التأريخ الاجتماعي: أحد متطلبات الساعة

تُرى ما الذي تُعلِّمنا إيّاه آخر الأحداث في المنطقة حول كتابة التاريخ؟ ليس هذا السؤال بالضرورة أكثر الأسئلة إلحاحا، إلا أنّ طرحَه يبدو واجبا لبناء أسلحة معرفية لا تخدم سياسات يكبّلها المنطق الإمبراطوري والاقتصادي، أسلحة بمستطاعها أن ترافق حركات الانعتاق. من المهمّ إذن التنويه بضرورة تحوّل التاريخ الاجتماعي للشرق الأوسط المعاصر مجدّدا إلى محلّ تحرٍّ مشترك، بغرض الإفلات من
2014-09-10

ليلى دخلي

باحثة مختصة في التأريخ الاجتماعي، من تونس تعمل في "المركز الوطني للبحوث العلمية"، فرنسا، CNRS


شارك
"شقائق حمص" - حكمت داوود/سوريا (من صفحة "فنون الثورة السورية")

تُرى ما الذي تُعلِّمنا إيّاه آخر الأحداث في المنطقة حول كتابة التاريخ؟ ليس هذا السؤال بالضرورة أكثر الأسئلة إلحاحا، إلا أنّ طرحَه يبدو واجبا لبناء أسلحة معرفية لا تخدم سياسات يكبّلها المنطق الإمبراطوري والاقتصادي، أسلحة بمستطاعها أن ترافق حركات الانعتاق. من المهمّ إذن التنويه بضرورة تحوّل التاريخ الاجتماعي للشرق الأوسط المعاصر مجدّدا إلى محلّ تحرٍّ مشترك، بغرض الإفلات من التصورات الجيوسياسية من جهة، ومن النظرات الاستشراقية إلى المجتمعات المنقسمة طائفيا، من جهة أخرى. إن إعادةَ الاعتبار إلى التاريخ الاجتماعي يعني مدّ البصر إلى ما وراء اختلاف الطوائف والأجناس بهدف فهم تباين المداخيل وأنماط المعيشة في المنطقة والتعريف به.

إهمال المراكز الريفية وتهميشها

تنكبّ المؤسّسات الدولية بشكل منتظم على المسائل المتعلقة بالمساواة وحقوق الأقليات (وهي طبعا مسائل مهمة) بغرض توزيعِ شهادات الاعتراف أو حسن السلوك. لكن لا أثر إلا في ما ندر لأعمال كفيلة بتقديم ولو النذر اليسير من المعلومات عن مستويات الثروة والمديونية وانتشار الفساد في قلب الدولة ولدى المواطنين، وكذا بمساعدتنا على تحديد نطاق كل فئة من الفئات الاجتماعية ووصف التفاعلات التي تحصل بينها. وقد مكّنتنا السنوات الأخيرة من اكتشاف أنّنا لم نتبيّن تبيُّنا كافيا إحدى مميّزات العالم العربي اليوم، أي إهمال المراكز الريفية وتهميشها. إن التجمعات البشرية التي كانت الانتفاضات الشعبية مسرحا لها، من تونس إلى سوريا، هي ميادين إفقارٍ معاصِر بالغ الخصوصية، تختلف تماماً عن بؤر الفقر المدقع في العواصم وتتباين كل التباين مع وضع الشتات الذي ينمو فيه المدّ الجهادي ما بعد القومي. فالأمر في سيدي بوزيد والقصرين ودرعا.. يتعلق بجهات كانت تحميها وتدلِّلها الأنظمةُ العربية القومية قبل أن تفتتن بلعبة التأقلم مع معايير السوق وما يلازمها دوما من فساد. وإذا كانت هذه الانتفاضاتُ احتجاجات سياسية بحقٍّ، لا اضطراباتِ جوع (نذكر الشعار الذي رُفع في درعا، في آذار/مارس 2011: «الشعب السوري مو جوعان»)، فهي تجد جذورها في التهميش والاحتقار اللاحقين بالطبقة الوسطى الريفية التي لا تزال تشكّل ركيزة مهمة من ركائز مجتمعات جنوب المتوسط. لقد شهدت المناطق التي دارت فيها رحى الانتفاضات إعادة نظر في «امتيازاتها» بسبب تعميم التنافس بعد أن حمتها خلال مدة طويلة المخططات التنموية وسياسات التوازن الجهوي.

