تأسيس حركة اجتماعية جديدة في المغرب

إعادة تشكل السلطة   يُغْفِلُ العديدُ من الفاعلين داخل حركة "20 فبراير" والحركات الاجتماعية الجديدة التحولات العميقة على مستوى السلطة التي تعرف إعادة التشكل. لقد انتقل النظام من استعمال سلطوية قائمة على العنف المنهجي (له مؤسسات فعلية) إلى سلطة واسعة النطاق ومركبة يحملها العديد من فاعلي الحكم الجديد. هذا التحول لا يخص المغرب وحده، بل مجموعة من المجتمعات، وتهم
2015-03-22

حمزة الصميلي

أحد أعضاء جمعية "مغرب آخر"


شارك
نبيل نحاس- لبنان

إعادة تشكل السلطة
 

يُغْفِلُ العديدُ من الفاعلين داخل حركة "20 فبراير" والحركات الاجتماعية الجديدة التحولات العميقة على مستوى السلطة التي تعرف إعادة التشكل. لقد انتقل النظام من استعمال سلطوية قائمة على العنف المنهجي (له مؤسسات فعلية) إلى سلطة واسعة النطاق ومركبة يحملها العديد من فاعلي الحكم الجديد. هذا التحول لا يخص المغرب وحده، بل مجموعة من المجتمعات، وتهم إعادة تعريف مفهوم السياسة والدولة. منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، عاد السوق الأكثر تحررا من قيود الدول ليبرز من جديد، وذلك بعد خفوته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في الشمال، ونشأة الدول الوطنية الجديدة في الجنوب. يستند السوق الجديد في مشروعيته الأيديولوجية على النظريات الاقتصادية النيوليبرالية التي تقدم نفسها كنظريات علمية، ما ساهم في تراجع الدول التي سمحت تحت الضغوط المختلفة بفتح اقتصادياتها للعولمة كما تقوم بتعريفها المنظمات العالمية.
في هذا السياق، وباسم دوغمائية الانفتاح والمنافسة (الحرة)، تم تفكيك القطاعات العمومية الأساسية لمصلحة فئات ومصالح خاصة. في المغرب تمت خصخصة قطاعات مثل التعليم العمومي، الصحة، الفِلاحة، السكن الاجتماعي، الاتصالات والمواصلات، التدبير المفوت للماء والكهرباء وحتى جمع النفايات! قطاعات كثيرة تحولت لسوق واسع يدر أرباحا طائلة على فئات محددة جدا داخل المغرب، وكذلك شركات دولية مستفيدة من هذا الانفتاح. إنها السياسات التي تنتج هوة وتراتبية كبيرة داخل المجتمع وتحكم على فئات واسعة بالتهميش وعدم الولوج لمرافق الحياة الأساسية التي تخولها قطاعات كالتعليم مثلا.
نذكر من بين التحولات الأساسية كذلك انتقال الملكية من الفاعل المؤسساتي الأول إلى فاعل رئيسي داخل السوق، مما يجعل الحيز السياسي رهينة للاقتصادي. وهو السوق الذي تتنافس فيه شركاته المفترسة بشراسة مع شركات خاصة لفاعلين خواص مستفيدين من الانفتاح، يحملون جنسية المغرب أو قادمين من دول أخرى.
يرتبط هذا التحول بتعريف ليبرالي جديد لـ "السياسي". هذا الأخير يصبح مجالا منفصلا لا يخص سوى محترفي السياسة، ويصير وسيلة لإيجاد حلول لمشاكل ظرفية بدلا من أن يشكل الوسيلة الأساسية للعمل والتأثير في مستوى الواقع الاجتماعي. وبالتالي فإن مجموعة من المطالب التي رفعتها الحركة (أو بالأحرى فاعلون وتنظيمات داخلها) لا تنتج أي نقد في الواقع، ما دام أنه لا يتم ربطها بالقضايا الاجتماعية. دون هذا الربط فهي تغفل طبيعة الصراع الذي ينبغي خوضه. من جملة هذه المطالب نذكر تلك المركِّزة على "الاعتراف" بالحقوق والحريات، والمطالبة بديموقراطية تمثيلية وفصل السلطة عن الثروة. إن غياب النقاش داخل الفضاءات العمومية البديلة التي شكلتها الحركة (الساحات العمومية وشبكات الإعلام البديل مثلا) حول قضايا التهميش والفقر الذي يؤدي إلى خسارة التأهيل الاجتماعي يصب بالأساس في مصلحة النسق الليبرالي دون اقتراح بدائل لمصلحة الفئات الاجتماعية المهمشة اقتصاديا، وثقافيا واجتماعيا.
أدى هذا الواقع إلى ابتعاد الحركات الاجتماعية عن مطلب المساواة في الواقع لتعويضه بمطلب المساواة أمام القانون. هذا الابتعاد يدفعنا للرجوع الى سنوات القمع السياسي حيث ترسخت داخل المعارضة المطالبة (المشروعة حينها) بحماية الحريات وعلى رأسها الحقوق السياسية. فأمام ديكتاتورية الحسن الثاني ونظامه القمعي، كانت الحركات المناضلة بعد الاستقلال غالبا ما تركز مطالبها حول قضايا التداول بالسلطة، والديموقراطية التمثيلية، والملكية البرلمانية، ونزاهة الانتخابات، والحق في التعبير، ومناهضة التعذيب والاعتقال السري، ...إلخ.
لكن واقع الحال يظهر أن قمع الدولة لم يعد كما في السابق ممنهجا ومرتبطا بأجهزة لها تشتغل خارج الرقابة الكاملة. فعلى الرغم من كون الصحافة لا تزال تعيش مضايقات، وعلى الرغم من بعض الاعتقالات السياسية والعنف غير المبرر وانتهاكات حقوقية ترصدها جمعيات فاعلة في المجال الحقوقي، إلا أنها انتهاكات محصورة، بعيدة عن الوضع إبان عهد الحسن الثاني وسنوات الرصاص، ولا تعم المجتمع المغربي بالكامل ولا النخب المعارضة عامة.
إنّ الأجهزة أو التقنيات التي تقوم عليها السلطة في السياق المغربي لا تجعل من العنف أساسا لها لتحقيق السيطرة والإخضاع، بل تلجأ لإفراغ السياسي من معناه فتجعله شيئا معزولا عن الواقع الاجتماعي.
 

