مصر: إرهاب ورُهاب وعجب عُجاب..

من يظن أن الأمر يقف عند حد قانون الإرهاب الجديد وقبله قانون التظاهر، وما بينهما من بطارية كاملة من التدابير الهادفة للقمع والضبط والصالحة لإدامة عمل القضاء، أبْطَل ظنه ما أعقب صدور هذا القانون الأخير، مما لا يبدو ذا صلة به، ولكنه من طينته. فقد اتخذ المجلس الأعلى للجامعات قراراً بمنع أبناء الأرياف من التسجيل للدراسة في بعض كليات جامعة القاهرة المرموقة. ولأنها أم الدنيا، فلزوم الشيء مقتضاه يدفع
2015-08-27

شارك

من يظن أن الأمر يقف عند حد قانون الإرهاب الجديد وقبله قانون التظاهر، وما بينهما من بطارية كاملة من التدابير الهادفة للقمع والضبط والصالحة لإدامة عمل القضاء، أبْطَل ظنه ما أعقب صدور هذا القانون الأخير، مما لا يبدو ذا صلة به، ولكنه من طينته. فقد اتخذ المجلس الأعلى للجامعات قراراً بمنع أبناء الأرياف من التسجيل للدراسة في بعض كليات جامعة القاهرة المرموقة. ولأنها أم الدنيا، فلزوم الشيء مقتضاه يدفع الى تبريرات جميلة ومهندَمة، ولكن الابتذال القائم يجعل القرارات تفضح نفسها بنفسها بعد أقل من يوم أو بعد أقل من كلمتين في الجملة نفسها. الحجة الرسمية لقرار منع أبناء الأرياف، من فلاحين وصعايدة وخلافه، هي تعزيز كليات موازية تُفتح على عجل في مناطقهم (أمّال؟! نسيبها متخلّفة وفي تبعية للعاصمة؟)، وقد استثني منه الأوائل من الأقاليم (كعلامة على كرم متناه: أمّال؟ّ مش بيستحقوا مكافأة على مجهودهم؟). ثم انزلق الكلام: يوسخون العاصمة ويتسببون بمفاقمة أزمة المواصلات فيها، ويأتون ولا يعودون الخ..

رُهاب

في الذكرى الثانية لفض اعتصامي "رابعة العدوية" و "النهضة"، صدر قانون الإرهاب الجديد، وأبرز ما فيه أنه يعاقب بغرامات عالية (تصل ما بين 200 ألف و500 ألف جنية!) كل نشر لمعلومات كاذبة. ما الكذب؟ مخالفة بيانات الدولة في أي شأن. وحتى لا يطالنا القانون، نقول إنه سقط في رابعة والنهضة 642 قتيلا وحوالي 4000 آلاف جريح، بحسب بيان وزارة الصحة المصرية في حينه. وهذا رقم هائل يلغي بذاته قيمة الجدل حول مدى تطابقه مع الواقع (هل عدد الضحايا أعلى من ذلك؟). وقد اعتبرت منظمة هيومن رايتس ووتش أن هناك شبهة لـ "جريمة ضد الإنسانية". والمعيار ليس ضخامة عدد الضحايا، وممارسة التصفية الجماعية على عزّل فحسب، وإنما، وبحسب التعريف الذي أقرّته القوانين الدولية العائدة للمجال، أنه استُهدفت جماعة بعينها بسبب انتماء فكري وسياسي يميزها، فيوازي الانتماء الإثني أو الديني.
يوجد للقانون الدولي أحكامه ومنطقه، لكن"إحنا مالنا"؟ بل بُرِّرت المجزرة تحديداً بما يعتبره القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية: فالمتعارف عليه مصرياً أنها "مشروعة" طالما هي محصورة بالإخوان المسلمين بالذات وتستهدفهم. وهذا منطق خطير، لأنه يلغي وجود قواعد عامة للحياة، مشتركة ومبدئية، تصون التصور الاجتماعي والسياسي المقبول والمتوافَق عليه في أي مجتمع ("العقد الاجتماعي" كما يقال، وهو أصل عدل القانون وفصل الشعور بالأمان)، ويسيّد الاستنساب عوضاً عن تلك القواعد أو المبادئ الموضوعية، (اليوم الإخوان بالمطلق، وغداً اليساريين بالمطلق أو سواهم..). وهذا يفلِّت الصراع والجنوح لـ "كسر العظم" ومعهما الاستبداد.. والدليل، أنه لم يُكتفَ أبداً بقمع الإخوان في مصر، بل أعقبه هذا القمع (ورافقه في الواقع) صدور قانون التظاهر الذي لم يكن يستهدف الإخوان أصلاً. فهؤلاء باتوا يُقتَلون ولا يُتجَه إلى اعتقالهم، وقد استبيحوا تماما وفي كل مجال، بل شملت الاستباحة من يُشْتبه باخوانيته، وطالت كذلك أفراد عائلة الاخواني الذين يُنكل بهم بكل اطمئنان، ويُطردون من وظائفهم أو لا يُقبلون في وظائف يتقدمون إليها، كما شملت مصادرة الأموال الخ.. وهي أساليب في "الاجتثاث" طُبقت في بلدان أخرى تجاه تشكيلات سياسية مختلفة (الإخوان أنفسهم في سوريا سابقاً، والبعث في العراق والشيوعيون في أكثر من مكان..) فتسببت بكوارث. فهي أدت إلى انتشار العسف والى إشاعة مناخات مريضة ومفْسدة من الوشاية والكيدية والاستقواء بأصغر عنصر أمن لتسوية نزاعات عادية..
واستطراداً، فمن يظن أن النخران البادي بوضوح في سوريا على بُنى السلطة والمعارضات معاً، هو حال طارئ أو مرتبط بالظرف السياسي الراهن، وليس بنظام قام منذ عقود على "عادية الاستثناء" و "التآلف مع الاعتباط".. يكون خاطئاً. ومن يظن أن النخران الذي تَكشّف في العراق، وانهيار الدولة وتداعي المجتمع معاً هو نتاج الإنهاك الذي تسببت به الحروب المتكررة والهائلة أو الحصار المديد، يتناسى أنه، الى جانبهما ومعهما، فهناك أثر فعل سنواتٍ من الديكتاتورية المجنونة.