انقضاء العقد الاجتماعي السابق

إن ما جرى منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي - من دون أن يُعلن بشكل صريح - هو انقضاء العقد الاجتماعي الذي كان يربط الشعوب - خاصة طبقاتها الوسطى الريفية - بحكامها التسلطيين، وانتهاء ما كان يَعِدُ به من ارتقاءٍ اجتماعي ممكن. ما حدث هو، من جانب، توجّه هؤلاء الحكام شطر اقتصاد نهب يزداد جوره وفساده يوما بعد يوم، ومن جانب آخر تضاؤل إمكانات خروج الفئات المعدمة من دائرة مصاعبها بسبب انهيار قيمة الشهادات العلمية وتفشّي المحسوبية والضرر اللاحق بالقطاع الفِلاحي نتيجة المنافسة التي يتعرض لها.
ولكونه يلفت أنظارَنا إلى اتجاهات أخرى مختلفة عن تلك التي تركّز عليها الأضواءُ الإعلامية والسياسية، فمن المفروض أن يجعلَنا تاريخٌ اجتماعي للشرق الأوسط نعير المزيد من الاهتمام إلى موازين القوى التي لا تقتصر على وضع السلطة والحكومة وجها لوجه، وذلك بما يتيح تفسيرَ القوى العشوائية التي يمكن أن يمتد أثرُها إلى مجتمعات تجهل نفسَها، واعتادت إخفاءَ المسائل الاجتماعية تحت أقنعة هوياتية. وتعني معرفةُ المجتمعات هذه على حدٍّ سواء العوالم الريفية والعوالم الحضرية، الشغيلةَ والموظفينَ، كما يجب أن تفرضَ فهما جديدا لمصادر الثروة، بينما يصعب جمع المعطيات المتعلّقة بالمداخيل وتوزيعها. فظاهرتا هجرة الرساميل والاقتصاد غير الرسمي تعقِّدان مهمّةَ قياس ثروة تتزايد مرئيتُها يوما بعد يوم في العواصم، ومن خلال وجود نخب عربية معولمة في دول الخليج وأوروبا وأميركا.
كذلك، من اللازم أن يُوثّق بشكل أدقَّ الإدراكُ الحدسي لانقطاع الصلة المتفاقمِ بين النخب الاقتصادية المعولمة وسبلِ الارتقاء الاجتماعي الذي يزداد كل يوم إشكالا واستعصاءً. إن العالم العربي يعيش في قلب «الرأسمال في القرن الواحد والعشرين» كما وصفه توماس بيكيتي في مؤلَّف بهذا العنوان، بل يحتمل أنه أحد محركاته. فهو يغترف جزءا كبيرا من ثرواته من ريع تستأثر به طبقة يزداد حجمها انكماشاً باضطراد كما انفصالها عن جذورها الوطنية، وكما تتراجع قدرتها على الامساك بمقاليد السلطة.. لكنها لا تزال تحاربُ من أجل الاحتفاظ بمزاياها. يطالبنا الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشال فوكو بـ«الدفاع عن المجتمع»، وهو ما يفرضُ علينا اليوم السعيَ إلى عدم اختزاله، وعدم استعجال تحوُّلاته، واستقصاءَ تاريخه، وإدراكَ المنطق الذي يحكمه على المدى البعيد، أو على الأقل على امتداد قرن طويل هو القرن العشرين.

