البيروقراطية المصرية تنزل إلى الشارع!

متحدّين الحر الشديد والتهديدات الأمنية، تظاهر في وسط القاهرة الآلاف من موظفي الحكومة ضد قانون "الخدمة المدنية" الذي صدر في آذار/ مارس الماضي وجرى تفعيله في شهر تموز/ يوليو، من دون مناقشته مع ممثلين للعاملين أو طرحه للحوار المجتمعي. لم تعرف القاهرة تظاهرة حاشدة بهذا القدر منذ تولي السيسي رئاسة الجمهورية قبل عام. والأمر مفاجئ للمتابعين فعمَّ الارتباك. حتى قوات الأمن تجنبت الاحتكاك
2015-09-10

أحمد مدحت

باحث من مصر


شارك
الكاتب الفرعوني الجالس القرفصاء

متحدّين الحر الشديد والتهديدات الأمنية، تظاهر في وسط القاهرة الآلاف من موظفي الحكومة ضد قانون "الخدمة المدنية" الذي صدر في آذار/ مارس الماضي وجرى تفعيله في شهر تموز/ يوليو، من دون مناقشته مع ممثلين للعاملين أو طرحه للحوار المجتمعي. لم تعرف القاهرة تظاهرة حاشدة بهذا القدر منذ تولي السيسي رئاسة الجمهورية قبل عام. والأمر مفاجئ للمتابعين فعمَّ الارتباك. حتى قوات الأمن تجنبت الاحتكاك بالتظاهرة، برغم عادة تفريق أي تجمعّ اعتراضي على السياسات المتبعة، وذلك منذ إقرار "قانون تنظيم التظاهر" عام 2013 الذي أدى إلى اعتقال الآلاف بتهمة خرق القانون.
الاعتراضات التي واجهت قانون "الخدمة المدنية" الجديد تعبِّر عن حالة النفور المتبادل القائمة بين الحكم الحالي وشريحة البيروقراطية المصرية التي تتمثل في ستة ملايين موظف يعملون في الجهاز الإداري للدولة بمختلف فروعه.. رفض كثير من الموظفين القانون لأنه ألغى الزيادة السنوية في رواتبهم، وخفَض أجورهم بشكل كبير، ولأنه يمنح الرؤساء المباشرين سلطات واسعة غير مألوفة في القطاع العام في مصر، من بينها خصم أجزاء كبيرة من الراتب أو وقف الترقية في حالة ارتكاب الموظف مخالفات بسيطة.
وقد بدأ الصدام بالظهور بطريقة ليست هادئة برغم أن عناصره موظفون، تربوا على تنفيذ الأوامر والطاعة للسلطة السياسية متمثلة في الحكومة.

