عن استحداث وجه طائفي للحرب في اليمن

لطالما استبطنت حركية السياسة في اليمن مستويات مختلفة من التعريفات الطائفية والمناطقية التي تعكس أوزان القوة الفعلية لفئات من السكان، وما تؤدي له من غلبة لهم وتركيز للحكم في نطاقهم. وعلى الرغم من كونها لم تظهر سابقاً إلى السطح بالحدة الحالية، إلا إنها لعبت دوماً دوراً ــ وإن بشكل ضمني ــ في تحديد حجم وحدود الدور السياسي للفئات والمناطق الأخرى، وهو ما كان يؤدي لمشاعر احتقان وإحساس عالي
2015-06-11

ماجد المذحجي

مؤسس مشارك والمدير التنفيذي لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية


شارك

لطالما استبطنت حركية السياسة في اليمن مستويات مختلفة من التعريفات الطائفية والمناطقية التي تعكس أوزان القوة الفعلية لفئات من السكان، وما تؤدي له من غلبة لهم وتركيز للحكم في نطاقهم. وعلى الرغم من كونها لم تظهر سابقاً إلى السطح بالحدة الحالية، إلا إنها لعبت دوماً دوراً ــ وإن بشكل ضمني ــ في تحديد حجم وحدود الدور السياسي للفئات والمناطق الأخرى، وهو ما كان يؤدي لمشاعر احتقان وإحساس عالي بالتمييز والمواطَنة المنقوصة، خصوصاً لدى أبناء الجنوب والمناطق الوسطى والشرقية بمقابل تركز السلطة شمالاً، ليصبحوا بذلك حاضناً لأشكال مختلفة من المعارضة للحكم في صنعاء، بدءاً من اليسار والقوميين وليس انتهاءً بالإسلاميين، مما أدى لجعل طبيعة علاقتهم مع السلطة متوترة بشكل دائم.

مناطقية لا طائفية أولاً

إن الإلحاح المضمر والمستمر على هذه التعريفات ظل مقيماً في خلفية الحدث اليمني، وهو يحضر بوضوح في الحرب المستعرة حالياً، حيث تُنشِّط المعارك الجارية في الشرق (مأرب) والوسط (تعز) والجنوب (عدن والضالع ولحج وشبوه)، تعريفات طائفيه ومناطقية غير مسبوقة للصراع، يُغلّب فيها تفسير حرب الحوثيين في هذه المناطق كامتداد لـفتوحات الأئمة الزيود التاريخية في مناطق الشوافع، أو كحرب للشماليين على الجنوبيين ــ بما يفتحه ذلك من جروح ويُحركه من مشاعر غضب واحتقان مختزنة ــ وليس كتمرد لجماعة مسلحة على الحكم الشرعي الممثل بالرئيس هادي.
كانت أحداث ثورة 2011 تحمل وعداً غير مُعلن بتغيير معادلة الحكم المستحوَذ عليه من تحالف استبدادي يقوم على خليط من الطابع الأمني والحكم العائلي والهوية المناطقية. ارتدادات الفشل السياسي الذي ميز الفترة الانتقالية، وتصاعد العنف وصولاً إلى سقوط العاصمة صنعاء بيد الحوثيين، غذّيا موجة واسعة من المخاوف والخيبة واليأس والارتياب، نظَّرت لانتصارات الحوثيين وتحالفهم مع المستبد المثور عليه علي عبد الله صالح باعتبارها صحوة الشمال الزيدي الذي يريد إعادة تركيز السلطة فيه. وساعد في تعزيز هذا الانطباع الطبيعة المذهبية والحضور العنيف لجماعة الحوثيين التي بدت، بمركزية عبد الملك الحوثي فيها، كجماعة مقاتلين زيود من "العكفة"، ذوي الصيت السيئ في ذاكرة الناس القريبة ــ من النصف الأول للقرن الماضي ــ والذين يقودهم إمام جديد، يُجدد تسلط "الهاشميين" على اليمنيين ويستعيد حق الحكم الإلهي عليهم.
وبغض النظر عن واقعية هذه النظرة أو تعسفها، ومدى نسبتها من الحقيقة، إلا أن مفاعيلها على الأرض حركت تعريفات مقابلة ومتطرفة. فلم يعد الآخر ضداً على الزيود شافعيا فقط، بل أصبح سنيا ضداً على "شيعة روافض"، بما يعنيه ذلك من استدعاء الى اليمن لعناوين الصراع الطائفي النشطة في المنطقة، والتي كانت غريبة عن البلاد حتى عهد قريب. فاليمن لديه أجندة صراع أكثر محلية تميل للمناطقي أكثر من المذهبي، حيث النزاع كان قائماً على تمركز السلطة في مناطق شمال اليمن، وهو صراع يعبِّر عن نفسه بهويات جهوية تحت مسمى "مطلع" السلطوي، في مقابل "منزل" الذي ينتمي له القوام السياسي المعارض عادة، وكان يضم بشكل أساسي أبناء المناطق الوسطى والشرقية قبل الوحدة، ثم انضم إليهم لاحقاً الجنوبيون في هذا الموقع المعارض للاحتكار الشمالي للسلطة بعد الوحدة، وتحديداً بعد حرب صيف 1994.
لقد ظل إذاً ثقل المحركات الجهوية في السياسة اليمنية أعلى من الموضوع الطائفي، حتى وإن لم يتخفف من هذا الاخير كثيراً بسبب استحضار التاريخ القريب للإمامة الزيدية وما احدثته من جروح في ذاكرة اليمنيين قبل ثورة 1962، حيث تجلت السلطة بتحالفات عشائرية شمالية وإن كان إطارها المذهبي زيديا، لكنه لم يكن هو المحرك. وهكذا ما بين حاشد، القبيلة الأكثر نفوذاً، وسنحان التي ينتمي اليها الرئيس السابق صالح، ثم نزولاً إلى القبائل الشمالية القوية الأخرى المهيمنة أيضاً، كان ملمح السلطة جهوياً بوجه قبلي مشيخي أكثر من كونه طائفيا دينيا.

