"الحرب الوسخة" في الجزائر أمام محكمة فرنسية

 يحاكم القضاء الفرنسي الأخوين الجزائريين حسين وعبد القادر محمد، المقيمين في فرنسا، بتهمة ممارسة جرائم التعذيب والإخفاء القسري ("ممارسة التعذيب والجرائم الهمجية") في الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي. في العام 2003، تقدم كل من "الفدرالية الدولية لمنظمات حقوق الإنسان" و "رابطة حقوق الإنسان" بشكوى ضد الأخوين محمد، بينما اتخذ سبعة من الضحايا الجزائريين
2015-07-16

سليمة ملّاح

رئيسة تحرير موقع Algeria Watch، من الجزائر


شارك
| fr
بطرس المعرّي - سوريا

 يحاكم القضاء الفرنسي الأخوين الجزائريين حسين وعبد القادر محمد، المقيمين في فرنسا، بتهمة ممارسة جرائم التعذيب والإخفاء القسري ("ممارسة التعذيب والجرائم الهمجية") في الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي.
في العام 2003، تقدم كل من "الفدرالية الدولية لمنظمات حقوق الإنسان" و "رابطة حقوق الإنسان" بشكوى ضد الأخوين محمد، بينما اتخذ سبعة من الضحايا الجزائريين صفة الادعاء الشخصي. وبعد 10 سنوات من الإجراءات القضائية، وتحديداً في 26 كانون الاول/ ديسمبر 2014، أصدرت قاضية التحقيق في المحكمة العليا في مدينة نيم الفرنسية لائحة الاتهام أمام محكمة الجنايات بحق الأخوين محمد. من جهتهما، تقدم المتهمان بطعن أمام محكمة الاستئناف في نيم من دون أن تصدر الأخيرة حكمها حتى الساعة.
تكتسي هذه القضية طابعاً سياسياً بارزاً بمقدار ما تثير حساسية السلطات الجزائرية، لأن الواضح في حال الدفع بها أن النظام الجزائري، الممسك بزمام السلطة منذ الانقلاب في كانون الثاني/ يناير العام 1992، سيجد نفسه على مقاعد الاتهام. وبالنسبة لفرنسا، المُحْرَجة من القضية، فلن تسمح بأقل من رؤية الميليشياويين السابقين يمثلان أمام المحكمة.

الميليشيات في "الحرب الوسخة" الجزائرية

كان الأخَوان حسين وعبد القادر محمد، الصادر بحقهما القرار الاتهامي في كانون الأول/ ديسمبر 2014، مسؤولَي ميليشيات في منطقة غليزان، غربي الجزائر. بعد الانقلاب، عندما حُلّت المجالس المحلية المنتخبة التي فاز بها مرشحو "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، وجرى استبدالها بـ "اللجان التنفيذية الشعبية" المعينة من الإدارة، تم استقطاب قادة الميليشيات من بين رؤساء هذه اللجان، بينما تولت الإدارة دفع رواتب العناصر. ويُشتبه بأن حسين محمد، المساعد الأول لرئيس اللجنة التنفيذية الشعبية في غليزان، وأخاه عبد القادر، رئيس اللجنة التنفيذية الشعبية في الحمادنة، قد ارتكبا عدداً من جرائم التعذيب والاغتيالات والإخفاء القسري.
أحد المدَّعين، وهو الملازم الأول السابق في الشرطة عدة درقاوي، كان قد اختُطف في 17 شباط/ فبراير العام 1995 من قبل حسين محمد ورجاله. وجرى نقله إلى مقر دائرة الاستعلام والأمن في غليزان (الاستخبارات) حيث تعرض للتعذيب على يد محمد نفسه، بحجة عدم التعاون، وبالتالي التعاطف مع العدو. ولم ينج من موت محتم إلا بعدما تدخل زملاء له عرفوا بأمر اختطافه من معتقلين محررين. أما أصحاب الادعاء الآخرون فهم من ذوي المخطوفين الذين كانوا شهوداً على عمليات الخطف من قبل الأخوين.
في الجزائر، أثار المدعون استياء السلطات الجزائرية التي مارست الضغط عليهم. وتعرّض درقاوي، المقيم في فرنسا، للتهديد بعدم الحصول على جواز سفره إن تمسك بالشكوى، وكذلك حال فتحي عزي، نجل أحد المختطفين، الذي هُدّد بالقتل وأجبر على السكوت بعد استدعائه إلى ولاية غليزان، حيث جرى إغراؤه بالمال والأراضي كي يسحب شكواه. وحصل الأمر نفسه مع محمد صعيدان، شقيق أحد المختطفين، الذي عُرض عليه الحصول على سكن مجاني، فعمد إلى سحب شكواه بعد تهديده بعدم السماح له بالعودة إلى الجزائر في حال توجه إلى فرنسا للإدلاء بشهادته. من جهته، ردّ القضاء الجزائري طلب التحقيق الموجه من قاضي التحقيق الفرنسي بالرفض بحجة احترام "السيادة الوطنية".

