سعر صرف الدولار لعبة أنهكت السوريين

مع استدامة الخراب المسلح في سوريا، يتصدع سعر صرف الليرة السورية، فتهوي قيمتها خاسفة بأسعار السلع والخدمات التي تباهت السلطة سابقاً بإبقائها مربوطةً بالمتوسط العام للدخول، فيما يطلّ مصرف سوريا المركزي بحياء من بين فجوجِ واجهته البيضاء في ساحة السبع بحرات على ترنّح عملة البلاد، يتّهم شططَ معادلة العرض والطلب على الدولار بإكمال المؤامرة الكونية، فيطرح في كلّ مرة تطيح بها أسعار السوق بسعر الليرة
2015-08-27

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك

مع استدامة الخراب المسلح في سوريا، يتصدع سعر صرف الليرة السورية، فتهوي قيمتها خاسفة بأسعار السلع والخدمات التي تباهت السلطة سابقاً بإبقائها مربوطةً بالمتوسط العام للدخول، فيما يطلّ مصرف سوريا المركزي بحياء من بين فجوجِ واجهته البيضاء في ساحة السبع بحرات على ترنّح عملة البلاد، يتّهم شططَ معادلة العرض والطلب على الدولار بإكمال المؤامرة الكونية، فيطرح في كلّ مرة تطيح بها أسعار السوق بسعر الليرة على زبائنه من شركات ومكاتب صيرفة كميةً من القطع الأجنبي، فلا يتحسن معها سعر صرف الليرة سوى لأيام، ينخفض عشر أو عشرين ليرة، ثم يعاود مسيرة الارتفاع.

المصرف المركزي سمسار بسحنة بيضاء

خلال العام الحالي، لم يتجرّأ سعر صرف الدولار عن الهبوط أسفلَ عتبة المئتين وسبعين ليرة. وبدت الأشهر الماضية حالكة في حياة السوريين، فالمستويات العامة لأسعار السلع والخدمات ارتفعت مجدداً، ولحقت بسعر الصرف المرتفع الى مستويات قياسيّة جديدة.
مطلع شهر أيار/ مايو من العام الحالي، عاد مصرف سوريا المركزي إلى تلاوة الرقية الوحيدة التي يحفظها على الليرة المكروبة، فباع 200 مليون دولار إلى زبائنه في سوق الصيرفة النظامي، وبالسعر الذي جرجروه إليه (275 ليرة سورية للدولار الواحد). قبل هذا بمدّةٍ قصيرة، كان قد باع كمية من القطع الأجنبي بسعر 290 ليرة للدولار الواحد إثرَ معاودة فاجعةِ تخطّي سعر صرف الدولار في السوق السوداء عتبة 300 ليرة. أما النتيجة المضيئة التي تراءت بعد انتهاء حفلات التدخل تلك، فقد تمثّلت في بلوغ سعر الصرف الرسمي للدولار الواحد 260 ليرة، فيما لم ينخفض سعره في السوق السوداء عن 290 ليرة. بذلك يرتضي مصرف سوريا المركزي لنفسه دور سمسار في سوق القطع، متخلياً عن الأدوار المفصلية التي تحتفظ بها المصارف المركزية لمثلِ هذه المناسبات. فهو إن كان مرغماً على تعويم سعر الصرف مراراً، يظهر بوجهٍ أكثر إخفاقاً في مداراةِ تراخيه الفاضح في ضبط حدود الصرف. فـ "التعويم المُدار" الذي يتبنّاه المصرف المركزي (managed floating) لم يثمر في تقليم تدهور سعر صرف الليرة، بحيث يتمّ وضع سعر رسمي للصرف وتحديد حد أقصى وحد أدنى له، فيظلّ الدولار معوّماً بين الحدين، فإن تجاوز سعر صرفه الحدّ الأقصى يتدخل المركزي ليزيد عرض الدولار في السوق، أو يرفع من معدل الفائدة على العملة المحلية فيزيد الإيداع المصرفي فيها. فعوضاً عن جعل السعر الرسمي للصرف الذي يحدده المركزي هو نقطة الجذب لحركة سوق القطع، راح المصرف في كلّ مرّةٍ يزيح سعر صرفه الرسمي باتجاه نقطة الجذب في سعر السوق السوداء، وتلك لا تهدأ، تبقى ترتفع، جاعلةً السعر الرسميّ للصرف يلهث وراءها بلا رحمة. أما القطع الأجنبي الذي يهدره المصرف المركزي في حفلات تدخله، فإنّ شركات الصيرفة التي تشتريه بالسعر الرسمي تعودُ لتدويره مجدداً فتبيعه بسعر السوق السوداء الذي يزيد ما بين ثلاثين إلى أربعين ليرة عن السعر الرسمي.
مداهمة السلطات السورية في شهر أيار/مايو من عام 2013 مقرّ شركة "القلعجي للصيرفة وتحويل الأموال" واكتشافها غرفة سريّة حوت وقتذاك 50 مليون دولار، و500 مليون ليرة معدّة للتحويل الخارجي على أرقام 20 حساب مصرفي.. تلك المداهمة وغيرها مثلها، لم تلغِ دور السوق السوداء في تشويه سعر الصرف. انتهت قضية شركة "القلعجي" بغموض لافت، وأخرج القضاء السوري أصحاب الشركة من التوقيف والمساءلة، واستمرت اللعبة في الخارج على أحسن وجه. لكن هل إدارة المصرف المركزي لوحدها هي من أوصلت سعر الصرف في سوريا إلى ما وصل إليه؟