نهضة زيدية؟

لم يبد الحوثيون حساسية حيال عبء التوترات المناطقية القديمة التي تتحرك في خلفية وعي الناس الفزعين منهم، بل فاقموا من المخاوف المتصلة بها باندفاعهم وتمددهم المسلح على الأرض واستحواذهم على السلطة كلياً بشكل لاحق. ثم انفتحت دورة الصراع التي نشّطوها على مستوى أكثر خطورة حين تجاوزوا خطوط التماس المذهبية والمناطقية الضمنية، بعد أن مدّوا معاركهم للبيضاء وعدن وتعز ومأرب، وهو ما أدى في واحدة من نتائجه الخطيرة مثلاً إلى تحرير تنظيم القاعدة من الحصار الرمزي المفروض عليه من المجتمع، وجعله في قلب تحالفات "سنية" مع مكونات قبلية في مواجهة الحوثيين، كما حدث في رداع ومأرب وأبين. كل هذا جعل الخلفية المناطقية القديمة تتجاور مع الوحش الطائفي الجديد الذي أطلقه الحوثيون الذين قَدَّموا أنفسَهم وفق تعريف مذهبي عارٍ، كجماعة إحيائية زيدية في اطار صراعي مع السلطة، ليبدو الامر وكأن حركتهم تستقي شكل الصعود التاريخي التقليدي للائمة الزيود الذين يُطْبِقون على السلطة في مناطقهم قبل ان ينتقلوا بعدها إلى كل اليمن.

و.. "عاصفة الحزم"

إذاً، أدى عنف الحوثيين وميلهم إلى إرساء حقائق سلطتهم بالقوة، إلى المزيد من تصديع العلاقات بين اليمنيين، وهي التي تعرضت للضرر والانتهاك بممارسات الاستبداد ما قبل الوحدة وغياب مشروع وطني بعدها، لتأتي أخيرا عاصفة الحزم السعودية كعنوان صريح لانفتاح اليمن على استقطابات الإقليم ومعاركه وأدوات صراعاته التي تغذي ما هو طائفي بشكل أساسي! وإذا كان الحوثيون طرفاً مذهبياً بحكم تكوينهم وأدائهم، فإن السعودية استخدمت بشكل انتهازي هذا الموضوع وصعدته لدى خصومهم، وعملت على دعم الوجه المقابل لجماعة الحوثي عبر تمكين التعريف السني للمقاتلين الذين يتلقون الدعم منها في وسائل الإعلام، وتصدير صيغة وطنية جديدة لليمن عبر حلفائها السياسيين، قائمة على معادلة الطوائف لا المواطنة.
إن هذا النوع من الحروب يمتلك أسبابا كثيرة ليستمر، وهو يثير الضغائن ويفاقمها بين الأطراف المتقاتلة، وليست العودة المتسارعة لإكساب الصراعات لباس الهويات الأولية (ما قبل المواطَنة) إلا واحدة من أهم محركات بقائها واشتعالها. هذا نوع من الحروب يتغذى على صراعات عمياء ويفتقد للامتياز التوحيدي الوطني الذي تكون عليه الحرب في مواجهة خصم خارجي مثل السعودية. وحتى في وجود هذا "العدو الخارجي"، فان التناقضات التي تحركها المعارك الأهلية لا تجعل من الجميع موحداً في مواجهته! هي تفتت ولا تجمع، وما استظهار التعريف المذهبي والجهوي للخصم لتحفيز القتال ضده كما يحصل الآن في خلفية المعارك النشطة على امتداد الخارطة اليمنية، إلا أحد مآلاتها التي تُلحق ضرراً بالغاً بالنسيج الوطني وتستنفر المكونات الأهلية ضد بعضها بطريقة عنيفة للغاية يصعب تجاوز آثارها.
بالتأكيد الوضع أصبح خطيراً الآن. وهذا الوجه الطائفي للمعركة في اليمن يتصاعد كل يوم ويفاقم من جنونها. وهو أمر يعني استمرارُه وعدمُ التصدي له ذهابَ هذا البلد الفقير والمكتظ بالسلاح إلى دورات دم مهولة ستقوضه تماماً ولن تقتصر ارتداداتها عليه فقط بل ستمتد إلى جواره الإقليمي بالضرورة.

للكاتب نفسه

كيف غيّرت الحرب مأرب؟

مأرب الصاعدة في مشهد اليمن الحالي تحصد ضعف الجميع وتعاني منه في الوقت نفسه، وهي تُكثّف أعباء الحرب وامتيازاتها، وفيها يمكن رؤية كيف تُغيِّر ديناميات الصراع المسلح هوية المكان والتحديات...