المدينة التي تخفي الاحتلال وراء إصبعها

خبر مر بهدوء في الصحافة الإسرائيلية أواخر عام 2008، رغم أنه كان أقرب للخيال العلمي قبل ذلك بسنوات قليلة: ضمن مخططات مقترحة لمشروع إسرائيلي لخط قطار سريع يمر بالضفة الغربية ويربط القدس بتل أبيب. احتوت إحدى الخطط على محطة غير اعتيادية: رام الله. يمكن للمرء أن يستقل القطار من وسط تل أبيب لينزل منه بعد ساعة ونصف الساعة في وسط رام الله. يذكر ذلك الباحث الفلسطيني في علم الاجتماع ناصر أبو رحمة. لم
2014-04-30

شارك
تصوير محمد بدارنة - فلسطين

خبر مر بهدوء في الصحافة الإسرائيلية أواخر عام 2008، رغم أنه كان أقرب للخيال العلمي قبل ذلك بسنوات قليلة: ضمن مخططات مقترحة لمشروع إسرائيلي لخط قطار سريع يمر بالضفة الغربية ويربط القدس بتل أبيب. احتوت إحدى الخطط على محطة غير اعتيادية: رام الله. يمكن للمرء أن يستقل القطار من وسط تل أبيب لينزل منه بعد ساعة ونصف الساعة في وسط رام الله. يذكر ذلك الباحث الفلسطيني في علم الاجتماع ناصر أبو رحمة. لم يتساءل كثيرون حينها كيف يمكن لإسرائيل أن تدرس مقترحا كهذا في المدينة التي أعادت احتلالها بالكامل وفرضت عليها منع تجول عسكريا لمدة 22 يوما قبل ست سنوات من ذلك التاريخ. كان من الغرابة بمكان أن تكون رام الله في المنظور الإسرائيلي وجهة مستقبلية محتملة، رغم كونها تعج بـ«المخربين». اليوم، قد يبدو هذا المقترح أقل غرابة. فالمدينة التي شكلت لإسرائيل في مرحلة قريبة تهديداً يتطلب التصفية، لم تعد مشغولة بتهديد أي كان، بقدر ما هي مشغولة بـ«مظهرها الحضاري»، وبابتلاع ما يمكن ابتلاعه من مدخلات وموارد سياسية واقتصادية وبشرية، تأكيدا على مركزيتها المتزايدة كعاصمة بحكم الواقع لدولة فلسطينية على الورق.

الاختلال يشّكل وجه المدينة

رام الله فضاء للغموض. مساحة رمادية (...) ليست محتلة ولا حرة. محاصرة لكن حية بشكل ما. ليست عاصمة لدولة فلسطينية وليدة ولا مجرد مدينة أخرى محشورة ومعنّفة» كما يعبر أبو رحمة عن التناقضات التي تهزّ عاصميّة رام الله.

في المدينة الصغيرة نواة مدينية حقيقية. فيها يتمركز النشاط السياسي في الضفة الغربية، فمنها تدير السلطة الفلسطينية شؤون «حكمها الذاتي»، ومنها تنطلق الحراكات الشبابية المناهضة لهذه السلطة (أو لسياساتها). فيها تستقر ثلة الشركات التي تشكل الجزء الأكبر من الاقتصاد الفلسطيني الهزيل، وبين سكانها ينتشر بسرعة فائقة نمط حياة تثقله الديون. وفيها أيضاً تقام المعارض والمهرجانات وتفتح دور السينما أبوابها على مدار الأسبوع. كل شيء يؤشر إلى بروز مدينة حديثة تطرح نفسها كمركز للتفاعلات داخل الضفة الغربية. لكن مدينيتها وحداثتها تبقيان منقوصتين بوجود كيان يطل برأسه بين حين وآخر، ويظل معظم الوقت يراقبها من خارج حدودها الهشّة.