الأصل والشكل

بدأت عجلة الخصخصة في الدوران من دون توقُّف، منذ تولي عاطف عبيد رئاسة الوزراء في عهد الرئيس المخلوع مبارك.. منذ ذلك الحين، تم بيع العديد من الشركات والمصانع والمؤسسات المملوكة للقطاع العام، بمختلف هيئاته، لتتحول لشركات خاصة مملوكة لمستثمرين ورجال أعمال. وبالتبعية، تقلص عدد العاملين في تلك المؤسسات، وتشرد الآلاف من العمال والموظفين، الذين طالبوا بحقوقهم من خلال القضاء المصري، ولم يحوزوا سوى على بعض التعويضات المادية.. في أفضل الأحوال. اتساع وتوالي حركة الخصخصة أحد أهم محركات الغضب ضد نظام مبارك، مما استتبع سقوطه في كانون الثاني/ يناير 2011.. شعر الجميع حينها أن النظام ينوي بيع البلد بكامله، من دون نظر أو حساب للآلاف من العاملين الذين يتضررون بسبب إجراءات البيع تلك، خاصة بعد أن انكشف للعيان حجم الفساد الضخم الذي شاب معظم عمليات البيع تلك. وبالرغم من كل هذا، حرص مبارك على عدم المساس بالقوام الرئيسي للعاملين بجهاز الدولة الإداري، مثل حرصه أيضاً على عدم المساس بدعم الخبز والمننتجات البترولية.. رأى مبارك أن تلك خطوط حمراء، المساس بها يعني أن يعمّ الغليان في الشارع ضده، وتجنب أيضاً ذلك لكي تبقى الشريحة البيروقراطية المصرية الواسعة في صفه، فإن لم تؤيده بشكل علني وواضح، فلا تعارضه على الأقل.. بينما الآن، يخالف السيسي ما سار عليه سلفه.
رداً على تظاهرات الموظفين، خرج السيسي في خطاب تلفزيوني يقول: "هل حجم البيروقراطية اليوم طبيعي ومناسب لدولة مثل مصر؟"، وطالب المتظاهرين بتقبل القانون وأن يضحوا من أجل بلادهم، وأشار إلى بعض البيانات الاقتصادية بجوار ذلك، مما يدل على أنه مستمر في طريق تقليل حجم العمالة في جهاز الدولة الإداري، الذي تستهلك أجوره حوالي ربع إنفاق الدولة خلال كل عام مالي جديد. وهو يعلن أن تقليل عدد العاملين في الدولة خطوة لا بد منها لإحداث النهضة المرجوة.

أبي يعارض الحكم

قضى أبي أكثر من ثلاثين عاماً كموظف في جهاز الدولة، في إحدى شركات التأمين الكبرى التابعة للحكومة، كان خلالها مثالًا للموظف الملتزم، الحريص على تأدية واجبه كما تريد الحكومة بالضبط. لم يخرج عن النص ولو لمرة واحدة، ولذلك أنهى خدمته في منصب ممتاز يحلم به الكثيرون.. ومثله مثل الكثيرين، كان أبي مؤيداً بشدة لعبد الفتاح السيسي عند ترشحه لمنصب الرئاسة، حتى أن المرة الوحيدة التي دخل خلالها أبي للجنة انتخابية، في حياته الممتدة، كانت هي المرة التي ذهب فيها لانتخاب السيسي رئيساً للجمهورية.. رأى فيه الزعيم القادر على إنقاذ مصر من الفوضى التي سيطرت على الجميع منذ اندلاع شرارة الحراك الثوري في كانون الثاني/ يناير 2011، وربما رأى فيه جمال عبد الناصر جديد، قادر على ضبط الأوضاع، بالقوة لو لزم الأمر، "ما يستتبع انتعاشة اقتصادية تعود علينا جميعاً بالخير"، وربما تعود للدولة قدرتها على توظيف أبنائها، كما جرى في ستينيات القرن الماضي.. تمنّى أبي أن أتخرج من الجامعة لأجد وظيفة "القوى العاملة" في انتظاري. هذا الحلم بعيد المنال، أصبح سراباً تدحضه حقيقة وجود ملايين من الشباب، من متخرجي الجامعات في مصر، عاطلين عن العمل.
تحطمت أحلام أبي على صخرة الواقع، ليصبح من أشد كارهي حكم السيسي.. لم يكن القمع الوحشي أو التعذيب في السجون أو الإجراءات المقيِّدة للحقوق والحريات هو ما دفع أبي للنفور، بل متابعته للنهج الاقتصادي لحكم السيسي، والذي أعطى ظهره لبيروقراطية الدولة وأحلامها، وفتح ذراعيه مرحِّباً بالاستثمار الخاص والشركات متعددة الجنسيات.