الشباب مصدر الرعب

ما الذي يتخفى وراء العلاقات الزبائنية التي أقامها حزب البعث في منطقة حمص، وكيف تتحوّل أو تتكلّس التراتبيات الاجتماعية في حلب؟ هل تسمح لنا المقاربة الجيلية المركِّزة على الشباب بفهم التحولات الاجتماعية في المنطقة التي جعلتهم أكبر ضحاياها، بينما تشير القوى الحاكمة اليهم كخطر اجتماعي، (ما يتجلى من خلال التجنيد وسياسة الاعتقالات الجماعية الاعتباطية ولكن الممنهجة). يبدو لي أن الأطروحة الجيلية يجب أن تُستجلى في بعدها الاجتماعي، بعيداً عن التصور الشائع عن تجدّد الأجيال السياسية الأشبهُ بميلاد الربيع. ويمكن اعتبار الشبان (وحتى الشبان اليافعين إذا ما نظرنا إلى أعمار المتظاهرين كما أمكنت ملاحظتُها في شوارع سيدي بوزيد والقاهرة ودرعا وصنعاء...) ككاشف عن مآزق المجتمع. إنّهم أكبر مصدر رعب للحكام وكلّ من يُوجس خيفةً على ممتلكاته (وهو رعب عالمي من «المشاغبين» ومن «كواسر» حضرية مزعومة أخرى). لكن الشبانَ، في الآن نفسه، في مجالٍ «بين البينين» يتيح لهم عدم التموقع على أرضية نضالات منصوبة المعالم اجتماعيا، تشبه نضالات العمال والموظفين والبطَّالين.
ولا يمكن للباحثين في التاريخ والعلوم الاجتماعية أن ينظروا بعين اللامبالاة إلى الطاقة التي تبذلها الشبيية الأكثر عرضةً للاهمال والتهميش في سعيها للنزوح إلى الخارج (ظاهرة «الحراقة») كما في الانخراط في حركات راديكالية أو السعي إلى قلب نظام الحكم. وإذا كان ضروريا أن نعترف بما في انبجاسات 2010-2011 من عفوية، فإنه يستحيل علينا عدم ربطها بأخرى انصرمت في المنطقة على إيقاعها العقود الثلاثة الأخيرة (ما سمي بـ «اضطرابات الخبز» وغيره من الانتفاضات). يجري تخصيص الشباب، بدرجة من التعمُّد أو بأخرى، للتعبير عن الغضب والحرمان المتراكمين في مجتمعات عنيفة شديدة التراتبية. وإذا كانت السياسات التي نتجت عن استقلال بلدان المنطقة قد نجحت، إبان فترة معينة، في إقامة توافق اجتماعي، فإنها لم تستجب لمطلب العدالة والمساواة، بل وأدهى من ذلك، لم تنِ تنفي أهميّتَه، مكتفيةً ببناء وحدة وهمية على أساس من الشعارات. هذه الشعارات المُفرَغة من لبّها هي التي نجح الشباب في فك شيفرتها وتحويل وُجهتها ضد صانعيها، كاشفين بذلك لاجدواها والتهميشَ والاحتقارَ اللّذيْن شِيدت عليهما.

ترجمه عن الفرنسية ياسين تملالي

مقالات من العالم العربي

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...

للكاتب نفسه

تونس: هل علينا أن "نتصالح" أيّا كان الثمن؟

ليلى دخلي 2015-10-29

تعيش تونِس ما بعد الثورة مرحلة سياسية متابعتُها من الأهمية بمكان، مرحلة تدور فيها رحى صراعٍ مستترٍ على تحديد آليات المصالحة والمعنى الحقّ للثورة الجارية. مشروع قانون "المصالحة الاقتصادية" الذي...

المرأة المفردة

ليلى دخلي 2015-03-05

بعد الإعلان عن حكومة الحبيب الصيد في الثاني من شباط الماضي، المنفتحة على إسلاميي "حركة النهضة"، وجهت سناء فتح الله غنيمة، وهي عضو في حزب "نداء تونس" وسيدة أعمال ورئيسة...