سوريا: عالقون في دولة التضخم

خط الفقر في سوريا يبلغه جُددٌ كلَّ يوم، فيرسمون بهِ حدود دولتهم الجديدة. ثَلمٌ عَمّقه النزاع المسلّح منذ ثلاثة أعوام في أديم الحياة العميق، لا على سطحها. بالكاد كانت الطبقة الوسطى المتآكلة تتفادى الآثار السلبية لسقوطها الأخير، وتبحث في الدولة الجديدة عن موضع قدم يوثّقها حيّةً على خط الفقر الأعلى أو فوقه بقليل، بعدما حرمها العقد الأخير من كلّ احتمالات الانتعاش، فمتوسط دخولها ما وَقَفَ
2014-07-09

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك
(من الانترنت)

خط الفقر في سوريا يبلغه جُددٌ كلَّ يوم، فيرسمون بهِ حدود دولتهم الجديدة. ثَلمٌ عَمّقه النزاع المسلّح منذ ثلاثة أعوام في أديم الحياة العميق، لا على سطحها. بالكاد كانت الطبقة الوسطى المتآكلة تتفادى الآثار السلبية لسقوطها الأخير، وتبحث في الدولة الجديدة عن موضع قدم يوثّقها حيّةً على خط الفقر الأعلى أو فوقه بقليل، بعدما حرمها العقد الأخير من كلّ احتمالات الانتعاش، فمتوسط دخولها ما وَقَفَ عن اللحاق بمتوالية زيادة المتوسط العام للأسعار، دخلها أبقاها عالقةً كلاجئٍ في دولة التضخم النقدي. لكنها أحسنَ حالاً من عمال القطاع الخاص، ومن أصحاب المهن الهامشية، ومن المتقاعدين، وصغار الفلاحين والحرفيين، الذين أسقطتهم الأعوام الماضية تباعاً في فخاخ خط الفقر الأدنى.. ومن النازحين، والمحاصَرين في أحياءٍ كِسوتها بعض إسمنت تنفر من جنباته أصابع الحديد الصدئ، حيث لا خطَّ للفقر هناك، بل قاعهُ المدقِع.

سوريا ترسمها خطوط الفقر

بعد العام 2011، تشخّصت أكثر الآثام الاقتصادية لأوتوقراطية السلطة. كان الأمر يتطلب في إثباته حضورَ المطالب الاقتصادية - الاجتماعية في حراك آذار/ مارس وإن رمزياً، وإن يسّر في ما تلاه نصيب «الأنتلجنسيا»، فيتصدّر المشهد السياسي بعيداً عن حوامله الشعبية، ثم في تصفيته كليّاً بالانفتاح على الحسم العسكري. والسوريون من غير الإيديولوجيين المنحازين إلى صنف معرفيٍّ دون سواه في فهم الدولة والسلطة، غرقوا في حسابات سعر الصرف الجديد للدولار، وهو يعيد منذ بداية العام 2012 صرف حياتهم في أقنية أخرى غير التي اعتادوها، وهو يثبُ متنقلاً بين أرقامٍ فلكية من 45 ليرة إلى 65 ليرة إلى 90 ليرة إلى 100 ليرة إلى 110 ليرة إلى 125 ليرة، ثم ليحلّق فوق 200 ليرة، ويلامس لمرةٍ واحدة 300 ليرة، ثم يعود ويهبط، ويستقر حالياً على قيمٍ تتراوح بين 150 ليرة إلى 180 ليرة للدولار الواحد. كانت دخولهم تزحف على أرض الواقع الصلف، وقدرتهم الشرائية تتهالك وتنحسر. أسعار السلع الضرورية في سلة استهلاكهم اليومية ارتفعت، فقيم بعضها بات يعادل ثلاثة أمثالِ ما كان عليه قبل عام 2011، وبعضٌ إلى خمسة أمثال.
في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2013 أعلنت الأمم المتحدة أن نسبة البطالة في سوريا وصلت إلى 48.6 في المئة من إجمالي قوة العمل، وعدد الفقراء وصل إلى 14 مليوناً. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي صنّف فقراء سوريا بين 7.9 ملايين يعيشون على خط الفقر، و4.4 ملايين يعيشون فقراً مدقعاً. هذا الرقم تتفحّصه أكثر لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) حال تعلن أن 18 مليون سوري يعيشون تحت خط الفقر الأعلى (2 دولار للفرد في اليوم)، بينهم 8 ملايين تحت خط الفقر الأدنى (دولار واحد للفرد في اليوم).
ولو اعتبرنا أن متوسط حجم الأسرة هو خمسة أفراد، على رأسهم معيلٌ واحد، فهذا يعني أنهم يتجاوزن خط الفقر الأعلى بدخل وسطي هو 50 ألف ليرة، وخط الفقر الأدنى بنصفه. ولدينا بحسب مسح المكتب المركزي للإحصاء عام 2011 نحو 5.815 ملايين نسمة هو حجم قوة العمل، متوسط دخل من يعمل منهم في القطاع العام 22.5 ألف ليرة، وهذا يزيد عن متوسط الدخل في القطاع الخاص بنحو 5 آلاف ليرة. ذلك يعني أن متوسط دخل قوة العمل في سوريا تقع تحت خط الفقر الأدنى، وكذلك عائلاتهم، ما لم يكن ثمة مصدر دخلٍ آخر.
أيضاً وقبل طوفان التضخم الأخير، أطل «التقرير الوطني الثالث للأهداف التنموية الألفية في سوريا عام 2010» المعدّ من قبل خبراء محليين بالتعاون مع خبراء في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ليعلن أن نسبة الفقر 12.3 في المئة عام 2007. لكن من أين للسوريين تدبر هذا الفارق الحسابي بين دخولهم والمستويات الجديدة للأسعار؟

