياساتها الحالية والمستقبلية بما يحقق لها الاستفادة القصوى من الوضع الراهن.
فالإسرائيليون وبعد أن نجحوا في دفع الفلسطينيين للتراجع عن وضع قضية اللاجئين كقضية مركزية لبرنامج عملهم الوطني، وتحويلها لملف فرعي مؤجل سيتم بحثه عندما يحين وقت التفاوض (الذي لا يأتي أبدا) على حل دائم وشامل، يفهمون جيدا أن الأساس الموضوعي لطرح قضية اللاجئين في المستقبل على طاولة المفاوضات قد تم تقويض الجزء الأكبر منه حتى بات مجرد لازمة خطابية يرددها الفلسطينيون في مهرجاناتهم. لتصبح النسخة المعدلة لملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تقتصر على بحث سبل تحسين الظروف المعيشية لفئات فلسطينية تصنفها إسرائيل على أساس توزيعها الجغرافي وولاءاتها السياسية والحزبية، واختزال القضايا الكبرى كالأرض والقدس والسيادة إلى مجرد ترتيبات أمنية ميدانية تتعلق بمقدار حرية الحركة والتسهيلات المعيشية لسكان الضفة الغربية حصرا والتسليم الفلسطيني المطلق بخروج الوجود الفلسطيني في أي مكان آخر من دائرة أي بحث.
وبذلك تكون إسرائيل قد أسدلت ستار النهاية على ذاك العهد الذي كانت ترهن فيه تقدمها بسياساتها التوسعية على مختلف الأصعدة بالتراجعات التي تطرأ في مواقف خصومها العرب، وتجتهد للتصديق على مكتسباتها السياسية منهم. وبدلا من ذلك، فإنها الآن ــ وقد عطلت وصفّت عناوين الاشتباك السياسي الرئيسية العالقة مع القيادة الفلسطينية بحلول إسمية أو باستفادة من تغييرات خلقتها حقائق جديدة ــ انصرفت للتركيز على سبل الالتفاف حول المعضلات الحقيقية التي لا تزال تجثم على صدر مشروعها الاستيطاني، ممثلة في العرب الموجودين داخل فلسطين سواء في داخل الخط الأخضر أو في المناطق المحتلة عام 1967، عبر سياسات وإجراءات لا تبدو غاياتها الحقيقية ظاهرة أو مصرحاً بها. فإسرائيل ــ عدا عن كونها الطرف الرئيسي المصمِّم لظروف وعناصر الأزمات داخل التجمعات الفلسطينية في مختلف مناطق الأراضي المحتلة، والمتحكم الأول فيها ــ  هي الأقدر على تجيير مآلات هذه الأوضاع الشاذة لما يخدم مشروعها التوسعي والتصفوي للوجود الفلسطيني... من دون أن يستلزم منها ذلك أي تفاوض أو تشريع من خصم أقصى نفسه عن الوجود.

للكاتب نفسه

اتفاق المصالحة التركي الإسرائيلي

محمد جميل 2016-07-06

بدعم و تمويل تركي، تنتصب في أرجاء متفرقة من قطاع غزة هذه الأيام عشرات ورش بناء و إعادة ترميم المساجد التي تم تدميرها في المواجهات العسكرية الثلاث التي خاضها الغزيون...