تمثيل بمتناول اليد لعالم ليس بمتناول اليد

هناك مفارقة يختبرها سكّان عمّان جيّداً: الفرق بين الغرب والشرق الجغرافي الذي يحيل إلى تقسيم طبقيّ حاد. في تقرير لقناة الجزيرة بعنوان "منسيون - منطقة السويمة قرب البحر الميت"، يقول محمّد صالح، أحد سكّان القرية (74 كيلومترا جنوب غرب عمّان، وحوالي 1.5 كيلومتر شرق البحر الميّت) "نحن فقط نشاهد. وأنت تمشي وتنظر إلى السويمة تشعر بالفرق بين غرب الشارع وشرقه كالفرق بين الأبيض والأسود،
2016-02-18

أحمد الزعتري

كاتب وصحافي من الأردن


شارك
"الزاوية الجميلة" في منزل أسرة من السويمة (الأردن) - الصور لجيل فونتوليه

هناك مفارقة يختبرها سكّان عمّان جيّداً: الفرق بين الغرب والشرق الجغرافي الذي يحيل إلى تقسيم طبقيّ حاد. في تقرير لقناة الجزيرة بعنوان "منسيون - منطقة السويمة قرب البحر الميت"، يقول محمّد صالح، أحد سكّان القرية (74 كيلومترا جنوب غرب عمّان، وحوالي 1.5 كيلومتر شرق البحر الميّت) "نحن فقط نشاهد. وأنت تمشي وتنظر إلى السويمة تشعر بالفرق بين غرب الشارع وشرقه كالفرق بين الأبيض والأسود، فغرب الشارع خدمات وسياحة، أمّا شرق الشارع فالكهرباء مقطوعة عنه معظم الوقت".
يمكن اعتبار "السويمة" انعكاساً لعمّان، حيث يعاني شرق الأخيرة من التهميش وقصور الخدمات والبنية التحتيّة، بينما يتم ضخ الاستثمارات في غربها. ومن بداية هذا الانقسام الذي حدث بسبب هجرات اضطراريّة في المجمل (العشائر التي هجرت جنوب الأردن إلى شرق عمّان بسبب الثارات والمعارك، وعشائر الجعارات التي هجرت الكرك في بداية القرن العشرين بعد هزيمة قبيلة العمرو التي تنحدر منها على يد عشائر أخرى، ولجوئها إلى شواطئ البحر الميّت)، تفاقمت الفروقات الطبقيّة بشكل حاد واستمرت إلى يومنا هذا، حيث نراها تتجلّى في السويمة التي تتجمّد في الزمن مقابل فنادق البحر الميّت الفخمة.

 أتى التصوير الفوتوغرافي إلى الأردن والمنطقة أيضاً عن طريق الهجرة القسريّة. إذ جلب اللاجئون الأرمن الفارّون من مجازر الدولة العثمانيّة بحقّهم مفهوم التصوير ومعدّاته كاختراع جديد إلى البلاد التي لجأوا إليها مثل مصر ولبنان وسوريا وفلسطين والأردن. ومنذ ذلك الوقت، مرّ التصوير الفوتوغرافي بمراحل مختلفة، من التوثيق الشّخصي والحكومي إلى أغراض الدراسات والتجسّس، وحتّى التصوير الفنّي. وبقيت عدّة استوديوهات للتصوير تعتمد على التصوير اليدوي - غير الرقميّ، والتي ترتبط الآن بمفهوم شعبي رغم انتشار الهواتف الذكيّة بكاميراتها ذات الدقّة العالية والرخيصة نسبيّاً، وذلك لانتشار ثقافة هذه الاستوديوهات التي تقوم على أمرين: التوثيق والتجميل والترحال.

