طنجة وحلب

عندما كنت أدرّس طلبتي بحلب رواية "وداعا روزالي" للكاتب التونسي حسونة المصباحي، لم أكن أدرك أنّ بعض المقاطع التي اخترتها سوف تقودني للمصير ذاته، بكل خيبات شخصياتها، وبكل قطرات العرق التي كانت تتصبب تعبا وضجرا وانكسارا من أجساد المهاجرين، وهم على متن السفينة، يسرحون تحت شمس مضيق جبل طارق، ويتوقون لقضاء إجازة صيفية سعيدة في طنجة، بعيدا بعض الوقت عن أوروبا وهموم الغربة وقساوة
2015-02-12

موسى بيطار

كاتب من سوريا


شارك
| en
طنجة

عندما كنت أدرّس طلبتي بحلب رواية "وداعا روزالي" للكاتب التونسي حسونة المصباحي، لم أكن أدرك أنّ بعض المقاطع التي اخترتها سوف تقودني للمصير ذاته، بكل خيبات شخصياتها، وبكل قطرات العرق التي كانت تتصبب تعبا وضجرا وانكسارا من أجساد المهاجرين، وهم على متن السفينة، يسرحون تحت شمس مضيق جبل طارق، ويتوقون لقضاء إجازة صيفية سعيدة في طنجة، بعيدا بعض الوقت عن أوروبا وهموم الغربة وقساوة "البرد، العتمة الدائمة، السكن في أحياء القصدير، وفي الأقبية المظلمة وغرف السطوح الضيقة، والعمل في أقسى الظروف والإهانات اليومية". طنجة وما أدراك ما طنجة، روزالي الحبيبة، بكل مساجدها البهية وأسوارها المدّعمة بالأبراج الدفاعية وأبوابها التي لها ألف مفتاح ومفتاح. أما مدينتي حلب، فكانت تتشابه مع طنجة في هذه الطقوس الروحانية المسكونة بصلوات الجوامع ومآذنها وعبق الأبواب القديمة ومفاتيحها.

 لم يكن اختياري لنص حسونة المصباحي لأنه ترك تونس أيام حكم زين العابدين بن علي، وأقام بمدينة ميونيخ وأصدر روايات عديدة هاربا من بطش الديكتاتور وسكاكينه التي تقطع الأرزاق قبل الأعناق، ولا لشدة إعجابي بالسيجار الفاخر الذي كان يدخنه، منتشيا بإزاحة بورقيبة، ولا لأنّ مدينتي كانت علاقتها ممتازة مع الغرب، على الأقل منذ تاريخ تأسيس أول قنصلية في خان النّحاسين بالمدينة القديمة سنة 1548، قبل تأسيس أول قنصلية بطنجة سنة 1788. بل لسبب واحد فقط هو أنني تعاطفت مع شخصيات الرواية، وخاصة مشهد الرحلة الصيفية الى طنجة، وهذه السفينة التي تحمل المهاجرين المكتظين بأعداد كبيرة، من أطفال ومراهقات ونساء بدينات وشيوخ متعبين، ورجال يدخنون بشرود، حالمين بقضاء إجازة سعيدة في ربوع الوطن الذي "طردهم شرّ طردة"، طردهم بالأمس ويطردنا اليوم، نحن البسطاء والفقراء، والذي يوما بعد يوم يمارس هواياته الشاذة في ترحيلنا على مبدأ بلاد الله واسعة، ويبرر فساده وفشل خططه في التنمية الموعودة.. نحن الأبرياء الذين لا نحب ركوب السفن ونصاب عادة بدوار البحر وندوخ، كما لا نرغب ركوب الطائرات وربط الأحزمة ولا مشاهدة بيوتنا من السماء، بل كنا نرغب بالبقاء بها، نسرح ونمرح مع أولادنا في صحن الدار ونسامر جيراننا. ولكن تبقى تلك السفينة التي نجّرها حسونة المصباحي بفنية روائية رائعة، ومشهدية بصرية ملونة بألوان الفراق واللوعة.. سفينة واسعة صارت تكبر يوما بعد يوم، وصارت أمرا واقعا، لعلها تساعدنا رغم أجسادنا الثقيلة في العبور صوب الغرب المنشود، فيصبح الوطن بكل تضاريسه الكبيرة مجرد فسحة ضيقة لقضاء إجازة صيفية وتنسّم نسمات هوائه وتذوق أشهى مأكولاته.

