الإضراب جريمة بأمر من المحكمة الإدارية العليا المصرية

"الاضراب السلمي حق ينظمه القانون"، هكذا نصت المادة 15 من الدستور المصري، ولكن المحكمة الإدارية العليا لم تلتفت الى هذه المادة واعتبرت الاضراب "جريمة" يستحق مرتكبوها العقوبة التأديبية بالاحالة الى المعاش[1] او منع الترقية. فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بتاريخ 18-4-2015 بتأييد حكم صادر من المحكمة التأديبية بالمنوفية بمجازاة عمال بإحالتهم الى المعاش لقيامهم بتنظيم إضراب
2015-06-15

شارك
"الاضراب جريمة في مصر؟" (من الانترنت)

"الاضراب السلمي حق ينظمه القانون"، هكذا نصت المادة 15 من الدستور المصري، ولكن المحكمة الإدارية العليا لم تلتفت الى هذه المادة واعتبرت الاضراب "جريمة" يستحق مرتكبوها العقوبة التأديبية بالاحالة الى المعاش[1] او منع الترقية. فقد قضت المحكمة الإدارية العليا بتاريخ 18-4-2015 بتأييد حكم صادر من المحكمة التأديبية بالمنوفية بمجازاة عمال بإحالتهم الى المعاش لقيامهم بتنظيم إضراب واعتصام للمطالبة بحقوقهم. ويستدعي هذا الحكم ثلاث ملاحظات نعرضها تباعا أدناه.

 

اتساق الحكم مع خطاب الدولة

- حظر الاضراب
يدرك المتابع للشأن المصري، أن الحراكات الاحتجاجية في مصر خفّت وطأتها في الفترة الأخيرة لعدة أسباب لن نتناولها هنا؛ ولكن الحراك الذي لايزال مستمرا هو الحراك العمالي. فوفقا لـ "تقرير الاحتجاجات العمالية لعام 2014" الصادر عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فان عدد الاحتجاجات العمالية وصل الى 1655 احتجاجا ما بين اضراب وتظاهر ومسيرات وشكاوى وغيرها من أشكال الاحتجاج في تلك السنة.
ولم تستطع الدولة، حتى اللحظة، وقف هذه الاحتجاجات. لكنها عملت على انتاج خطاب عامّ معادٍ للاحتجاجات العمالية بحيث يصورها على أنها تعطل حركة الإنتاج وتتسبب في خسائر اقتصادية. وقد اتخذ رئيس الوزراء خطوة في اتجاه منع الاضراب من خلال اجتماعه مع قيادات عمالية لترتيب الاحتفال بعيد العمال وطالبهم بتشكيل لجان عمالية لهذا الهدف. وهو الاجتماع الذي تبعه اعلان رئيس اتحاد العمال في 27-4-2015 خلال الاحتفال الرسمي بعيد العمال عن "ميثاق شرف عمالي" مؤكدا أن العمال تعهّدوا من خلال هذا الميثاق برفض الحق في الاضراب[2].
وقد جاء هذا الحكم متّسقا مع خطاب الدولة الساعي الى حظر الاضراب، ومؤيدا لفكرة تعارض الاضراب مع مصلحة الدولة. بل انّ الحكم قد أسس للقاعدة القانونية التي تستطيع الحكومة الاستناد عليها لحظر الاضراب معللة ذلك، ليس فقط بإعلاء مصلحة الدولة، بل بإعلاء "دولة القانون" وتنفيذ حكم قضائي.

