في أروقة القانون.. بين السيادة والسادية

 يحكي مانديلا في سيرته الذاتية، "مسيرة طويلة نحو الحرية"، عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمحاربته أثناء مسيرته النضالية نحو تحرير السود في جنوب أفريقيا، قائلاً ".. أصدرت الحكومة قانون الأمن العام الذي يخول السلطة إعلان القانون العسكري أو حالة الطوارئ واحتجاز الأفراد دون محاكمة، وقانوناً آخر يجيز العقوبة الجسدية للمتَحدين.. وطبقاً لقانون حظر الشيوعية كان من
2015-02-12

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك
| en
مظهر أحمد-العراق

 يحكي مانديلا في سيرته الذاتية، "مسيرة طويلة نحو الحرية"، عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمحاربته أثناء مسيرته النضالية نحو تحرير السود في جنوب أفريقيا، قائلاً ".. أصدرت الحكومة قانون الأمن العام الذي يخول السلطة إعلان القانون العسكري أو حالة الطوارئ واحتجاز الأفراد دون محاكمة، وقانوناً آخر يجيز العقوبة الجسدية للمتَحدين.. وطبقاً لقانون حظر الشيوعية كان من الممكن اتهام أي فرد يعارض الحكومة بالشيوعية حتى دون أن يكون عضواً في الحزب!". هكذا، على مستوى العالم، تسعى النظم نحو "سادية القانون" التي تجعل منه أداة للقمع والاستعلاء على المحكومين. بينما، مبدئيا، ترتكز فكرة "سيادة القانون" على ضرورة "أن يكون سيداً على الجميع"، لا يفرق بين الحكام والمحكومين. وفي تعريفها له تشير هيئة الأمم المتحدة إلى "أنه مبدأ للحكم يكون فيه جميع الأشخاص والمؤسسات والكيانات، بما في ذلك الدولة ذاتها، مسؤولين أمام قوانين صادرة علناً، وتطبق على الجميع بالتساوي ويحتكم في إطارها إلى قضاء مستقل، وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. كذلك يتضمن اتخاذ التدابير لكفالة الالتزام بمبادئ سيادة القانون، والمساواة والمسؤولية أمامه والعدل في تطبيقه والفصل بين السلطات، والمشاركة في صنع القرار، واليقين القانوني وتجنب التعسف، والشفافية الإجرائية والقانونية".
 

تجاهل القانون 

لا يُلمح القانون في مصر، بقدر ما تُعايَن وتُعايَش مخالفته بصفة يومية وعلى مدار الساعة. فمع أول خطوة في الطريق العام تصطدم بمخالفة قوانين المرور التي تُحيل حركة الطرق جحيماً، بينما تشهد وسائل النقل معارك حادة بين السائق والركاب بُغية الاتفاق على قيمة التعريفة (التي حددها القانون في ملصق على واجهة كل عربة!)، وبمجرد أن تطأ قدماك إحدى المؤسسات الحكومية لقضاء مصلحة، فإن عدم انتهاء الموظفين من تناول الإفطار قد يعطل مصلحتك، فيما يتباين وقت الإفطار من موظف لآخر (بما يخالف القانون). فإن انتهى منه الأول قد يعطلك ابتداء الثاني، بل إن غياب الموظف المسؤول قد يدفعك للتردد على المكان يوما تلو الآخر حتى عودة الغائب، بغض النظر أن القانون يشترط وجود قائم بعمل صاحب الإجازة، وإلا يُمتنع القيام بها! كذلك فإن خرق ساعات العمل الرسمية حضوراً وانصرافاً أمراً عادياً. وإن أردت الإنجاز فالرشوة والواسطة باب يطرقه عموم المصريين ويشهدون بفعاليته. كل هذا وأكثر لا يصل إليه القانون ولا يحجمه، استجداءً لحل.. قد يصاب المتفحص بالدوار: ما الذي أصاب الفطرة المصرية وشوّهها إلى هذا الحد؟ كيف لهؤلاء أن يُحكموا؟ هل يعيَّن شرطي على رأس كل فرد؟ وما الجدوى.. بالرشوة سيفعل من يشاء ما يريد!