 لقد فسح نص حسونة المصباحي لطلبتي بمدرستي بحلب آنذاك، مجالات واسعة لمناقشات، فكتبوا مستنكرين الهجرة الخارجية ومندفعين بجرعات وطنية وفيتامينات إصلاحية، علما أنه كان عليّ أن أستدرك اقتصاري على هذه الهجرة الخارجية وأن أضيف لهم نصوصا تتناول الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة وتداعياتها، والهجرة القسرية وكوارثها، والهجرة غير الشرعية ومصائبها، وأن استشرف كل تعابير المرحلة الراهنة كالنزوح واللجوء وتأثير النزاعات المسلحة على إنسانيتنا. وكان عليّ أيضا أن أرشدهم الى كيف يطرقون أبواب الأمم المتحدة ويحصلون عل صك لجوء، وكيف يقفون بالطوابير أمام سفارة غربية، يروون ألف قصة وقصة مروّعة ليحصلوا على تأشيرة سفر.

 كنت سعيدا وأنا أسمع آراء طلبتي وهم يناقشون نص حسونة المصباحي وكأنهم يرقصون التانغو على سفينته، يرتدون القمصان الخفيفة، كما شخصيات الرواية، ولا سيما الشباب والصبايا الذين يرتدون سراويل الجينز ويمضغون "الشوينغوم"، ويضعون الووكمان على آذانهم، ويحملون "حقائب وأمتعة مكدسة في كل مكان وبأعداد هائلة".

 ولأنني كنت أخاف من المدير المنتدب وأخشى تقاريره، استبعدت من الرواية شخصية نادية الماركسية، وزهرة حبيبة الراوي وشخصيات أخرى، واخترت مقطعين فقط منها، وهما وصف المهاجرين على متن السفينة، وهواجس الراوي ميلود وهو يبوح ناشدا خلاصه وخلاصي وخلاصنا جميعا "أنا كائن لا شرقي ولا غربي، فررت من الشرق فرفضني الغرب فمكثت معلّقا في الفراغ وخسرت الاثنين معا، الشرق والغرب". كانت زهرة تصرخ بوجه الراوي "اعلم أنّ خلاصك ليس مرهونا بالأمكنة وإنما بك أنت، أنت فقط". وبصراحة، تغابيت عن الفهم، رغم أن خلاصي مرهون بالأمكنة، فخذلت طلبتي. واليوم لا مدرسة ولا طلبة. لا أعرف لماذا لم أبصر هذه الهموم والمشكلات في حلب، ولماذا تحاشيت إلقاء الأضواء عليها. رغم أنّ المدينة حصدت من التدمير بما أقصى ذاكرتها المتقدة وضيّع مفاتيح أبوابها القديمة، وشرّد زهرة أولادها وشبابها في مغامرات متعبة.

 كنت أكذب حالي، بأنها حلب أم المعالي والرتب، وأصرخ بعنترية "ولو ...أنتم بحلب"، وزاد من الكذب عندي أنّ ليس في حلب بحر ولا سفينة ولا مضيق جبل طارق، ولا أكياس نايلون لحمل أمتعتنا والهروب. كل يوم، يخبرني إخوتي وأصدقائي وزملائي في اتصالاتهم ورسائلهم أنّ حلب صامدة ولا تقلق على المسافرين الهاربين على متن قارب خشبي صغير من مرفأ تركي، أو على متن سيارة صغيرة أو باص، سواء عن طريق خناصر البري صوب الحدود اللبنانية، أو عن طريق معبر السلامة البري أيضا صوب الحدود التركية.

 واليوم عندما أسترجع "وداعا روزالي" أحن لطنجة وحلب معا، أشعر بمرارة ما يحدث، وأخشى أن يغرقني مركب روزالي في عمق البحر. وقبل كل شيء لا أعرف أين نسيت أيامي وأقلامي وحقيبتي الصغيرة ، في أي صف وفي أي مدرسة.


وسوم: العدد 132

للكاتب نفسه

مسرح الشعب في حلب

موسى بيطار 2016-06-14

شهدت مدينة حلب، عقب هزيمة حزيران/يونيو، ظاهرة مسرحية متميزة عُرفت باسم "مسرح الشعب"، أسسته بلدية حلب عام 1968 بجهود مشتركة من أدباء وفناني المدينة، وبقرار جريء من محافظها، تجاوز فيه...

التعليم الثانوي في سوريا: تداعيات الحرب

موسى بيطار 2016-05-16

أثّرت الحرب بصورة سلبية كبيرة على طلاب مرحلة التعليم الثانوي، من مختلف الجوانب الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والنفسية والجسدية، وهي ستترك تداعيات خطيرة على صعيد القيم الإنسانية للمجتمع بكل مكوناته المتنوعة،...