 وإذا تناولنا هذه العناصر، فالتوثيق واضح ومباشر. توثيق إضافةٍ جديدة على العائلة: مولود أو زوجة أو صديق أو زيّ أو سلاح أو حتّى فرس. وإن لم يتغيّر مفهوم التوثيق، فقد تعدّدت إضافاته: سيّارة، شهادة جامعيّة وغيرها.. أدوات التجميل تطوّرت بشكل سريع ابتداءً من الرّسم والتلوين لتحسين الصورة المشوّشة في البداية، مروراً بألوان الخلفيّات، وحتّى استخدام الوسائل الرقميّة الآن. بينما يتجلّى مفهوم الترحال كعنصر تجميليّ أيضاً في إضافة لوحات خلفيّة للبندقيّة أو باريس، أو مشهد طبيعيّ لبحيرة أو غابة. وحين ننظر إلى تطوّر التصوير الفوتوغرافي في الاستوديوهات التقليديّة، نستطيع ملاحظة الانفصال الطبقي الحاسم من خلال هذه العناصر، خاصة في التجميل والترحال. فبينما يتصوّر الناس أمام خلفيّة مزيّفة لتاج محل أو الأهرامات أو برج إيفل، يستطيع المقتدرون التصوّر أمامها في أماكنها الفعليّة. وبينما يقتصر، غالباً، التجميل الرقميّ الآن على إزالة البثور أو تفتيح البشرة، أو بشكل أقل استعمالاً، لإنتاج الفن التجريبيّ أو المفاهيميّ أو التجريديّ، يتم استخدام هذه البرامج بحد ذاتها كفن شعبيّ، قد يعتبر تعويضاً عن ذلك التقليد الذي انتشر في بداية التصوير بإضافة عبارات إهداء أو استنساخ أشخاص سافروا أو ماتوا في الصور المطبوعة. من هنا، نشأ هذا الفن باعتباره لهواً واستعراضاً تقنيّاً يروي قصّةً أو يخترع سرداً موازياً للواقع. فمن زرع جسد أنجيلينا جولي إلى جانب "صديقها الجديد" أمام سيارة فيراري، إلى استنساخ 3 شخصيّات من شخص واحد: أحدهم يجلب الآخر للاعتذار من الثالث الذي يرفض مسامحته (مسامحة نفسه)، إلى قطع شاب لقدمه بسيف لتقديمه كقربان لمعشوقته.

استقبلت الطبقات الأخرى هذا الفن، الذي يمكننا اعتباره فنّاً شعبيّاً جديداً قائماً على اللهو، بسخرية عالية تجلّت في تخصيص عدّة صفحات على مواقع التواصل الاجتماعيّ، خاصّة فيسبوك، لاصطياد هذه "الإبداعات" مع مرافقتها بسخرية من لهجات وموضات ملابس وإيماءات جسديّة شوارعيّة سائدة.

 عندما حدّثني الفنان السويسري جيل فونتوليه عن مشروعه الجديد "السويمة"، لم أكن متحمّساً للتجربة التي صنّفتها بداية، مباشرة، ضمن الفن الأجنبي الذي يستسهل الانطباعات المسبقة ويرسّخها، وهو بذلك يحوّل الحياة اليوميّة في بلاد مثل الشرق الأوسط إلى فن "إيكزوتيك" للمُشاهد الغربيّ المحمّل أصلاً بصور انطباعيّة عن "الشرق". خاصّة أن جيل نفسه وقع سابقاً في هذا المطب في عمله "وكالة الفضاء الفلسطينيّة" الذي أنجزه في الأردن وفلسطين (2011 – 2012)، مؤسّساً وكالة فضاء وهميّة للشعب الواقع تحت الاحتلال، بسذاجة يقع فيها كثير من الفنّانين العرب أصلاً.
لكن جيل فعل عكس ما هو متوقّع: فعلى مدار 5 سنوات، زار قرية "السويمة" وصادق سكّانها، ملتقطاً لهم صوراً بكاميرته لمن لا يمتلك صورة، وطبعها لهم، حتى قرّر أن يلتقط الأهالي صورهم بأنفسهم، بالتموضع الذي يرونه مناسباً، وفي الأماكن التي يرغبون بها، ومع أقربائهم وأصدقائهم، وبالخلفيّات التي صنعوا بعضها بأنفسهم.

هنا تحوّل فعل التقاط الصور العفوي إلى أبعد من مجرّد تجربة اجتماعيّة فوقيّة لغريب لا يتكلّم لغتهم، أو عملاً تنمويّاً أو إنسانيّاً خيريّاً يختفي "ناشطوه" بعد إنجازه.. بل تحوّل جيل فونتوليه، كما نرى في الفيديو المرافق للعمل، إلى جزء من هذا الاستوديو العفويّ: متموضعاً كما أراد المصوّرون الجدد أن يتموضع، ملبّياً دعوة التصوّر- لا فارضاً فعل التصوير ولا مختبئاً وراء الكاميرا كحاجز يستدعي دور مراقِب/ صحافي/ باحث. لكن هل هذا كافٍ؟ وهل ثمّة أصلاً في هذا الخطاب ما يحمّل فنّاناً مثل جيل مسؤوليّةً اعتذاريّة عن كل الحملات، المنظّمة عن قصد أو غير المنظّمة، عن سذاجة، التي أدّت إلى نشر صور انطباعيّة عن المجتمعات البعيدة عن الغرب؟