بين الجهل والتجهيل

العديد من الأسباب المعقدة والمتشابكة تقف وراء حالة التجاهل المجتمعي المعتادة للقانون في مصر. من ناحية تُعتم المشهد ضبابية الجهل بالقانون وبالسبل المتاحة لاسترداد الحق، مع ترهل دور القانون في حسم الصراعات بسبب حالة البيروقراطية والرتابة الشديدة التي تصم المحاكمات القضائية في مصر، بما ينفر العاقل من اللجوء إلى القانون والاحتكام إلى القضاء، حيث "السنة" هي وحدة حساب الزمن المستغرق للبت في أي قضية، حتى تلك القضايا الروتينية مثل "توثيق العقود" فإنه يصعب الحديث عن إنجازها بمعدل الأيام أو الشهور! ذلك علاوة على ارتفاع التكلفة الاقتصادية لتحكيم القانون (من أتعاب المحاماة والرسوم الإدارية.. إلخ).
من جهة أخرى، يعتبر تجهيل الأفراد بحقوقهم أكثر السياسات الإدراية الشائعة في مصر لتسيير الأعمال. في ما يخص قوانين العمل، على سبيل المثال، جرت العادة على طي النشرات التي تنص على حقوق العمال في الأدراج، بينما يستدعى العمال للتوقيع بالعلم على كل قانون يخص واجباتهم في العمل. لذلك فإن المستجد في أي عمل يمثل مرتعاً خصباً للاستغلال حتى يفطن ويعي حقوقه! وهكذا، يعد انعدام التكافؤ بين الحقوق والواجبات المبرر الأوجه الذي يتكأ عليه المواطن المصري للمخالفة، خصوصاً مع انحدار الدخول وارتفاع معدلات التضخم، والذريعة الشائعة لإخراس الوازع الأخلاقي الممانع لذلك هي: "على قد فلوسهم"! 
يضاف لما سبق انحياز القانون وانعدام المساواة أمامه، بما يكرّس الشعور بالظلم ويُسهل التلاعب به والالتفاف عليه، والمساواة المقصودة تشتمل شقين، الأول: يخص المساواة بين النظام الحاكم والمحكومين أمام سلطة القانون، وهو ما يُهدر بصفة شبه دائمة، خاصة في الحقوق المالية: فحقوق الدولة آنية أما حقوق الأفراد فلا حسيب على تأجيلها. والشق الثاني يخص المساواة بين الأفراد، وهو ما يهدره استفحال التراشي والوساطة في مصر والتي تنتزع فكرة العدالة من جذورها، ومشهد ذاك الذي يخالف القانون بأريحية تامة مشهد متكرر، والتفسير يتداوله العوام والبسطاء: "أنه مسنود"! وكل "مسنود" يفعل ما يحلو له، أما "الغلابة" فليس لهم إلا القانون.
تبدأ مخالفة القانون كرد فعل لحظي ثم تصير عادة بالتكرار، وما كان على سبيل الاستثناء يصبح قاعدة عامة تبحث عن استثناء جديد. والسبب في إيجاز "أنه إذا وقف القانون عائقاً أمام الفقراء في تحسين أوضاعهم أو كان عقبة في سبيلهم نحو الكرامة والأمن، يتم نبذ القانون كمؤسسة شرعية، أما إذا تم قبول القانون سبيلاً للحماية وتكافؤ الفرص مع ضمان عدالة العملية القانونية وحيادها، حينئذ سيكون القانون موقراً ومحترماً باعتباره أساس العدالة"، حسبما ورد في "دليل التمكين القانوني للفقراء" الصادر في طبعته الأولى (2013) عن المنظمة العربية لحقوق الإنسان. 
 

قصد الفساد! 

وفقاً للمصدر ذاته، فإن القانون في مصر يعاني مشكلات جمة، منها أن تشريع القوانين لا يتبع نهج السلامة المنوط به، والذي يحصر دور الدولة في تنفيذ أحكام قضاء مستقل يحتكم للقوانين التي تشرعها مجالس نيابية منتخبة. على العكس من ذلك، كثيراً ما يُهمَّش النواب فيما تُشرَع القوانين بوحي من مقترحات السلطة التنفيذية، بينما يصدر بعضها بمراسيم رئاسية مع الغياب التام للمجالس التشريعية، بالإضافة إلى وجود التشريعات الاستثنائية التي لا تبررها ضرورة، بينما تمثل الكثرة المفرطة في التشريعات العلة القانونية الأخطر، حيث تؤدي إلى تداخلها الذي يعسِّر الإلمام بها ويولد بها العديد من الثغرات، ذلك فضلاً عن تعدد المرجعيات القانونية حيث بعضها ديني (ومتعدد المذاهب) والبعض الآخر وضعي (متعدد المصادر!). علاوة على ما سبق، فإن بعض القوانين المحلية تخالف التشريعات الدولية. ولما كانت سيادة القانون سبيلاً لدرء الفساد، فإن قصد الفساد وإرادته يحول دون تمكين القانون وسيادته. وحسب المصدر ذاته "أن هناك إرادة سياسية لحماية الفساد لا مكافحته، يظهر ذلك في الطابع الممنهج للفساد الذي تكشف بسقوط بعض الأنظمة العربية، كما يبدو جلياً في مظاهر الإغداق الذي بادرت به بعض الأنظمة العربية الغنية كوسيلة لصرف شعوبها عن تطلعاتها في التغيير وفي مبادراتها لفتح ملفات فساد مسكوت عنها". 
رغم اختطاف الحلم، إلا أن أصداء الهتافات الثورية المطالبة "بالعدالة الاجتماعية" ما زالت تتردد في الآذان دافعة نحو استبيان سبل الوصول. فالمعرفة هى أولى الخطوات الساكنة في طريق استعادة الحلم وتمكينه ليصبح الحقيقة. 

 

للكاتب نفسه