خرق جدار الصمت الفرنسي؟

كثيرة كانت شكاوى التعذيب التي قُدّمت في فرنسا ضدّ مسؤولين جزائريين من دون أن تجري متابعتها. ويبدو واضحاً أننا لا نتحدث عن ميليشياويين عاديين، وإنما عن كبار المسؤولين في الجزائر. في نيسان/ابريل 2001، حاول العديد من ضحايا التعذيب ملاحقة الجنرال خالد نزار، أحد مهندسي انقلاب كانون الثاني/ يناير 1992، والوزير السابق للدفاع، والعضو السابق في المجلس الأعلى للدولة. وبغية تجنيبه الملاحقة القضائية، عمدت السلطات الفرنسية إلى تهريبه من فرنسا. وفي أواخر شهر حزيران/يونيو 2002، تقدم من جديد عدد من الضحايا بشكوى ضدّه، أقفلت بعد أيام قليلة.
في كانون الأول/ديسمبر 2003، باءت محاولة إدانة الجنرال العربي بالخير (المتوفى بعد ذلك) بالفشل. فبالخير كان وزير الداخلية السابق في حكومة غزالي ومستشار الرئيس لاحقاً، وبمعنى آخر يمكن اعتباره الرجل القوي في النظام الجزائري إبان فترة الجرائم.
لاحقاً، وفي 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، جرى في سويسرا استجواب الجنرال نزار، "صانع الرؤساء"، الذي كان يتمتع بعلاقات مميزة مع المنظومة الحاكمة الفرنسية. ومنذ ذلك الحين، فإن إجراءات ملاحقة جرائم الحرب تجري على قدم وساق. وهكذا، مع بدء منظمة "تريال" (TRIAL) المعنية بـ "مكافحة الإفلات من العقاب" بإجراءات ملاحقة المتورطين، انضم عدد من ضحايا التعذيب إلى الحملة.
ولكن لمَ التوجه إلى القضاء الفرنسي والسويسري وليس إلى القضاء الجزائري؟
في الواقع، منذ انقلاب كانون الثاني/ يناير 1992، لمنع وصول "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" إلى السلطة بعد فوزها في الانتخابات العامة، وعلى الرغم من الجرائم التي اتضح أنها ارتُكبت من قبل أعوان السلطة وبلطجيتها، لم تتوصل أي شكوى تعذيب أو تنفيذ أحكام عرفية أو إخفاء قسري قُدمت من ضحايا وأصحاب حق، إلى محاكمة المسؤولين والمنفذين. مع ذلك، فإن الآلاف من الأشخاص لجأوا إلى القضاء في قضايا مماثلة.

قانون العفو الذاتي ومحو الذاكرة

من أجل إقفال الملف بشكل نهائي، أصدر المُشرّع الجزائري في شباط/ فبراير العام 2006 نصاً قانونياً يمنح الحصانة لأعوان النظام وعناصر المجموعات المسلحة الذين يبدون استعدادهم لتسليم السلاح والتعاون مع السلطات. في المقابل، ينظم القانون أحكام التعويضات لمختلف المتضررين والضحايا شرط أن يتنازل هؤلاء عن حقهم في كشف الحقيقة والعدالة. يشترط النص بأن "كل بلاغ أو شكوى يجب أن تُعلن غير مقبولة من السلطات القضائية المختصة". وفي مادة أخرى، يذهب النص نفسه بعيداً، فيُلوّح بالسجن من 3 إلى 5 سنوات لكل من يُشكّك بالرواية الرسمية للوقائع بغية "تلطيخ صورة الجزائر في المحافل الدولية". هنا يُتيح النص استهداف كل من يتساءل بشأن المسؤوليات المشتركة، وتحديداً تلك المتعلقة بالمجازر المرتكبة التي أرهبت البلاد خلال "العشرية السوداء". وفي الجزائر، بقي هذا الموضوع محظوراً (تابو).
وقد كُرّست المادة الأولى من هذا القانون بشكل منهجي عندما لجأ على سبيل المثال أهالي المفقودين إلى القضاء لمعرفة مصير ذويهم. وبينما توصل التحقيق القضائي في ما مضى إلى استنتاجات مغلوطة، إن لم نقل أنه تمّ إقفالها ببساطة، فمنذ العام 2006 لم يُعمد إلى فتح أي تحقيق. في المقابل، تستدعي السلطات أصحاب الحق وتلزمهم بإبراز شهادات وفاة لمفقوديهم لتعمد لاحقاً إلى تصنيفهم كإرهابيين أو ضحايا إرهاب. وكان الشرط لحصول عائلات الضحايا على تعويضات هو القبول بإجراءات مماثلة.