 إذا تركنا هذه الأسئلة مفتوحة، ربّما ينقذنا محتوى العمل الفنّي في تلقّيه ضمن سياقه الأصلي. إذ لا يطمح لأن يمثّل تحدّياً مفاهيميّاً، ولا يستمد قيمته من جماليّات الفن المعاصر السائدة. فالعمل، بصوره والفيديو المرفق، يتخلّص من الصورة النهائيّة المثاليّة بتحسيناتها الرقميّة وملاءمتها للقيم الجماليّة المهيمنة، وهذا أفضل ما يمكن استخلاصه منه. وبدلاً من المنتَج النهائي "النظيف"، ننظر إلى صور مشوّشة وباهتة تكاد أن تختفي فيها نقطة التركيز، وبإضاءة زائدة أو ناقصة. في عدّة صور، يقف أفراد عائلة فرادى أمام زاوية مزركشة لأرفف يتوسّطها تلفزيون وتزيّنها أزهار وأوراق اصطناعيّة. يمكننا الاستنتاج أن هذه الزاوية أثيرة لدى هذه العائلة: فالأب يرتدي زي الشرطة الرسمي، والبنت ترتدي أفضل فساتينها وهي تكتّف يدها اليمنى وتضع أصبعها على خدّها في الصورة المثاليّة للفتيات الرقيقات واللواتي يتأمّلن في المجهول، أو ينتظرنه.

 يمكن اعتبار هذه الزاوية فنّاً شعبيّاً يفتخر صانعه أو صانعته أو صانعوه به. فاختلاق زاوية "جميلة" وملوّنة في المنزل يستلزم تغريباً هائلاً عن المحيط الغارق في اللون الأصفر والحرارة الفظيعة في الخارج. والتباين الذي يضغط بقوّة بين قرية السويمة وفنادق البحر الميّت (الذي يمكن أن يكلّف المبيت ليلة واحدة في غرفة من غرفها أكثر من الدخل الشهري لعائلة من السويمة بأكملها)، يمكن ببساطة اعتباره هيمنة تمنع بروز أفكار خلّاقة. لكنّ ثمّة من صنع هذه الزاوية، والجميع فخور بها.

 هل نعتبر عمل جيل فونتوليه الفنّي عملاً جيّداً لأنّه لم يسخر ولم يثر مواضيع اجتماعيّة أو فنيّة فوقيّة ولم يقدّم عمله بعبارات لجيل دولوز وميشيل فوكو فقط؟ ربّما يكفي أن نفكّر في مصير الصور لو وصلت إلى أيدي القائمين على صفحات السخريّة في فيسبوك لندرك أن جيل ساهم بتمييع القيم الجماليّة السّائدة في الأعمال الفنيّة المعاصرة - وربّما يكون هذا كافياً الآن لسبب وحيد: أنّه وضع تمثيلاً، قد يكون حقيقيّاً، لصور بمتناول يد أهالي السويمة لعالم لا يبدو أنّه بمتناول أيديهم.
 

 

Sowayma from Gilles Fontolliet on Vimeo.

مقالات من الأردن

ما تبقّى من «الكرامة»

2018-04-26

في هذا المقال استعادة لمعركة «الكرامة»، ومحاولةٍ التورّط في البنيان السياسيّ الذي أنتجته بالنسبة لفلسطين والأردن، وموقعها من الوعي الصهيوني العام، فضلًا عن تتبّع ظلّها الرسمي وما تبقّى منها اليوم..

للكاتب نفسه

مأساة توثيق عالم زائل

"على الأحياء تعلّم التعايش مع الماضي ومع الموت، وأن يتعلّموا أبجديّة الحديث مع أشباح الموتى، لكن ليس بالنيابة عنهم أو باسمهم، هذا إن كانوا يرغبون في الوصول إلى ما يقترب...

تمارين على ممارسة حق السّرد والذاكرة

لأغراض إنسانيّة بالضرورة، يبدو أن كمّا كبيراً من الإنتاج الفنّي الفلسطينيّ الذي يخاطب القضيّة الفلسطينيّة يستمدّ هويّته من العدالة الشعريّة. فبين الفنّانين الشباب الذين يتبنّون السخرية العالية التي تسخر ممّا...

معازف: استعادة التاريخ أهمّ من التاريخ

تبدأ مقطوعة "مالكش ديّة" للموسيقي المصري موريس لوقا من دون مقدّمات تطفو على مستنقعات عاطفيّة، وتضجّ مباشرة بأصوات مضخّمة للمزمار والأورغ والطبول على أنواعها، لينقضّ على المقطوعة صوت "علاء فيفتي"،...