التكتلات المعدمة في مصر كبيئات لا تنفجر

عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه! (علي بن أبي طالب) في إحصاءات متأخرة صادرة عن جهة حقوقية دولية، قدّر عدد أطفال الشوارع في مصر برقم مخيف، هو 600 ألف طفل، يتضخمون بشكل عشوائي ضمن إطار صار يتطور ذاتيا في أشكال عائلية تنحو منحى التكتل وتتجه لتغدو كسائر العشوائيات المعدمة التي هي، بطبيعة الحال تكتلات أقدمُ، ترفد هكذا ظواهر ولا تنفصل بالمبدأ
2015-08-06

حسن نصّور

كاتب من لبنان


شارك

عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه! (علي بن أبي طالب)

في إحصاءات متأخرة صادرة عن جهة حقوقية دولية، قدّر عدد أطفال الشوارع في مصر برقم مخيف، هو 600 ألف طفل، يتضخمون بشكل عشوائي ضمن إطار صار يتطور ذاتيا في أشكال عائلية تنحو منحى التكتل وتتجه لتغدو كسائر العشوائيات المعدمة التي هي، بطبيعة الحال تكتلات أقدمُ، ترفد هكذا ظواهر ولا تنفصل بالمبدأ عن مآلاتها.
ويُقصد بمصر، في الحيّز الأكبر، القاهرة وأحوازها العشوائية الفقيرة، متضمّنة ملايين السكان في المقابر وحتى بدايات الصحراء المحيطة، حيث الكتلة البشرية الضخمة ما انفكت تزحف، منذ عقود، في خيط مجرى النيل صوب الدلتا.

التأطير

أول ما يتبادر إلى الذهن، بدهيا، خلال عملية تقليب الأرقام والإحصاءات بمختلف أنواعها، وقياسها على إحصاءات سبقت، ليس بالطبع التفكير الآنيّ بكيفية تطور هذه الظاهرة، ولاسيما ارتباطها بمجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية على مدار عقود، بل هو قدرة هذه الكتل (ببيئاتها المتضخمة) التي تعيش تحت مستوى الحد الأدنى، على البقاء دون الانفجار عشوائيا في وجه المجتمع "الدلتويّ" الأعم أولا، والمصريّ عموما. إذ إن البديهيات البشريّة بحساب بسيط تدفع من لا يملك شيئا إلى إشهار سيف كحق أوّلي إنساني بوجوده.
هذه الكتل البشرية كتكتّلات عشوائية معدمة لطالما ظلت مؤطّرة وقابلة للاحتواء بحدود قصوى. بمعنى أنّ عوامل معينة هي أشبه بمسكنات تخاطب لاوعي هذه التجمعات وتلزمها بحد، كأنه مرسوم ومقدور، من التفاعل في سبيل البقاء على قيد الحياة، كالتسول ومختلف أشكال السعي إلى تحصيل المورد، وبشتى الطّرق التي هي في عرف القانون طرق غير مشروعة.

في العمق

إن كتلة بشرية كأطفال الشوارع في منحاها التصاعدي المتكتل الذي تومئ إليه الشواهد والإحصاءات، تتسم بسمتين جوهريتين في فهم حالة الكمون النسبيّ التي تحول دون انفجارها العشوائي الكامل (نعني انفجارها الأفقي من خارج اعتبارات الثورات التي تسيرها نخب شبابية مدنية وتجمعات سياسية عريقة واعية وعقلانية).
أولى هذه السّمات، أنها تشكيلات تتفاعل، بدائيا بطبيعة الحال، من خارج الوعي المطلبي السياسيّ. وهي في المجمل كتل، ولو تجاوزت الملايين، (عوائل الأطفال وتجمعاتهم التي صارت تتخذ صفات التكتل) تتحرك في دائرة اللاوعي المجتمعي أو الحقوقي. وهذا مفهوم، إذ إنّها تجمعات مهجوسة بتحصيل الرمق المطلوب كحد أدنى قبل التفكير بأي "ذاتيات" كشرط لتحقق ذلك الوعي. وبالتالي فإنها تكون حتى بعيدة عن انشغالات المجتمع "المدني" النخبويّ والمؤسسيّ الذي لا يجد نفسه، ملزما في الغالب بالتغلغل في مسامات تلك الفراغات، في ظل سلطة باطشة مركزية وذرائعية لا يهمها إلا استتباب البنية الفوقية الأمنية للاجتماع دون الاهتمام بمنابت المعضلة أو السّعي التدريجي لاحتوائها في خطط ضخمة (خمسية او سبعية مثلا)، ذات طابع توعوي وتنمويّ.
ثانية هذه السّمات، وهي الأخطر ولازمٌة مع السمة الأولى لتحقق شرط التأطير، هي قدرة هذه التكتلات على إعادة العيش في صيغ الحد الأدنى من القناعة الدينية الشعبوية التي تتلاقح من المحيط الدعائي الممكن تارة، ومن أدنى مقومات العادات الموروثة والتقاليد الشفوية طورا. صارت هذه التشكيلات تفرز أنماطا خاصة من العيش والكلام وتصنع تاليا صيغها المعدَّلة من الأعراف التي ينحل فيها حتى النظام العائلي التقليديّ البائس إلى شبه نظام قبليّ برؤوس عصبوية محليّة تؤدي دور المسكّن المباشر لأيّ منحى عشوائي انفجاريّ قد يكون مدمرا في بعض الأحوال. رؤوس تمارس أدوارا نفعية بصلاتها مع جهاز السلطة المركزية. إنه نظام تنحل فيه العائلة الأبويّة التقليدية، باعتبارها بنية وسيطة بين الفرد والمجتمع، وصورة مصغرة عن المجتمع البطريركيّ، تنحلّ إلى صيغ تجزيئية، لكنها تبقى في الظاهر تنهل بشتى الطرق من نظام الطغيان المرتب الأصيل.
الأعقد في مسألة هذه الظواهر (وعطفا على الإحصاء المذكور أعلاه)، أن هذه التجمعات المليونية، التي هي في طور التكتل هامشيا، هي في أغلبها بلا صفة قانونية في السجلات الرسمية للدولة. أفراد وعوائل يتناسلون ولا يتم تعريفهم في سجلات القيد. يصيرون ضحايا بلا هوية، أشباحا في عرف القانون، ويتم التعامل معهم في المقابل دولتيا، بسذاجة من يغفل عينه عن معضلة ليست أقل خطرا على مفاهيم الأمن القومي والاجتماعيّ المصري من أيّ تدخلات خارجيّة أو تقلبات سياسية انقلابية مفترضة. والأمن الاجتماعي نفسه الذي يشهد، بالتزامن مع كل المحاولات السلطوية والإعلامية والدينية الساذجة، شبه اهتراء، إذ مثالا لا حصرا، في مدينة عريقة كالقاهرة، يكاد السفور يتلاشى من الشوارع قياسا بعقود خلت، هناك نسب مخيفة من التحرش الجنسي المتزامنة مع انفلاش التدين الكلامي والشكلاني، قياسا بدول عربية أخرى.
دراسات أكاديمية دقيقة أشارت إلى تضخم هذه الظواهر ربطا بسياسات اقتصادية نقلت الاقتصاد المصري من طور التصنيع وتحصين الطبقة الوسطى إلى طور شبه ريعيّ مرتهن للكتل المركزية الاقتصادية العالمية، بعد الحقبة الناصرية تحديدا. سياساتٌ كان من أبرز إفرازاتها الفشل وارتكاس البنية الاجتماعية ونشوء ظواهر شاذة مستتبَعة..

 

للكاتب نفسه