وإرهاب

وفي مصر، استهدف "قانون التظاهر" (المقر في تشرين الثاني / نوفمبر 2013) الأجواء التي وُلدت في "ثورة يناير" واتسمت بانطلاق روح المبادرة، وبالشعور العميق بالحرية. وهو لذا طال الشبان والشابات النشطاء في القضايا العامة، سواء منها الاجتماعية أو تلك المتعلقة بالحريات، وبالأخص من كان منهم بارزا سواء في الميادين في تلك السنوات أو حتى على وسائل التواصل الاجتماعي، وهم من المعروفين بانتماءاتهم اليسارية أو الليبرالية. نال هؤلاء أحكاما قضائية مرعبة، تدخل في الحقيقة في باب "القصاص"، لتظاهرهم أو لاعتصامهم "بلا ترخيص"، بل بات إطلاق الشرطة للرصاص الحي (يقولون خرطوش، ولكنه قاتل) أمراً شائعا ومقبولاً. وأما المختطَفون والمخفيون، فهم بالمئات، شبانا وشابات (تقول مجموعة "الحرية للجدعان" أنهم 163 شخصا منذ نيسان / ابريل 2015، ما زال 66 منهم مجهولي مكان الوجود).
وبالتوازي، جرى تصنيف جماعة الإخوان كإرهابية، مما وسع دائرة الإرهاب نفسه، وذلك بضم كل أنصار وأتباع هذا التيار إليه، وبدفع مجموعات منه ــ أو باندفاعها ــ إلى ممارسات إرهابية أو الى الالتحاق بمجموعات إرهابية فعلا أو بمجموعات انزلقت هي الأخرى إلى الممارسة الإرهابية.
وطالما الأمر كذلك، وطالما أنه في الممارسة الفعلية القائمة يجري القتل والتصفية والاختطاف والإخفاء والتعذيب والتوقيف.. وفوق ذلك التصفيق لأحكام قضائية تخالف كل قواعد الشرائع الدولية والمحلية في الصدد، فعلام قانون جديد؟ وما هي غاية واضعيه منه، ثم ما الفائدة من السجال حوله ومناهضته وتفنيد بنوده؟ مثال المادة 8، التي هي محط جدل كبير، جيد للإيضاح. فهي تحمل في بضعة اسطر تناقضات داخلية أو تأكيدات نافلة لأنها تنتمي إلى المبادئ العامة (حق الدفاع عن النفس عند الخطر). المادة المذكورة تجيز للشرطة استخدام العنف وتعفيهم فعلياً من المساءلة: "لا يُسأل جنائياً القائمون على تنفيذ أحكام هذا القانون إذا استعملوا القوة ﻷداء واجباتهم، أو لحماية أنفسهم من خطر محْدق يوشك أن يقع على النفس أو اﻷموال، وذلك كله متى كان استخدامهم لهذا الحق ضرورياً وبالقدر الكافي لدفع الخطر".. وكما قال حقوقيون، فسِرُّها يكمن في كلماتها الأولى فحسب، وستطبق على طريقة "ولا تقربوا الصلاة.."، بل لعل وظيفتها هي في قطع الطريق على الوصول الى التقاضي أصلاً. ومثال آخر: المادة 35 من القانون التي "راعت إلغاء الحبس في قضايا النشر وأصبحت أكثر انضباطا" على ما قال نقيب الصحافيين المصريين، ملاحظاً أنها أبقت على غرامة "مرتفعة للغاية" كوسيلة لردع الإعلام، بل أقرت ازدواجية العقوبة التي تقع على المحرِّر وعلى المؤسسة بما يخص الواقعة الواحدة، وهو ما يعني غرامة مزدوجة. والطريف (أو المؤلم) أن النقيب ينطلق من موقف "إيجابي" حيال السلطة، فهو يناضل من أجل حقه وأقرانه في خوض حصتهم من "الحرب على الإرهاب"، محاججاً بأن القانون الجديد يعطلهم، وبالتالي يعزز إعلام الإرهاب نفسه بما أن هذا الأخير متفلت من قبضة الملاحقة القضائية المكبلة!
استفادت السلطة التي قامت بعد 30 يونيو/ 3 يوليو (2013) في مصر من عدة عوامل أبرزها اثنان: أولاً تفاهة الإخوان وتخبطهم وتلاعباتهم خلال وجودهم في السلطة (منذ ممارستهم لنفوذهم أثناء المجلس العسكري قبيل انتخاب مرسي، ثم خلال رئاسته التي امتدت لعام)، وثانياً الانهيارات المريعة والمأساوية في أوضاع ليبيا وسوريا والعراق ولاحقا اليمن.. ومشاهد الفوضى الشاملة والبؤس العام. وهذه فزَّاعات حقيقية تجعل الوجدان العام في مصر (وإنما في الجزائر مثلا كذلك ) يميل الى التمسك بأي إطار قائم يقي من الانحدار إلى حالة مشابهة. ولا شك أن اعتبارات أخرى فعلت كذلك فعلها، كامتداد مؤسسة الجيش في الاقتصاد والمجتمع المصريين، وكخصائص خطاب السيسي ومقارباته التي تمزج الأبوية برأب الكرامة المكلومة وتستنفر الشعور بالافتخار الوطني. وهي الخصائص التي تسند مداخلاته وكذلك مشاريعه التي توصف لدى الغربيين بالـ "فرعونية" (التعبير الدال على الضخامة المطلقة، بالاستناد للأهرامات إن لم يكن لأشياء أخرى كثيرة).

