"الحجاب" والشرط السوسيولوجيّ

لا نعلم على وجه الدقّة إنْ كان الأزهرُ قد منح، فعلا، أستاذ الشريعة الاسلامية مصطفى محمد راشد درجة الدكتوراه عن أطروحته حول "الحجاب، غطاء رأس المرأة المسلمة". وهي الاطروحة التي خلصت في جملة ما تقدمه خلاصتها إلى أن "الحجاب" ليس فرضا عباديا بل عادة اجتماعية. على أنّ الملفت في الأمر على جاري عادة الاعلام العربيّ، ومنذ شياع خبر الاطروحة قبل عامين تقريبا إلى اليوم، هو
2015-04-30

حسن نصّور

كاتب من لبنان


شارك

لا نعلم على وجه الدقّة إنْ كان الأزهرُ قد منح، فعلا، أستاذ الشريعة الاسلامية مصطفى محمد راشد درجة الدكتوراه عن أطروحته حول "الحجاب، غطاء رأس المرأة المسلمة". وهي الاطروحة التي خلصت في جملة ما تقدمه خلاصتها إلى أن "الحجاب" ليس فرضا عباديا بل عادة اجتماعية.
على أنّ الملفت في الأمر على جاري عادة الاعلام العربيّ، ومنذ شياع خبر الاطروحة قبل عامين تقريبا إلى اليوم، هو طبيعة انقسام الاراء ميكانيكيّا ودون تبصّر الى فسطاطين. فسطاط لا يرى في آراء من هذا القبيل أو مطلق رأي مخالف غير اعتداء مبيّت على أحد فروض الإسلام، مقصيا كلّ إمكانات النقاش لصالح التشنيع على الباحث، وفسطاط في المقابل يسارع، في غمرة الحماسة التي يغري بها الاختلاف البحثي، إلى الخروج عن دائرة الوعي الاجتماعي بالموضوع نحو نمط من تعميم وتنميط قاس للمرأة المحجبة، وقد يصل الأمر بهذا الفسطاط إلى حد الهجاء المبطن.

المفهوم

..والحال أنّ النقاش في "الحجاب"، إذ يثار كل حين في وسائل الإعلام من بوابة الفتي أو من جانب رأي فقهي يخالف الإجماع، فإنّه نقاش لا يمكن حصره ضمن الدائرة التي انبثق منها بل إنه سوف يتعدى ذلك، بطبيعة الحال، للنظر في أحوال المرأة العربية ماضيا وحاضرا. في العموم، يستلب المنحى الدينيّ الصرفُ أي جدلٍ أو كلام حول "الحجاب" في العالم العربي. في هذا الحيّز، يجدّ باحثون أكاديميون ودينيون متنوّرون في جذب النقاش إلى ميدان السوسيولوجيا بوسائل لا تقتصر على قوانين الاجتماع الحديث وتقلّبات المجتمع الاقتصادية والثقافية، بل يحاولون إضافة إلى ذلك تكوين آراء تأويليّة، إذ صح التعيير، تفيد من الوقائع المحدّدة في التراث المدرسي الإسلامي ذاته، وترفد ميدان الدراسة الاجتماعيّة. وهي آراء ترى إلى"الحجاب" من خارج سطوح الفقهاء النمطية المكرورة، وتتّكئ، شأن أي دراسة جادة على تتبع صلات هذا المفهوم، بجذره المعجميّ التفصيلي داخل المادة الاجتماعية الموضوعية والمادة النصّية.