الليرة إلى الهاوية

بين عامي 2011 و2012، انخفضت قيمة الليرة السورية بنسبة بلغت 34 في المئة تقريباً. حدثَ ذلك كعاقبة من عواقب تدهور سعر الصرف، لا كانخفاضٍ فعلي في القيمة الشرائيّة لليرة. أما التضخم المالي الذي وقع فيه اقتصاد البلاد حينها بالمقارنة مع زيادة سعر صرف الدولار، فقد بلغ 52 في المئة. وبين عامي 2012 و2013، جددت الليرة السوريّة مسيرةَ انخفاض قيمتها بنسبة تعدّت 52 في المئة تقريباً. كلّ ذلك تأسس على تدهور عائديّة القطاعات الإنتاجيّة والخدميّة بسبب شيوع الاحتراب، ّإذ، وقبل العام 2011 كانت نسبة الأراضي الزراعيّة تفوق 30 في المئة من مساحة البلاد، وكانت مساهمة هذا القطاع تعادل 17 في المئة من إجمالي الناتج المحليّ. وتخطت قيمة الصادرات السوريّة عام 2010 عتبة 8.8 مليارات دولار. ووفق المؤشرات التي يقدّمها تقرير "المركز الوطني السوري للتنافسية"، فإن حركة القدوم السياحي تدهورت بنحو 90 في المئة عمّا كانت عليه في 2010، وتراجعت عائداته من 319 مليار ليرة إلى ما دون 4 مليارات ليرة عام 2014. وتراجعت قيمة الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة من 3 مليارات ليرة عام 2010 حتى بلغت لا شيء في نهاية العام 2014.
وبحسب التقرير أيضاً، فإن احتياطي مصرف سوريا المركزي من القطع الأجنبي قد تقلّص من 19 مليار دولار في نهاية عام 2010 إلى ما دون 4 مليارات دولار في نهاية العام الماضي. بالإضافة إلى تراجع الإيرادات النفطية بما قيمته 4 مليارات دولار كنتيجة لانخفاض الإنتاج من 400 ألف برميل في اليوم إلى نصف تلك الكميّة، ما أفقد خزينة الدولة نحو 25 في المئة من إيراداتها المعهودة.
بالمقابل فقد داوت الدولة السوريّة العجز في إيراداتها العامة تارةً بالقروض الخارجيّة الميسّرة، الروسيّة والإيرانيّة، وتارةً أخرى بمقايضة البضائع السوريّة بأخرى. ثم إنّ خطوط الائتمان المفتوحة مع إيران ساهمت بتمويل الجزء الأكبر من المستوردات السوريّة الأساسيّة، وأولها القمح، إذ استُورد منه عام 2013 ما قيمته 97 مليار ليرة. وبذلك تكون المساعدات النقديّة الخارجيّة قد تركت هامشاً آمناً للمركزي أتاح له المضاربة برصيده من العملة الصعبة. فإيران منحت سوريا مؤخراً قرضاً بقيمة مليار دولار أميركي، وقبلاً منحتها قرضين، الأول بقيمة مليار دولار، والثاني بقيمة 3.6 مليارات دولار.

جيوب السوريين فارغة

أكثر ما يوجع السوريين خلال متابعتهم لدراما انخفاض سعر صرف ليرتهم هو الارتفاع المُهلك لأسعار السلع والخدمات. التقرير الأخير لـ "المركز السوري لبحوث السياسات" يقدّم لنا مؤشراً جليّ الوضوح عن انكماش الاستهلاك الخاص (وهو مقياس مباشر لمستوى معيشة الأسرة السورية) بنسبة 41.7 في المئة مقارنة بعام 2010. وقد انكمش الاستهلاك الخاص بنحو 11 في المئة عام 2014 مقارنة مع قيمته في العام 2013، فيما تضافرت عدّة عوامل أدّت إلى ارتفاع مؤشر أسعار المواد الاستهلاكية في العام 2014، إذ ارتفع بمعدل 15 في المئة خلال النصف الأول من العام الماضي، ثمّ ارتفع 22 في المئة في الربع الأخير منه. وشمل ذلك ارتفاع أسعار الخبز والسكر والمشتقات النفطية. 

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...