ازدراء وتخبط وأسئلة مشروعة

اعتدَّت السلطات المصرية بوجود قوانين للتظاهر (ومؤخرا ل"محاربة الإرهاب") في كل بلدان العالم، للقول إنها لا تُقْدِم على استثناء. وهي اليوم تعتد بوجود نظام لـ "التوزيع الإقليمي" للتعليم في كل البلدان المتحضرة، هو من ضرورات التنمية ومكافحة الفوارق بين الأرياف والحَضر، وتطبيق اللامركزية.. إلى بطارية من الحجج والبراهين الشكلية البحتة والتي تعتدي على قواعد المقارنة العلمية. ولكنها تُستخدم هي نفسها أيضا لتبرير المشاريع العملاقة التي تنبت بين ليلة وضحاها وتنفذ بلا تدقيق في الجدوى... وكل ذلك يوحي بوجود طموح مبيت أو ضمني (بالكاد)، لممارسة "هندسة اجتماعية" ما. فلو تركنا جانباً فاشية المفهوم، فهل هو أصلاً قابل للتنفيذ في مصر، بوجود مشكلات متراكمة إلى حد الاستعصاء (شاملة وليس فحسب ديموغرافية)، متولدة عن مزيج من قلة الإمكانيات الفعلية في وادي النيل الضيق، والإهمال المديد والكامل لها كعنوان عن الاستغناء أصلاً عن حلها، وتركها للأقدار، وتغليفها بثقافة الإذعان... فلو لم يكن ممكناً تنفيذه بقدر من التماسك والإرضاء العام (صحيح انه كان في ألمانيا أزمة طاحنة حين صعد "حزب العمال القومي الاشتراكي" الى السلطة، ولكن كان هناك أيضا إمكانيات صناعية هائلة، وإيديولوجيا متماسكة، ونوايا عدوانية تجاه الجيران والعالم..)، فهل نحن بإزاء نسخة كاريكاتورية عن ذلك الطموح؟ والى أين يقود ذلك؟