الجنس البشري الجديد

مسيرة الأسابيعِ القليلة ستنتهي عند أكمات القصب الناتئة بعشوائية بديعة حول وجه "بحيّرة الشمال". بردُ كانون الثاني/يناير يُوقظ الحواس المترهّلة من سأم الصيف، ويجعل مجموعتنا البشريّة تغنّي لأشجار الكستناء والصنوبر، وللأرانب البريّة التي تنزّ من أوكارها خلسةً لتعود وتختفي. نشعر بطقطقة الثلج الناعمة تحت أحذيتنا المصنوعة من المطاط الطبيعي. لم أكن "أنا" بل "نحن
2014-03-28

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك
زاريا زردشت - سوريا

مسيرة الأسابيعِ القليلة ستنتهي عند أكمات القصب الناتئة بعشوائية بديعة حول وجه "بحيّرة الشمال". بردُ كانون الثاني/يناير يُوقظ الحواس المترهّلة من سأم الصيف، ويجعل مجموعتنا البشريّة تغنّي لأشجار الكستناء والصنوبر، وللأرانب البريّة التي تنزّ من أوكارها خلسةً لتعود وتختفي. نشعر بطقطقة الثلج الناعمة تحت أحذيتنا المصنوعة من المطاط الطبيعي. لم أكن "أنا" بل "نحن الأنا" تمتزج وجوهنا بعذوبة مع وجه الطبيعة الأم، ونمتحن وإيّاها إيقاعَ الحياة ذاته. ليس مهماً تعدادنا، نزيد قليلاً أو ننقص. المسألة سيان. فامتزاجنا على طول رحلتنا مع غيرنا من مجموعات بشرية يغيّر من ترتيب عددنا. بعضنا يبقى في تلك المجموعات، وبعضٌ من تلك المجموعات ينّضم إلينا. لم يغيّر العقد الأخير جِهِات الفهم لدينا فحسب، وإنما جعلنا نعيش في الفردوس، وهنا على هذا الكوكب.نحنُ في شتاء العام 2054. نحنُ الناجون من العقود الاجتماعية المتحمورة حول الفرد، من مكائدِ الأديان في تشظِيتها للذات البشريّة الجمعيّة، وحراستها الأنا الفردية بعناية، ومن ألاعيب الاقتصاد السياسي.
الناجون من الحرب العالمية الثالثة، وعبودية النظام العالمي الجديد الذي قام على أثرها. نحن الآن جزء من المشاعيّة البشرية الجديدة التي لملمت منذ عقد خيوط المعرفة والألم، وتركت ما فَسُدَ منها وما خاب. استطعنا بعد معاصرة الكارثة الكبرى التي ألمّت بالجنس البشري، وبعدما عاينا طبيعة الموت والفناء وتنفسناه عن كثب، وبكينا من قسوته ومن جلافة طباعه، وأيّقنا أن العلّةَ في الأنا الفردية.
استطعنا أن نجتمع نحن الناجون عَقِبَ الثورة العالمية التي أطاحت بالنظام العالمي الجديد، نحنُ الناجون من الحرب العالمية الثالثة التي بدأت تَزْكُمُ أنوفنا بالموت المجاني منذ صيف العام 2014.لم تكن ذاتي الفردية قبل أربعةِ عقود لتصدّق ما نحنُ عليه الآن. كانت كغيرها إن فكّرت بمستقبل العرق البشري، صوّرته كمضغةِ خيالٍ خصب. حيث الأشجار العادية المعدّلة وراثياً بأحد جينات "بكتيريا" بحرية تضيء الشوارع بدلاً من أعمدة النور، وحيث تكنولوجيا "النانو" تحكم دقائق حياتنا اليومية، مزروعاتٌ معدّلة وراثياً تحمل نكهاتٍ غير التي اعتدناها، وحيث يقوم الرجل الآلي بكل الأعمال البشرية الشاقة، وحيث أيضاً المزارع العمودية في المدن الكبرى، وحيث السيارة الهيدروجينية بدلاً من السيارة الكهربائية، وحيث الاتصالات ثلاثية الأبعاد تعوّض الحضور البشري المادي.
