سؤال الاستقرار والديموقراطية

يقف العراقي حائراً في تقييم الحقبة الحالكة التي مرت بها بلاده منذ 2003. فهو ما زال بعد أكثر من عقد يجهل إذا كان يعيش في نعيم الديموقراطية أم في جحيم الطائفية والقومية والمناطقية! ثلاثة عشر عاماً من عمره أمضاها يتحسس رقبته التي نجت من مقصلة الدكتاتورية، لكنه في الوقت ذاته يواصل تحسس باقي أجزاء جسده خشية أن تطالها مفخخة او سكينة استباحت دمه. وهو صوَّت على دستور دائم، وشارك في خمسة
2015-04-09

مازن الزيدي

كاتب وصحافي من العراق


شارك

يقف العراقي حائراً في تقييم الحقبة الحالكة التي مرت بها بلاده منذ 2003. فهو ما زال بعد أكثر من عقد يجهل إذا كان يعيش في نعيم الديموقراطية أم في جحيم الطائفية والقومية والمناطقية!
ثلاثة عشر عاماً من عمره أمضاها يتحسس رقبته التي نجت من مقصلة الدكتاتورية، لكنه في الوقت ذاته يواصل تحسس باقي أجزاء جسده خشية أن تطالها مفخخة او سكينة استباحت دمه.
وهو صوَّت على دستور دائم، وشارك في خمسة اقتراعات، لكنه لا يعرف ما إذا كان في بلد ديموقراطي، ومًن الجهة التي تمثّله وتدافع عنه وتطالب بحقوقه.
وبرغم أن العراقي يعيش في بلد دخلت خزينته اكثر من 600 مليار دولار خلال العقد الماضي، عبر ايراداته النفطية التي تمثل ثاني احتياطي عالمي، لكنه يجهل ما اذا كان غنياً ام فقيراً؟ جائعاً ام شبعاناً؟ كاسياً ام عريانا؟
العراقي بعد كل تلك السنوات هو عبارة عن كل هذه الأسئلة الوجودية التي تلح بثقلها كلما أطل نيسان/ابريل، وهو الشهر الذي اتخذه العراقيون القدامى رأساً لسنتهم الجديدة، ولربما سيتخذه بعض العراقيين رأساً لسنة أحزانهم ونكباتهم.

النظام السياسي

رغبة بدفن الديكتاتورية إلى غير رجعة، وجد العراقي نفسه يصوت على دستور كتب على وقع المفخّخات والقتل على الهوية. بعد عقود من الحروب والجوع والاضطهاد صعد العراقي التائه والخائف، الى سفينة دستور مليئة بالثقوب والأعطاب.
الكردي القادم من مجازر الكيماوي، والشيعي الخارج من المقابر الجماعية، بصموا على دستور يمنع عودة الديكتاتور "السني" الذي اضطهدهم، لكنهم يتفاجأون الآن بأن الدستور الذي وضع حداً للسلطة الفردية عجز عن بناء دولة ذات ملامح.
دستور مليء بالألغام والتناقضات. تنص المادة الثانية فيه على:
اولاً: الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدرٌ اساس للتشريع.
أ ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.
ب ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديموقراطية.
ج ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور.
وهكذا، وبموجب هذا الدستور، يعاني النظام السياسي العراقي من فصام حقيقي في تحديد ملامحه. هذا التناقض المقصود شكل لبنة لتشريعات يتم طبخها على مهل، كمنح حق الفيتو لفقهاء الشريعة على القوانين التي تخالف نص المادة (2/ أ)، بحسب مسودة قانون المحكمة الاتحادية الذي يستمر العمل عليه منذ أعوام.
اما على مستوى الإدارة، فالدستور العراقي يمنح التشريعات التي تقررها الحكومات المحلية علوية على التشريعات الصادرة من الحكومة الاتحادية لدى التناقض بين الجانبين:
تقول المادة 120: يقوم الإقليم بوضع دستورٍ له، يحدد هيكل سلطات الإقليم وصلاحياته وآليات ممارسة تلك الصلاحيات، على ألا يتعارض مع هذا الدّستور.
المادة 121، ثانياً: يحق لسلطة الإقليم تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الاقليم، في حالة وجود تناقض او تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الاقليم، بخصوص مسألةٍ لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية.
حجم التشوه يتضح بشكل اكبر اذا ما اخذنا بالاعتبار الصلاحيات الواسعة، وبعضها سيادية حسّاسة، التي تصر أطراف سياسية على منحها للمحافظات ضمن قانون خاص يتم العمل عليه منذ 2008.
ومن رحم قانون المحافظات هذا، الذي لم يدخل حيز التنفيذ حتى اللحظة، ولدت فكرة قانون الحرس الوطني الذي يمثل تطبيقاً عملياً للصلاحيات الأمنية الواسعة التي منحت للحكومات المحلية كجزء من صفقة الاتفاق السياسي الذي اسفر عن تشكيل حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي.
ويثير مشروع "الحرس الوطني" مخاوف من ان يتحول الى جيوش طائفية ـ مناطقية، الغرض منها زيادة الانقسامات وتعزيز التناحر بين بغداد والحكومات المحلية كما هو الحال في العلاقة المتوترة مع اقليم كردستان شبه المستقل، الذي يوصف بأنه أكبر من إقليم وأقل من دولة.
وهناك اطراف سنية ترى في مشروع الحرس الوطني ضمانة امنية لما يصفونها بانتهاكات الجيش الحكومي في مناطقهم، فيما يرى المتطرفون منهم بأن الحرس الوطني يمثل نواة لـ "بيشمركة سنية" ستعمل على حماية حدود الاقليم السني.
في مثل نظام سياسي كهذا لا يضع حدوداً واضحة للدولة واللادولة، يحق للعراقي ان يقع في حيرة من أمره بعد أكثر من عقد على إطاحة نظام صدام حسين.
 