فاجتهاد رام الله لخلق هوية مدينية خاصة بها ارتبط بقدرتها على تناسي ثقل الاحتلال المباشر واجتراح أنماط حياة مغايرة. لا يمكن للمدينة أن تفخر بافتتاح فندق «موفنبيك» فخم دون أن تتجاهل عمداً وقوعه بين مستوطنة ومخيمين للاجئين. لا يمكن لها أن تتمدد بأريحية في ضواحيها الجديدة من دون أن تتناسى أن الشوارع التي تربطها بها قد تحمل دوريات عسكرية إسرائيلية في كل وقت. لا يمكنها أن ترحب بالقادمين إليها من دون أن تهمل وجوب مرورهم بأحد الحواجز المقامة على مداخلها.

طرد التفكير بالاحتلال كوجود شاذّ وتطبيعه في المخيال الجمعي، كان السبيل الوحيد نحو خلق حياة «عادية»، وهذا بالذات ما يفرّق بين هذه التناقضات وبين تناقضات عمّان أو بيروت أو القاهرة التي نتجت (بشكل طبيعي؟) عن نموها وتعقّدها وتعدد أنماط الحياة فيها، وما يحول دون تلقي ما تنتجه رام الله من ثقافة ومال وتسلية باحتفاء وبدون ريبة. المركزية المتزايدة في هذه الحالة ليست سوى تحويل للمدينة إلى «بانتوستان» أكثر اكتفاء بذاته، ينسلخ عن أي رؤيا وطنية جمعية لحساب حريات مصغّرة ومحلية.

شعبيا، يمكن القول إن قليلين يأخذون مدينيتها على محمل الجد، على الرغم من أن الكثيرين يقبلون إغراءاتها، بل يحتاجونها. لكن رام الله لم تكف عن محاولة إثبات نفسها كمدينة تُقدم ما هو مختلف. ما الذي يدفع المدينة بهذه القوة إلى الاختلاف عن باقي مدن الضفة وإلى اعتناق حداثة خاصة بها؟

نوستالجيا للحداثة

 بين عامي 1945 و1953، قفز عدد سكان رام الله من 5000 إلى 135000 نسمة. اللاجئون القادمون من الساحل الفلسطيني وصلوا رام الله - القرية المسيحية على طريق القدس في ذلك الحين - حاملين ثقل النكبة وصدمة فقدان الحداثة المدينية الناشئة في مدنهم البحرية.

 هذه المجموعة من اللاجئين الحضريين التي سكنت رام الله ضخت فيها من قوة العمل والحركة ما حوّلها عاجلًا إلى مدينة يافعة. ما حمله هؤلاء اللاجئون، والفلسطينيون عامة، من شعور بالمأساة جراء إجهاض نشوء مدن فلسطينية وقطع التطور التاريخي باتجاهها، صار عاملاً حاضراً على الدوام في فهم الفلسطينيين العام للمدينة. يقول الباحث في علم الاجتماع خالد عودة الله إن التجربة المدينية في رام الله نُظر لها كـ«استئناف لحداثة مدينية غابرة». تعريف رام الله كوريثة لحداثة مدن الساحل يمكن ربطه بسهولة بجو اجتماعي مسترخ ومتحرر نسبياً، رسّخته «الهوية المسيحية» للمدينة. هذه الهوية، بحسب الأستاذة والباحثة في علم الاجتماع في جامعة بيرزيت ليزا تَرَاكي، كانت عاملاً رئيساً في تحول رام الله من قرية هادئة إلى بلدة صغيرة نابضة بالحياة، ثم إلى المركز الحضري الرئيس في الضفة الغربية في ما بعد. وبحسب تراكي، فإن هذه الهوية «لم تكف عن الظهور في تمثيل المدينة، سواء في صورتها الذاتية أو من حيث مكانتها في المخيال الوطني»، رغم أنها فقدت أغلبيتها المسيحية منذ عقود، لكن بقاء هذه الهوية مثل تحقيقاً لـ«مصلحة مشتركة» لمجموعات اجتماعية متعددة، من المهنيين المهاجرين إليها للعمل، إلى العائدين إليها من الخارج، إلى طلاب جامعة بيرزيت القريبة، فضلًا عمن تبقى من سكانها الأصليين.

 هذه القدرة الاجتماعية على احتواء الاختلاف شكلت أرضية لتحول رام الله إلى مركز فلسطيني، بوصفها «نقطة فريدة لتقاطع شبكات عالمية ومحلية لعلاقات اجتماعية وتحركات واتصالات»، وفقًا لتراكي. كما ان رام الله لم تمتلك نخبة محلية سياسية راسخة، كما في نابلس والخليل على سبيل المثال، ما سهل دخول السلطة واستقرارها فيها، ومكّنها من السيطرة عليها.

