جدل تموز العراقي

في كل عام، ومع حلول ذكرى 14 تموز، اليوم الذي قاد فيه عبد الكريم قاسم تحركاً عسكرياً أفضى الى انتقال العراق من الملكية الى الجمهورية، يتم إحياء الجدل حول ذلك الحدث ومعانيه في تاريخ العراق الحديث. يحدث انقسام تلقائي بين فريقين. الفريق الأول يعتقد أن ذلك اليوم نقل العراق إلى السياسات السلطوية والراديكالية العقائدية والعسكرة، وأنهى الأمل بتطور تدريجي للنظام الملكي وللحياة الدستورية. أمّا الفريق
2015-07-29

حارث حسن

باحث من العراق


شارك
ضحى الخضيري-العراق

في كل عام، ومع حلول ذكرى 14 تموز، اليوم الذي قاد فيه عبد الكريم قاسم تحركاً عسكرياً أفضى الى انتقال العراق من الملكية الى الجمهورية، يتم إحياء الجدل حول ذلك الحدث ومعانيه في تاريخ العراق الحديث. يحدث انقسام تلقائي بين فريقين. الفريق الأول يعتقد أن ذلك اليوم نقل العراق إلى السياسات السلطوية والراديكالية العقائدية والعسكرة، وأنهى الأمل بتطور تدريجي للنظام الملكي وللحياة الدستورية. أمّا الفريق الثاني فيرى أن "ثورة" قاسم كانت خياراً شعبياً أنهى حقبة من الحكم "الرجعي" القائم على تحالف النخب المسنودة من بريطانيا، مع الإقطاع، وتهميش الغالبية الاجتماعية، وان الثورة أطلقت عملية إصلاح اجتماعي وتحديث، وكانت ستؤمن تقدماً كبيراً لو لم يتم الانقضاض عليها من تحالف القوى "الرجعية" والقوميين.
بأي حال، كمعظم النقاش المعاصر حول التاريخ، فان الجدل العراقي حول تموز هو جدل حول الحاضر أيضاً. وهكذا، فلا يمكن لتموز، كأي حدث كبير في العراق العربي، أن يهرب تماماً من الثنائية السنية-الشيعية، إذ يرى كثير من الشيعة أن العهد الملكي وضع لبنات الحكم الاقصائي "السني" وهيمنة الأقلية، وفق السردية التي قدّمها حسن العلوي عن ذلك العهد في كتابه الأشهر "الشيعة والدولة القومية"، ويعتبرون أن حكم قاسم كان المرحلة الوحيدة في تاريخ العراق التي لم تشهد إقصاء طائفياً. مع ذلك، فان الجدل الراهن يتخطى إلى حد كبير هذه الثنائية، فكثير من الشيعة ومن بينهم إطراف في النخبة التي صعدت بعد 2003، يجاهرون بالنقد للقاسمية وطريق الانقلابات الذي فتحته، ويجدون في عملية سحل نوري السعيد والوصي عبد الإله، وفي قتل أفراد العائلة المالكة، بداية لعقود من العنف السياسي الذي بلغ أقصى مدياته اليوم مع داعش والتنظيمات المسلحة الأخرى.
ربما لهذا السبب يستحق جدل تموز أن يقارَب بطريقة مختلفة عن تلك التي تفرضها لغة الهويات. فعلى صعيد النخب السياسية والفكرية والثقافية، هو يعكس اختلافاً قديماً بين الليبرالية واليسار وصراعاً بين المنطق الدستوري والمنطق الثوري. غير أن هذا الصراع يضمر بعداّ اجتماعيا أكثر عمقاً، نواته الانقسام "الريفي ــ المديني" القديم، والذي تحور في العراق بفعل التحلل التدريجي للبنى القبلية ــ الريفية وتراجع حصة الزراعة من الدخل القومي وصعود النفط، دون أن يفقد طابعه كصراع بين الفئات التقليدية الغالبة والفئات الجديدة الطامحة.