- حظر التعرّض لنظام الدولة
النقطة الثانية التي جاء فيها الحكم متماهيا مع خطاب الدولة هو نظرته للموظف العام وللاضراب. فقد اعتبرت المحكمة أن الإضراب "هو تمرد عمال المرافق العامة على السلطة، وعلى النظام، لأنه يسعى الى تحريك الرأي العام ضد هذا النظام الذي يعتبره الأفراد هو المسؤول أمامه عن تشغيل المرافق ذات النفع العام". وقد اتخذت المحكمة بهذا التعريف موقف حماية السلطة والنظام متناسية أن الموظف العام عندما يلجأ الى احراج السلطة، يكون مطالبا بحقوق كفلتها له التشريعات المصرية.
نضيف الى ذلك نظرة المحكمة الى الموظف العام. فقد ضمّنت المحكمة حكمها حيثية مفادها أن الموظف العام "وان كان من حقه ابداء الرأي في الأمور العامة ولكن عليه وهو يمارس هذا الحق أن يتذكر دائما انه موظف عام، وأنه يجب أن يلتزم في جميع تصرفاته بمقتضيات الوظيفة العامة. فتنفيذ التعليمات طبقا لسياسة الدولة لا يكفي للقول بأن الموظف قد أدى واجبه لأنه ملتزم أيضا بأن يكون مسلكه كاشفا عن ولائه للدولة ولنظام الحكم القائم. والقدر الأدنى في هذا الأمر يتمثل في عدم مهاجمة نظام الدولة وفلسفتها الاجتماعية في الاجتماعات أو الجلسات الخاصة وعدم القيام بأي تصرف يسيء الى سمعة الدولة، أو أي تصرف يكون من شأنه النيل من سلامة النظام أو تجريحه". ونستنتج من ذلك أن الحكم لم يفرض على الموظف العام الطاعة والولاء الوظيفي للدولة خلال ساعات عمله فقط، بل اجبره على الولاء للنظام حتى في اجتماعاته الخاصة، فقد حظر عليه مهاجمة نظام الدولة وقراراتها حتى في الاجتماعات الخاصة، مما يعني تقليص حقه في ابداء الرأي وحرية التعبير مقارنة بسائر المواطنين.
ولعل التعريف الذي تبنته المحكمة للموظف العام "المثالي" يذكرنا بالخطاب العام الحالي في مصر حول المواطن "المثالي"، ووجوب إبداء رأيه في الشأن العام ولكن دون أي مهاجمة للدولة ونظامها.

الشريعة الإسلامية كأداة لضرب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية

الملاحظة الثانية التي يجب الالتفات اليها في هذا الحكم هي استناد المحكمة على الشريعة الإسلامية لحظر الاضراب. فقد رفضت المحكمة تطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي تنص المادة 8 منه على كفالة حق الاضراب، معتبرة أن العهد يخالف الشريعة الإسلامية. واعتبرت المحكمة أن التحفظ الذي أبدته الحكومة المصرية في وثيقة التصديق بأخذ أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارض مواد الاتفاقية معها بعين الاعتبار، يسري على حق الاضراب.
وعطفا على ذلك، اعتبرت المحكمة أن احكام الشريعة الإسلامية لا تجيز الاضراب "اذا لم يقصد به سوى الاضرار بالغير أو اذا كانت المصالح التي يرمي الى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر"، وان الشريعة لا تجيز كذلك إضراب موظفي المرافق العامة لأن ذلك يؤدي الى توقف المرفق وحرمان أفراد المجتمع من الخدمات التي يقدمها.
كما لم يكتفِ الحكم بذلك، فاعتبر ان الشريعة لا تبيح الاضراب كذلك "لانه يعد تمردا على السلطة الرئاسية، فطاعة الرئيس واجبة". ويعكس استخدام الشريعة على هذا النحو اتجاه المحكمة الى تفسير الشريعة بنفسها والميل الى تفسير دون الآخر، وهي بذلك اتخذتها مصدرا للحكم وليس للتشريع كما هو منصوص عليه في الدستور[3].
ويعد استخدام مجلس الدولة للشريعة الإسلامية كتشريع سارٍ وتفسيره على النحو السابق مفاجئا. فعادة، يتمّ استخدام الشريعة من الدولة في مرحلة التشريع، واستخدامها كمصدر لهذا الحكم يخالف الفقه المستقر عليه في مجلس الدولة القاضي باعتبار المادة 2 من الدستور موجهة الى المشرع وليس الى القاضي، وأن القول بأن الشريعة الإسلامية ملزمة بقوتها الذاتية يؤدي الى تضارب في الأحكام، كما أنه يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات[4]. كما يتم عادة الاحتكام الى الشريعة في تطبيق الاتفاقيات الدولية لجهة المواد الخاصة بالمرأة او بحقوق الأقليات الدينية، أو بعقوبة الاعدام، ولكنها تشهد لأول مرة في هذا الحكم استخداما يؤدي الى ضرب أحد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية. وهو الأمر الذي يستدعي الوقوف عنده والتفكير اذا ما كان الحكم حالة فردية ام أنه قابل للتوسع والتعميم على نحو قد يؤدي الى تقويض التزامات الدولة المصرية في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وكان مجلس الدولة قد أصدر سابقا أحكاما كثيرة تنتصر للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وقد مهّدت لكثير من الحراكات الاجتماعية في مصر، فأتى هذا الحكم بمثابة انعطافة في اتجاهاته.