المجتمع المدني الجديد
 

إلى جانب المفهوم الجديد للسياسي نجد المنعطف الثقافوي الكبيرعلى مستوى التنظيمات السياسية والجمعوية المغربية منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وهو المنعطف الذي لا يقتصر على المغرب بل نجده في كافة المجتمعات التي تعرف تصاعدا قويا لمجتمع مدني مجِزئ للقضايا النضالية وفاعل كقناة أساسية في العمل السياسي عبر رؤية "تدبيرية" تعتمد على "تحديد الأهداف" و "النجاعة" في الأداء. تقوم هذه النظرة التي تلغي السياسة في مفهومها الشامل على خطاب نقدي لبيروقراطية وضبابية العمل الحزبي.
يستفيد هذا المجتمع المدني الجديد من الدعم المادي لمؤسسات دولية ترى فيه خير سفير وأداة قوية لنشر الخطابات المهيمنة والثقافة المعولمة. كما يستفيد من دعم الدولة التي تتراجع مقابل تسليم العديد من أدوارها لجمعيات وهيئات غير حكومية أو موازية تضم مجموعات غير متجانسة من فاعلين خواص، وذلك من جمعيات الأحياء إلى جمعيات تضم شخصيات قادمة من عالم الأموال. فيلعب هذا المجتمع المدني دورا كبيرا في تطور الواقع، وإرساء نظرة مهيمنة في الواقع، في غياب كل هيئة تنظيمية أو إمكانية ضمان انفتاح كبير للفضاء العمومي. فالجمعيات الكبرى المستفيدة والمجيبة عن الأهداف التي تتيح الدعم الخارجي، كما تلك التي تضم وتعبر عن رأي الفئات السائدة، ترسي هيمنة على النقاش العمومي وتوجِّهه عبر تحديد ما يمثل "مشكلا" اجتماعياً، وما ليس مشكلا حسب نظرتها ونظرة مموليها. فتصير قضايا التهميش وقضايا الفئات الفقيرة وآفات القطاعات العمومية مغيبة عن النقاش والفضاء العموميين.
يدعي المجتمع المدني الجديد بأن كونه "عمليا" يجعل من "الفعل" أساس قيامه دون الاستناد على أية أيديولوجيا. إلا أنه في واقع الحال يمرر أيديولوجيا سائدة تلغي النقاش والتحليل الذي يأخذ بعين الاعتبار البنى ووضعية المجتمع، كما يبتعد عن كل قراءة نقدية عميقة. ففي واقع الحال، إن الفاعلين الجدد داخل هذا المجتمع المدني ينتمون لبنية اجتماعية وتاريخية محددة. فعلى الرغم من الخطاب الذي يقدمونه على أساس كونه غير سياسي، فإن بناءهم لما يعتبرونه مشاكل ينبغي حلها، وإنتاجهم للحلول التي تظهر وكأنها "حلول طبيعية" ومسلم بها، وكذلك الوسائل التي يعتمدونها، كلها أشياء منبثقة من تحكيمات أيديولوجية يحددها وضعهم الاجتماعي والتاريخي. ففي غالب الأحيان يكون هذا المجتمع المدني وفاعلوه حاملين لنموذج نيوليبرالي يلعب على المستوى المحلي دورا مسهلا لعبور الوصفات النيوليبرالية لـ "إجماع واشنطن" الذي تحول لمسلمات يتم فرضها عبر كل الطرق، خاصة من خلال المجتمع المدني كآلية للقوة الناعمة.. إنها الوصفات المركزة على ضرورة انفتاح السوق دون أية قيود وضمان المنافسة في مقابل تحطيم إمكانية إعادة التوزيع عبر السياسات العمومية.
بعدما تم إبعاد قضايا العدالة الاجتماعية، طفت على واجهة الفضاء العمومي مطالب ترفعها الجمعيات والأحزاب المعبرة عن مصالح مجموعات جديدة مستفيدة من التحولات التي سبق وصفها وعن مصالح الأفراد المشكلة لها والمنخرطة فيها...

النص جزء من "نداء لتأسيس حركة اجتماعية جديدة، فاعلة ومستوعبة لمختلف المتغيرات