الليبراليون واليسار

يُظهر الليبراليون العراقيون حنيناً لما يعتقدون أنّه طابع مدني اتسمت به الحقبة الملكية، حيث كان البلد محكوماً من نخبة "عاقلة" يُستدعى نوري السعيد عادةً كنموذج لها، ومتحالفة مع الغرب، وتعتمد قدراً عاليا من البراغماتية السياسية، ولا تركن كثيراً للحلول العنفية. كان هناك انفتاح سياسي واقتصادي وثقافي، وتأكيد متصاعد على القيم الفردية وعملية تدريجية لبناء أمة حديثة. يرد اليساريون على ذلك بالحديث عن هيمنة الإقطاع والظلم الذي تعرض له الفلاحون، وإعدام قادة الحزب الشيوعي، والتواطؤ مع القوى الغربية ضد الحركات الوطنية الاستقلالية التي ظهرت في منتصف القرن العشرين، ليشيروا إلى عهد مظلمٍ مثلت "ثورة" 1958 الردّ الشعبي الحاسم عليه.
الميل الليبرالي لإظهار ما حصل بوصفه قطيعة، كحدثٍ بلا مقدمات، يستكمل سرديتهم المبتسرة التي تخفق في فهم التراكم السياسي والاجتماعي الذي أفضى لـ14 تموز التي يقول حنّا بطاطو أنّها ما كانت لتنجح لو لم تحظ بتأييد شعبي جارف. لم تكن الحقبة الملكية فترة استقرار وتطور وحياة دستورية ناضجة كما يُراد تصويرها، بل كانت في معظم وقتها فترة حافلة بالهزات والاضطرابات التي أثمرت انقلابين عامي 1936 و1941، وتزويرا للانتخابات وتناميا للنزعة السلطوية ومظاهرها، من قبيل تضخم عدد أفراد الأمن كما يذكر تشارلز تريب في تاريخه عن العراق، وصعود النزعة السلطوية لدى نوري السعيد واللجوء المتزايد للقمع ضد المعارضة اليسارية.
غير أن هنات السردية الليبرالية لا يجب أن تقودنا إلى المصادقة الكاملة على الطرح الثوري اليساري، خصوصاً في عدم إدراكه للكيفية التي قاد فيها 14 تموز 1958 إلى الانقلاب البعثي الأول في 1963، والثاني في 1968، وانتقال العراق إلى شكل من أشكال الحكم الفاشي المختبئ خلف خطاب ثوري. فنهاية الملكية كانت بشكل من الأشكال نهاية للفكرة الدستورية، حتى مع وجود مقدمات لتلك النهاية في سلوك النخبة الملكية نفسها. تمّ تسليم العراق لمزاجيات الممسك بقبضة السلطة وربط مصير أبنائه بخيارات الفرد الحاكم، وباتت المناعة الوحيدة ضد سوء استخدام تلك السلطة هي طبيعة هذا الفرد ومدى طيبته وحسن نيته. لم تكن تلك مناعة كافية في ظرف متقلب وبيئة سياسية تآمرية وصراع دولي شديد الوطأة.
بهذا المعنى، فانه بقدر ما أفضت مساوئ العهد الملكي إلى تذمر شعبي دعم حركة قاسم، فان تلك الحركة شرعنت لاتجاه جديد في إدارة السياسة وصل ذروته بصعود صدام حسين إلى السلطة.

الصيرورة غير المكتملة

لكن الأهم من الخلاف الفكري، هو فهم المحركات الاجتماعية التي أدّت لذلك الحدث لأنها ستقودنا إلى عراق اليوم. بهذا الصدد، يمكن القول أن ظروف عدم الاستقرار والعنف السياسي الذي طبع مراحل من تاريخ العراق الحديث، على نحو يفوق ما شهدته معظم بلدان المنطقة، يتعلق بتحولات مجتمعية تجاوزت قدرة النظم على استيعابها وقادت إمّا إلى إفراط تلك النظم في العنف الذي يقوض شرعيتها بالنتيجة، أو إلى انهيارها ونشوء نظم جديدة.
من البديهي القول أن الاستقرار السياسي يرتبط بالاستقرار الاجتماعي. وهذا الأخير ينشأ إما في المجتمعات "التقليدية" ذات الهرمية الصارمة حيث يجري تقسيم العمل وتوزيع الأدوار الاجتماعية على أسس سابقة لوجود الفرد، وهي مجتمعات لا تعرف مفهوم الفرد بمعناه الحديث، أو أن الاستقرار ينشأ في مجتمعات تخطت البنى التقليدية وظهر فيها عقد اجتماعي يقوم على تسوية بين الطبقات توفِّر الحد الأدنى من الحياة الكريمة لجميع الأفراد، بما يضعف من الميول الراديكالية التي تميل لتدمير النظام القائم، وهي الحالة التي عرفتها معظم الدول الغربية منذ الحرب العالمية الثانية.
أمّا في العراق، وفي غيره من البلدان العربية، فإن عدم الاستقرار الاجتماعي له علاقة مباشرة بتفكك البنى الهرمية التقليدية التي كانت سائدة قبل المرحلة الاستعمارية والاندماج بالسوق الرأسمالية العالمية ونشوء الدولة الحديثة، وهي عملية أطلقت تحولات اجتماعية واقتصادية كبرى، وكان من نتائجها ظهور فكرة الفرد الطامح بمنزلة اجتماعية أكبر، وتشكل قطاعات اجتماعية هلامية لم تعد خاضعة لسيطرة البنى الهرمية التقليدية، كالعشيرة، لكنها لم تنتقل بعد إلى صورة المجتمع الطبقي الحديث. كان يفترض وفق المنظور الكلاسيكي للتحديث أن هذه العملية هي صيرورة وانتقال طبيعي نحو نمط حديث من الاجتماع تهيمن عليه فكرة الفرد وتنتظم مصالح أفراده في إطار طبقي، ويعبر عنها من خلال الأحزاب والجمعيات والنقابات. لكن تلك "الصيرورة" كانت من الضخامة و "الجذرية" بحيث أنها تجاوزت قدرة "النظام" على استيعابها، وأخذت تتمظهر على شكل وثبات وانتفاضات لم تمهد فقط لسقوط النظام الملكي، بل وأيضاً لإدامة "الراديكالية" كسلوك سياسي في العراق.