"الكاتب الجالس القرفصاء"

تمثال "الكاتب المصري الفرعوني الجالس القرفصاء" هو رمز الموظف المصري العتيد الذي تمتد جذوره على امتداد التاريخ المصري الطويل. فمصر عرفت الدولة منذ عهد الفراعنة، وظلَّ هيكلها الإداري (الذي وضع "محمد علي" حجر أساسه بشكله الحالي، مع تأسيسه الدولة المصرية الحديثة)، هو نقطة التوازن التي تحافظ على وجود الدولة المصرية في أكثر لحظات الغليان التي أوحت بأنها قد تعصف بكل شيء.
يوم جمعة الغضب، في 28 كانون الثاني/ يناير 2011، انهار قطاع الشرطة، وفُتحت السجون. لكن جهاز الدولة البيروقراطي ظل قادراً على العمل حتى في أكثر لحظات شيوع الفوضى في البلاد.. في إطار حديثه عن قوة الجهاز البيروقراطي للدولة المصرية ورسوخه وأهميته، طرح المؤرخ خالد فهمي أكثر من مرة فكرة أنه لولا وجود هذا الجهاز المتماسك، لما استطاع المواطنون المصريون أن يجدوا رغيف الخبز، صبيحة جمعة الغضب، بينما أجهزة الدولة الأمنية تنهار وتتفكك في مشهد شديد البؤس.
لا يثير الدهشة أن تجد الكثيرين ممن شاركوا في تظاهرة الموظفين، كانوا ممن نزلوا للمشاركة في احتفالات تنصيب السيسي رئيساً، خلال العام الماضي.. كانت كتلة البيروقراطية المصرية إحدى أهم دعائم تنصيب السيسي، وهي التي رسمت حوله هالة المنقذ المخلص والزعيم المنتظر، مما ساعده على إطاحة كل خصومه. يفقد السيسي الآن دعم قطاع كبير من تلك الكتلة الخطيرة، كتلة موظفي الدولة، ويغامر بنصيب كبير من شعبيته في سبيل تحقيق تنمية اقتصادية مأمولة. يشعر الموظف المصري الذي يحيا على أمل انتظار "العلاوة السنوية" والزيادة المرتقبة في المرتب، والذي يتمنى أن يشتغل ابنه بإحدى الوظائف الحكومية مثله كي يأمن غدر وظائف القطاع الخاص.. أن الحكومة تتخلى عنه، وأن تلك القبضة القوية التي كان يمسك بها سعياً للأمان، حتى لو كانت باطشة في بعض الأحيان، يجدها الآن تخبره أن عليه أن يتولى أموره بنفسه.. هكذا ببساطة.
في آذار/مارس الماضي، وعقب تسعة أشهر فقط من تطبيقها، ألغى المسؤولون ضريبة بقيمة 5 في المئة على المصريين الأعلى دخلاً. انتقد صندوق النقد الدولي قرار تأجيل ضريبة رأس المال على الأسهم بالبورصة، وقال إن ذلك قد يوقع على الفقراء العبء الأكبر من تقليل الحكومة للنفقات.. وفي ظل تضاعف أجور المنتسبين لقطاعي الشرطة والقوات المسلحة، منذ حَكَم السيسي، يشعر الموظف المصري أنه قد أصبح الطرف الأضعف في المعادلة، وعليه أن يسدد فاتورة غيره من قوت يومه.

للكاتب نفسه

وقائع جريمة قتل صناعة التعدين في مصر

أحمد مدحت 2016-10-07

حين جاء "السيسي" إلى منصب رئيس الجمهورية منذ ما يزيد على عامين، كان مدعوماً بوعود وأحلام وردية تنبئ بنهضة اقتصادية بشّرت الملايين من مؤيديه بأنهار اللبن والعسل التي ستجري في...

الفساد في مصر.. صناعة الدولة

أحمد مدحت 2015-12-24

عجز نظام السيسي عن تحقيق معظم وعوده للشعب المصري، وأهمها اتخاذ خطوات جادة لتحسين الأوضاع الاقتصادية، وضبط الأسعار، والقضاء على الجماعات الإرهابية المنتشرة في شبه جزيرة سيناء. ولدرء هذه الخيبة،...