حذف عنصر الاحتلال من المعادلة

قابلية رام الله للعب دور المدينة المركز تبعاً لتكوينها الخاص، لا ينفي القصدية في هذا التحول. فانتعاش رام الله في السنوات الأخيرة للانتفاضة الثانية تزامن مع تشديد الحصار على مدن أخرى في الضفة الغربية كنابلس والخليل. وكان ذلك محاولة لتحويل رام الله إلى «منطقة جاذبة» للسكان في مقابل تحويل غيرها إلى «مناطق طاردة» لهم، بحسب الباحث خالد عودة الله. يدلل عودة الله على ذلك باختلاف التعليمات التي تعطى لجنود الاحتلال عند اقتحامهم رام الله عنها في أي مدينة أخرى، حيث يمارس الجنود معظم الوقت ضبطًا عالياً للنفس ودرجة كبيرة من التأدب. هذا الجذب ساعدت فيه، وفقًا لعودة الله، إرادة ثانية خاصة بـ«نخبة مستعمَرة» عملت من داخل هذه المنطقة على تمكينها لتصبح «منطقة خضراء» يعاد داخلها تعريف الذوات الفلسطينية القادمة إليها، لتقدم نموذجاً لنمط حياة منزوع المقاومة، يمكن استنساخه في مناطق أخرى. فالحياة «الطبيعية»، الحياة كما يجب أن تكون، تظهر عياناً في شوارع رام الله التي تملأها لافتات إعلانية لبنوك تقدم «الرفاه» و«الازدهار».
إحدى حملات بنك فلسطين الدعائية استهدفت الترويج لفتح حسابات توفير للأطفال، مستخدمة شعار «أحلامهم بتستاهل» فوق صور لطفلة ترتدي بزة فضاء، وطفل يرتدي زي طيّار. كل ذلك قد يبدو عادياً في مدينة أخرى، لكن تصور قدرة الطفل على أن يصبح طياراً في بلد تتحكم إسرائيل بسمائه غير ممكن دون حذف عنصر الاحتلال من المعادلة.

لكن هل نجح هذا النموذج في دفع الفلسطينيين للاعتراف برام الله كعاصمة بحكم الواقع؟ «لا أحد يخدع نفسه ليتحدث عن عاصمة في القدس»، يقول عودة الله. «بشكل فعلي، داخل العقل والنية، وعند النظر إلى كيف يبني الناس توقعاتهم للمستقبل ورؤيتهم لذاتهم، يتم الحديث عن رام الله كعاصمة». في الحد الأدنى، يمكن توقع نجاح ترويج نمط الحياة المراد لرام الله بتركز 68 في المئة من مجموع التسهيلات الائتمانية الممنوحة في الضفة الغربية في محافظة رام الله والبيرة وحدها. في دراسة لها، تشير ليزا تراكي إلى حادثة قد تعكس هذا النجاح. حين سُئلت طفلة في الثالثة عشــرة من العمــر من مخيـم الأمعري الموجود داخل الحدود المتعارف عليها لرام الله لماذا تحب الذهاب إلى رام الله أجابت: «لأنه لا يوجد هناك احتلال».

هذا ما تحاول المدينة تصديقه. فنظامها العام يكاد لا يضطرب لاستشهاد أبناء قرى أو مخيمات تبعد عنها كيلومترات قليلة. ليس انتقاصا من تعاطف أهلها مع إخوتهم خارجها، بل تأكيدا على أنه صار «تعاطفاً» لا أكثر. الاحتلال بالنسبة لرام الله هو شيء يحدث بعيداً. وإن كانت قدرة المدينة على إخفاء الوجود المادي المباشر للاحتلال فيها قد جعلتها بيئة مناسبة للانتعاش الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، فيصعب حينها فهم كيف سيصب أي تطور ممكن لها في مصلحة قضية جمعية ما، تماماً كما يصعب التكهن بهوية الدولة المنتظرة التي ستكون رام الله عاصمة لها.

مقالات من رام الله

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....