الرواية التاريخية الرسمية لسنوات الدم

لتبرير الانقلاب، عمدت السلطات الجزائرية إلى فبركة أسطورة عن بلد وقع بين سنوات 1992 و1998 فريسة "الإرهاب الإسلامي" الذي تضخّم حتى كاد يبتلع الدولة. وبحسب الأسطورة نفسها، وحده الرئيس بوتفليقة ومشاريعه، بدءاً من "الوئام المدني" (1999) ثم "المصالحة الوطنية" (2005) – التي قدمت بدورها كنماذج من أجل العدالة الانتقالية – سمحوا بتجاوز "الكارثة الوطنية". لكن أعمال العنف تواصلت بعد ذلك. في العام 2004، ارتُكبت مجازر عدة بحق المدنيين، وشهد العام 2007 عدداً من التفجيرات الدموية الضخمة التي استهدفت مقر رئيس الوزراء الجزائري وسط العاصمة، والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، والمحكمة الدستورية العليا. كما جرى استهداف الرئيس بوتفليقة نفسه الذي كان يزور مدينة عنابة، والذي نجا بينما قُتل أكثر من 20 شخصاً، إضافة إلى التفجيرات التي استهدفت الثكنات العسكرية وسقط خلالها العشرات من القتلى.
وتهدف الرواية الرسمية بشكل أساسي إلى طمس الدور الرئيسي الذي لعبته أجهزة الأمن خلال تلك السنوات، من خلال "آلة الموت" المؤلفة أساسا من "دائرة الاستعلام والأمن" (الاستخبارات) والوحدات الخاصة في الجيش التي تدير أجهزة الأمن (الجيش، الشرطة والدرك)، والتي تولت الإشراف على تشكيل الميليشيات. الجدير ذكره أن "المأساة الوطنية"- التي يجب أن تبقى حاضرة في الذهن – خلفت 200 ألف قتيل، وما بين 10 آلاف و20 ألف مخطوف، وعشرات الآلاف ممن اختبروا التعذيب، والعديد من الجرحى، وأكثر من مليون نازح داخلي. وخلال هذه "العشرية الدموية"، يمكن القول إن الملايين من الجزائريين كانوا ضحايا، بشكل مباشر أو غير مباشر، لعنف الدولة والمجموعات المسلحة على السواء.
ومعروف أن في "استراتيجيات مكافحة التمرد"، كتلك التي طورتها الجزائر بعد عامي 1993 – 1994، يكون أساسياً احتواء جزء من السكان المدنيين وإقصاء جزء آخر. وهكذا ساعدت معرفة الميليشيات الجزائرية، التي عُرفت باسم "الحرس البلدي" أو "مجموعات الدفاع الذاتي"، بالأرض والسكان المحليين على أن تلعب دوراً حاسماً في مساعدة الجيش. وفي كانون الثاني/يناير 1998، كان هناك حوالي 5000 ميليشيا ناشطة، تضم ما يقارب الـ 200 ألف عنصر.
والجزائر الرسمية عالقة في مأزق وجودي متعدد الأبعاد، يجري فيه إنتاج ردود الفعل نفسها التي تولِّف بين القمع والفساد. فقد بُنيت "المصالحة الوطنية" - المهزلة الاستثنائية - على الكذب والإنكار، وهي بالكاد تُخفي التوتر الذي يعم المجتمع وانعدام الثقة العميق بالسلطة الذي يهدد تماسك البلاد. ضحايا حرب التخريب في الجزائر محرومون من العدالة على أشكالها، والقتلة والمعذِّبون لا يحسبون لهم حساباً ويتحركون بحرية تامة. فهل تظهر هذه الحقيقة المرفوضة من خلال ملف الأخوين محمد.. بانتظار أن تعترف الجزائر الرسمية بها.

للكاتب نفسه

الإتحاد الأوروبي وإفريقيا: مساعدات إنمائية أقل وتعاون بوليسي أكثر

تلعب الجزائر دور الوكيل غير المعلن للسياسة الهجرية الأوروبية. وبقبولها نقل مسؤولية مراقبة الحدود الأوروبية إلى دول أخرى، وبلعب دور الشرطي، فهي تتبنى مقاربة قصيرة النظر، تتجاهل المبادلات الإنسانية والاقتصادية...