نهاية المدخرات،
بداية الجيوب الخاوية

جاء التضخم المفرط في الأسعار غير منتظرٍ، كما جاء حصيلة تغييراتٍ واسعة في تركيب الطلب الكلي، وتغيراتٍ في الطلب النقدي، ما جعل الأسعار تنتهج الارتفاع، ولا تعود للانخفاض وإن انخفض الطلب. الحصار الاقتصادي لعب لعبته أيضاً في لجم مجمل حركة الاستيراد والتصدير، ولأن العلاقة بين أسعار السلع والخدمات، وبين أسعار عناصر الإنتاج قد اختلّت بفعلِ ذلك، وجدنا كيف انخفضت القوة الشرائية لليرة السورية إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. لقد كشف تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي في شهر أيار/مايو من هذا العام انكماش الناتج المحلي الإجمالي في سوريا بنسبة 40 في المئة منذ بداية الأزمة الاقتصادية في البلاد.
حياةُ السوريين صارت تمريناً يومياً قاسياً. جرّبوا أوّل ما جرّبوه الاستعانةَ بمدخراتهم النقدية الشحيحة خارج الأقنية المصرفية ليكون نصيبها الزواج من تضخمٍ قضمها ببطء، كذلك انخفض متوسط نمو الودائع البنكية من 18 في المئة إلى 8 في المئة سنوياً، وفي أواخر تموز/ يوليو من العام 2012، وثّقت جمعية الصاغة في دمشق ارتفاع حركة العرض في سوق الذهب عدّة أضعاف مقارنةً بحركة الطلب عليه. لقد صار اللحاق بارتفاع مستويات الأسعار مع عملةٍ تفقد قدرتها الشرائية بصورة تراجيدية جزءٌ من ذاك التمرين الشاق. بدأ الناس يبيعون مدخراتهم من الحليّ الذهبية بنسبة قاربت 90 في المئة من إجمالي حركة سوق الذهب، فيما اقتصرت حركة الشراء على نسبة لم تتعدَّ 10 في المئة من إجمالي حركة السوق.

حوالات إلى الجيوب الخاوية

يحسب تقريرٌ صادر عن «Europian Survey for Information» عدد المغتربين السوريين حول العالم عام 2000 بنحو 981 ألف مغترب. أرقامٌ أخرى تستهين رقم المليون هذا، وتعتبر رقم الاغتراب السوري أكبر بكثير، بينما قدّرت دراسةٌ مصدرها البنك الدولي عام 2005 أن المهاجرين السوريين الحاصلين على تعليمٍ جامعي في سوريا يمثلون 5.2 في المئة سنوياً من إجمالي عدد المهاجرين السوريين المقدّر بنحو 480 ألف مهاجر. كما لدى بنك الاستثمار الأوروبي دراسةٌ يقدّر فيها عدد المغتربين السوريين داخل أوروبا وحدها بنحو 66 ألف مغترب لعام 2003 نصفهم موجود في ألمانيا والسويد.
السوريون في الخارج شاركوا سوريي الداخل تمرين الحياة الشاق بكامل نصابه، يد العون امتدت إلى جيوبٍ أفرغها تضخمٌ لا يشبع. فبلغت القيمة الإجمالية للحوالات الشخصية القادمة إلى سوريا يومياً نحو 7 ملايين دولار. ما يعني أن 2.5 مليار دولار سنوياً مرت في مصرف سوريا المركزي، وهذا يُعينه على زيادة حجم تمويل مستوردات القطاع الخاص، وبالتالي زيادة عرض السلع داخل السوق السورية.
كما أن اللحاق بالدولار في الخارج، والتقاطه للظفر بسعر صرفه في الداخل كان أحد أوجه تدابير السوريين لمعيشتهم المتضخمة.
عام 2013 بلغ عدد المغادرين السوريين قرابة 4.585 ملايين مسافر. فيما بلغ عدد المغادرين العرب 549.433 ألف مسافر، وعدد المغادرين الأجانب 53.816 ألف مسافر بحسب الاحصاءات الرسمية السورية. وخلال العام الماضي وحده بلغ عدد جوازات السفر التي تم إصدارها نحو 1.15 مليون وثيقة، من كل فروع إدارة الهجرة والجوازات داخل سوريا. وفي شهر أيار/مايو هذا العام 2014، صرّح فرع دمشق للهجرة والجوازات بأنه يصدر قرابة 900 جواز سفر بصورة وسطية في اليوم الواحد داخل دمشق، ونحو 700 جواز سفر يومياً في ريفها. وإجمالي الرسوم المستوفاة من وراء ذلك قدّرها بنحو 5 مليار ليرة.
وهذا إيرادٌ جديد للخزينة العامة لم تكن لتحتسبه في تقديرات إيرادات الموازنة العامة، كما أنه إيرادٌ جديد يفتح الباب أمام السوريين الخارجين من بطن التضخم ومن دولته، ليشرعوا في رحلة البحث عن «الدولار»، والتي قد لا يعودون منها على الإطلاق.
 

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...