هل يؤسس مجلس الدولة لتوجهات جديدة بشأن الاضراب؟

الحكم الصادر يرجعنا سنوات الى الوراء ويذكرنا بحكم صادر في عام 1994 من المحكمة الإدارية العليا حظر حق الاضراب واعتبره اخلالاً جسيماً بواجبات الوظيفة، كما رفض تطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ولكن الأحكام الصادرة من مجلس الدولة بعد ذلك التاريخ وخاصة في الفترة الأخيرة، استقرت على الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام، ومنها حق الاضراب. فقد برأت المحكمة ذاتها في عدة احكام موظفين من تهمة الاضراب معتبرة إياه حقاً وليس جريمة[5]. كما ان الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة في جسلتها المنعقدة بتاريخ 9-12-2012 اعترفت بالاضراب كحق وفقا للاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وممارسة العاملين بالمرافق العامة لهذا الحق طبقا للاتفاقية. أما بالنسبة لحالة الفراغ التشريعي لجهة تنظيم حق الاضراب لموظفي الدولة، فقد طالبت الجمعية العمومية المشرع بتنظيم هذا الحق لهم وفقا لمواد الاتفاقية، وهي بذلك لم تحظره، عكس الحكم الصادر مؤخرا والذي اعتبر الاضراب غير مباح.
وعليه، ترجعنا المحكمة بهذا الحكم سنوات عديدة الى الوراء، وتنسف اجتهادها الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في السنوات الأخيرة، وموقعها كمدافعة عن حقوق وحريات المواطنين في وجه انتهاكات الدولة.

************

[1] يقصد بالاحالة الى المعاش: الإحالة الى التقاعد.
[2] راجع "10 نقاط حول حكم الإدارية العليا بحظر الاضراب"، بيان صادر من 15 منظمة حقوقية بتاريخ 1-5-2015.
[3] استقر فقه المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض ان المادة 2 من الدستور المصري الخاصة بالشريعة الإسلامية موجهة فقط الى المشرع وليس للقاضي، راجع منة عمر،"مبادئ الشريعة الإسلامية في المادة 2 من الدستور المصري: صراع بشأن تفسيرها سعيا الى اغلاق أبواب الاجتهاد" نشر على موقع المفكرة القانونية بتاريخ 28-8-2013.
[4] راجع حكم المحكمة الإدارية العليا الصادر بتاريخ 3-4-1982.
[5] الحكم الصادر من المحكمة التأديبية بالقاهرة بتاريخ 30-4-2012 ببراءة موظفي مستشفى الدعاة التابعة لوزارة الأوقاف من تهمة الاضراب لكونه حقا وليس جريمة - حسب ما ذكر في بيان "10 نقاط حول حكم الإدارية العليا بحظر الاضراب" مرجع مذكور سابقا.
 

من المفكرة القانونية (عدد 1 حزيران/يونيو)

 

للكاتب نفسه