الانقسام الطائفي والاثني

يغرق الدستور العراقي في الحديث عن المكونات بمسمياتها الاثنية والقومية كتعويض واع لسياسة الدمج القسري الذي مارسته الانظمة العراقية، طيلة العقود الماضية. وتجلت هذه الإشكالية في تغييب مفهوم المواطنة عن الدستور العراقي بشكل لا واعِ لمصلحة الهويات الفرعية.
ولم ترد "المواطنة" ومشتقاتها في الدستور العراقي إلا في 4 مواد في سياقات ثانوية، كما في حالة الحديث عن منح الجنسية العراقية في المادة 18، وحق المشاركة في الشؤون العامة في المادة 20، وواجب حماية الاموال العامة في المادة 27، وقضية التطبيع في كركوك وإجراء تصويت يشارك فيه مواطنوها في المادة 140 المثيرة للجدل.
ويحسب للدستور العراقي انه غض الطرف عن "القضية الطائفية"، فهو لم يتطرق لها بشكل مباشر الا عند الحديث عن المراقد الدينية والمرجعيات الدينية والمدن المقدسة.
لكن المعادلة الإثنو/طائفية التي كرسها الحاكم المدني الأميركي بول بريمر عبر تشكيلة مجلس الحكم الانتقالي جعلت من الانقسام الطائفي "قانوناً" غير مكتوب يفرض نفسه كأصل محكّم على ادارة الدولة والشراكة السياسية.
وأسهمت هذه المعادلة في إعطاء العراقي العربي هوية طائفية (شيعية / سنية) وأقصت المكونات الاثنية والدينية الاخرى من المشاركة، كما أسهمت في إعطاء العراق الكردي (اقليم كردستان) هوية قومية أقصت المكونات القومية والدينية وحتى السياسية من المشاركة فيه.
وبعد ان كان الحديث عن هذه المعادلة الاثنو/طائفية يدور همساً، منذ 2003، بات يعلو شيئاً فشيئاً منذ حكومة نوري المالكي الثانية عام 2010. وبعد تشكيل حكومة العبادي، بات الحديث معلناً عن مساع لتشكيل هيئة لـ "التوازن الوطني" هدفها إعادة توزيع مناصب الدولة العراقية على الكتل السياسية التي خولت نفسها حقاً ازلياً لتمثيل "مكوناتها" الاثنية والطائفية.
وعلى الرغم من ان الدستور المكتوب يتحدث عن عراقي وعراقية ومواطن ومواطنين، الا ان الدستور غير المكتوب يتحدث عن عراقي شيعي وآخر سني وثالث كردي ورابع تركماني وخامس مسيحي...
وبينما ينص الدستور على تبني النظام "الديموقراطي البرلماني" الذي يقوم على حكم الاغلبية، فالدستور غير المكتوب، الذي يراد له ان يتحول الى عرف دستوري ملزم، ينص على محاصصة هذه التشكيلة الاثنو/طائفية بمعزل عن نتائج الانتخابات وصناديق الاقتراع.
 

الاستقرار أم الديموقراطية؟

يكابد العراقي منذ اكثر من عقد، وضعاً مأساوياً لا يحسد عليه. فهو يقف طويلاً امام خيارات احلاها مر، بين ديموقراطية تبتعد كلما كرست النخبة السياسية معادلة المحاصصة في الحكم، وبين استقرار لن يأتي للاسباب ذاتها.
ولم يعد خافياً الجدل الذي يدور في الشارع حول فاتورة ديموقراطيّة يتمتع بها الساسة لوحدهم، ويقترب هذا الجدل من الانحياز لخيار الاستقرار على مساوئه، كما ظهر في اعادة انتخاب نوري المالكي، قبل الإطاحة به. كما تذهب إليه المعطيات في اقليم كردستان الذي يسعى لتجديد ولاية رئيسه مسعود برزاني الذي يحكم الاقليم منذ 8 سنوات برفقة نجل شقيقه الذي يرأس الحكومة المحلية للمرة الرابعة.
في صميم هذا الجدل يجب ان توضع ظاهرة داعش وتداعياتها. اذ بات طيف واسع من العراقيين على اعتقاد راسخ بأن "داعش" هو الوليد الشرعي لنظام سياسي كهذا مشوه ومنقسم وعاجز عن تطوير ذاته، وهو بالتالي قادر على إنتاج ظواهر داعشية أخرى بأسماء ورايات جديدة.

للكاتب نفسه