المجتمع غير المستقر

لا يمكن أن تحقق استقرارا سياسياً وتراكماً دستورياً في مجتمع غير مستقر، هذا ما ندركه حين نقرأ كتاب حنّا بطاطو الشهير عن الطبقات الاجتماعية القديمة في العراق، والتعليقات عليه في كتاب "ثورة 1958: مراجعة فرضيات بطاطو"، وكُتب علي الوردي التي ركزت على ظاهرة "التناشز الاجتماعي" في العراق بسبب الأنساق القيمية المتعارضة، وكلها تضيء من زوايا متعددة على التفكك التدريجي ــ لكن السريع نسبياً ــ للمجتمع الزراعي في العراق، وبالتالي لأنماط الحياة المرتبطة به. هذا التفكك كان يعني اندفاعات بشرية كبرى نحو المدن الرئيسية، وخصوصاً بغداد، وهو رافق ظهور فئات جديدة من المتعلمين تعليماً حديثاً وخريجي الجامعات والكليات العسكرية الذين كانوا يطمحون لتحسين أوضاعهم الاجتماعية ولعب ادوار كبرى، وبالتالي حصل ضغط على النخب التقليدية من قطاعات اجتماعية جديدة. وليس غريباً أن أقوى الأحزاب التي ظهرت نهاية العهد الملكي كانت ذات طابع راديكالي وتؤمن بالتغيير الجذري، في مؤشر على أن النظام لم يعد قادراً على استيعاب التحول الاجتماعي الحاصل.
منذ ذلك الوقت، جاءت فترة الاستقرار السياسي الطويلة الوحيدة التي عرفها العراق خلال الحقبة البعثية، وتحديداً مع صعود صدام حسين الى السلطة، وهو استقرار كان ثمنه عنفا مفرطا من السلطة يقترب من صيغ العنف التوتاليتارية، ولكنه أيضاً جاء بسبب تحول العراق حينها وبشكل كامل إلى نموذج تقليدي للدولة الريعية القادرة على شراء الرضوخ بالمكافآت المالية، فضلاً عن نجاح النظام في استخدام ظروف الحرب مع إيران لتعزيز سيطرته الاجتماعية (وان كانت الحرب هي في أحد جوانبها تصديرا لأزمة اجتماعية داخلية).
لكن انهيار النظام السابق وهشاشة النظام الحالي، خلقا ظروفاً مواتية لظهور صراعات جديدة مصدرها أيضاً هذا الحراك الاجتماعي وفشل النظام السياسي في استيعابه. إن صعود الراديكالية السياسية بثوبها الاسلاموي يمثل امتداداً لصعودها منذ أربعينيات القرن الماضي بأثواب أخرى. فالراديكالية هنا تصطبغ بالصيغ الإيديولوجية السائدة في عصرها، لكنها في جوهرها تعبِّر عن حالة مجتمع لم تعد تحكمه هرمية ثابتة ولم ينتج عقداً اجتماعياً قوياً. انه مجتمع السيولة المفرطة والقلق وعدم الاستقرار، "الصيرورة" التي طالت حتى أصبحت هي القاعدة في مواجهة استثناء هو "الاستقرار".
.. والحنين للملكية في العراق ربما يكون حنيناً لاستقرار متخيل.

 

للكاتب نفسه

عن فهم "داعش" والراديكالية

حارث حسن 2016-06-23

بعد كل هجوم مفاجئ ينفذه تنظيم "داعش" (الذي يطلق على نفسه اسم "الدولة الإسلامية")، يسري في الجسدين الإعلامي والأكاديمي نزوع طاغٍ نحو محاولة فهم هذا التنظيم "الغرائبي"، القادم بيوتوبيا الخلافة...

سقوط ''الخضراء'' في بغداد

حارث حسن 2016-05-12

بغض النّظر عن دلالاته السياسية، فإنّ مشهد اقتحام "المنطقة الخضراء" في 30 نيسان /أبريل كان ثقيلاً برمزيته. هنا، رقعة في وسط بغداد يقدِّر البعض مساحتها بـ10 كلم مربع (من 4555...