في الجذر

نقتبس من أدونيس قوله "إن النص العظيم إذ مرّ في عقل صغير صار صغيرا" لنقول إنّ العقل الجامد قاصر عن إنتاج مطلق الدلالات الحافة بتراكيب أي نصّ مؤثر حيّ. فكيف إذا كان موضوع الجدل هو حول تبلور شكليات وسلوكيات في الاجتماع استنادا إلى نصوص مسيطِرة. والحال أن مفهوم "الحجاب" لا يستقيم بغير إعادة الاعتبار دلاليّا للدائرة/ الحدث التي ضمّنت فيها ما يطلق عليها تراثيّا "آياتُ الحجاب، (الأحزاب 53، 59/ النور 31). ونعني بإعادة الاعتبار الاحاطة بالظرف أو الحدث الاجتماعيّ بالغ الأهمية إذ تقاطع معه "الوحي". فمصطلح "الحجاب" الوارد في الآية 53 قد يحمّل من الدلالات الاخلاقوية المتعالية والتوظيف ما أغفل راهنيته، وأنّ الآية بحسب أغلب المدونات قد نزلت في ظرف مخصوص بنساء الرسول في سبيل تنظيم الصلة بالصحابة بقصد خلق عازل/ ستار في هذا الموضع بالذات بين السائل والمسئول، وما ينطبق على نساء الرسول لا يدل بالمطلق والضرورة على شمول الحكم عموم النسوة. على أن الذي يهمّنا في هذا المجال الاشارة إلى أن الآية 59 من الأحزاب، "آية الجلابيب"، بالغة الدلالة سوسيولوجياً، فهي تشير إلى عوامل سوسيولوجية لجهة وعي النصّ/ وقائله بقسمة المجتمع العربيّ إلى نساء حرائر وإماء، وأنّه يلحظ التمييز بينهن في الزيّ (والحجاب زيّ أيضا يعكس ثقافة مجتمعيّة في جانب منه)، تلبية لمبان أخلاقيةّ قيد التبلور في تنظيم وليد من خلال إدناء الجلابيب على النحور "لئلا يؤذين". أضف إلى ذلك أن المعروف عن عمر ابن الخطاب أنه نهى في حادثة مشهورة إحدى الاماء عن تغطية شعرها في المدينة ناهرا إياها: "أتتشبهين بالحرائر؟"، وهي قصة صارت مكرورة في دراسات كثيرة.
سيرورة اجتماعية
إذن، بكلام قليل، نحن أمام سيروة اجتماعية يلحظها نصّ حضاريّ مؤسّس. وهي سيرورة ترتبط، إلى المضمون، بالشكل الذي ترتسم في طيّاته مساحة من مساحات المرأة في بدايات تشكّل المدينة العربية. يشير ذلك، وإن لم يكن من ضمن المنطوق، إلى قدر هائل مسكوت عنه لجهة أن مفهوم الحجاب هو في أقل تقدير من المفاهيم الجمعيّة المتحولة تبعا للتحولات الاجتماعية وأشكال العلاقات المعرفية والإنسانية التي تصيب الاجتماع. يفترق ذلك عن الثابت العباديّ كالصلاة الفرديّة مثلا التي لا تلحظ، نصا أو تأويلا، أي إمكانيات موضوعية للتحول في السيرورة الاجتماعية، إذ إنها، في أساس الطرح، فعل ذاتيّ وجدانيّ وخلاصيّ.
بنظرة أشمل على المدونات التي تخص فقه النساء، يبدو واضحا الاتجاه لحصر الدلالات التأويلية للنصوص بالتوازي مع استقرار الحواضر العربية الرئيسية ضمن أنساق الدولة الثيوقراطية التي رَسختْ، سوسيولوجياً، وباطّراد، بناها الشرعية والقضائية من خلال دمج الدلالات النصيّة في سياقات تخدم العقلية القبْلية، القبَليّة / الذكورية. يفسر ذلك العجز المستدَام في تاريخ المجتمع العربي عن الانعتاق ذهنيّا، وفي العمق، من أي ثنائية حادة (إماء/ حرائر، مسلم /كافر.. وهلم جرا) صوب فضاء الدلالات المتعددة التي تشبكُ الحاضر النصيّ والأخلاقيات بأفق الاجتماع والاقتصاد.

خلاصة

إننا، في الخلاصة، إذ نلحظ، بحسب دراسات عينية كثيرة، تصاعدا موضوعيّا في نسبِ المحجبات في المدن العربية الرئيسية، قياسا بعقود إلى الوراء، لا نسعى إلى أي نوع من المحاكمة من قبيل أنّ الحجاب فرض عينيّ على الفتاة المسلمة التي أتمت تسع سنين قمرية، فهذا ليس مجال كلامنا ولا منهجه، بل نقول إن هذا رأيٌ متعالٍ غير حاسم قابل للنقد شأن الآراء التي تعيد نبش النصوص المؤسِّسة فتضيئها وتشرعها على فضاءات تأويلية أرحب وأوسع من خارج النفق الفقهي التقليدي.

 


وسوم: العدد 142

للكاتب نفسه