غير أن تلك الصورة المرصودة بعناية قبل أربعة عقود، ليست صورة الحياة البشرية الآن، وما كانت ذاتي الفردية وقتذاك لتخال أنها ستزور بحيرة الجبّول (نسميّها اليوم بحيّرة الشمال) القابعة في ريف حلب من جهة الجنوب الشرقي سيراً على الأقدام، وإنما بقطارٍ كهربائي يسير بسرعة 400 كيلومتر في الساعة، ينطلق من دمشق فيصل حلب في ساعة، بصحبة الأحفاد. ونستأجر أحد الأكواخ البيئية القريبة من "السبخة"، ونستمتع بمراقبة طائر "الفلامينغو" بمنقاره الوردي ذي النهاية السوداء.لكن كيف وصلنا اليوم إلى ما وصلنا إليه؟ وأيّ حرب تلك التي فعلت فعلها؟ وأيّ نظام عالمي جديد ذاك الذي ثُرْنَا عليه؟كانت ذاتي الفردية قبل أربعة عقود تعدُّ ثورات الربيع العربي، وتنتظر انتهاء زمن الديكتاتوريات العربية الرديء. وما إن وصل الربيع العربي إلى سوريا (كان للأوطان أسماء، وكان اسم بلدي سوريا) حتى أقام فيها ثلاث سنوات. لم يسقط النظام، ولم تنجح الثورة. كنّا نعيش على تخومِ خزّانٍ بتروليٍّ فيه نصف الاحتياطي العالمي، ويقع في باطن دول كانت أسماؤها السعودية والعراق وإيران والكويت والإمارات.
حينها أشارت الدراسات الجادة إلى انتهاء الاحتياطي العالمي من النفط عام 2048. لكن الاستهلاك العالمي منه كان يبلغ 50 مليون برميل منذ عام 2010، كان رقم الاستهلاك مقلقاً لأن أكبر 120 حقل نفط في العالم لا تنتج سوى 33 مليون برميل يومياً. بعد الشتاء السوري الطويل اتضّح أكثر وجه الصرّاع الدولي على مخابئ احتياطي النفط، ولم تستطع القوة العسكرية الأعتى على وجه الأرض (كان اسمها الولايات المتحدة الأميركية) معالجة أزمتها الاقتصادية العميقة المتمثلة بديونها السيادية، وبدينها الداخلي، من خلال إجراء إصلاحات بنيويّة في قطاعات الإنتاج لديها.اختارت فتح جبهة لحرب عالمية ثالثة في أوروبا الشرقية تطورت إثر انفصال جزيرة القرم عن أوكرانيا.
أرادت إعادة رسم خارطة العالم، والتمركز الجدّي حول احتياطي النفط الأكبر. لكنها أخفقت.الحرب بدأت فعلياً في صيف العام 2014 واستمرت أربع سنوات، استخدم فيها العالم الأسلحة النووية، وأطلقت الولايات المتحدة معظم مخزونها من صواريخ "منتمان" البالستية على ثاني أكبر اقتصاد عالمي حينها (كان اسمه الصين) وعلى ثاني أكبر دولة نووية في العالم (اسمها وقتذاك روسيا). مات في الحرب ثلثا سكان العالم، المجاهدون الذين قدموا إلى سوريا، عادوا وخرجوا منها ليقاتلوا على جهتين، الأولى في تفجيرات أصابت أغلب مدن ما كان يسمى بالاتحاد الأوروبي، والثانية مع الدولة الأقل تضرراً من الحرب (وكان اسمها إسرائيل)، وبالنيابة عن جيشها ضد عدوّها الأكثر إٌقلاقاً (كان يحمل اسم حزب الله). إسرائيل التي حاربت القوة العسكرية الأكبر في الشرق الأوسط (كان اسمها إيران)، عادت وتوسّعت جغرافياً تماشياً مع معتقداتها التلمودية، لكنها لم تحسب حساباً لقدرتها المحدودة على إدارة حدودها الجديدة، وإن ضمن جغرافيا أعادت رسمها بإتقانٍ، وأعادت صوغها أيضاً على قاعدة دويلاتٍ طائفية قوامها فروقاتٌ شكلانيّة في المعتقد الديني. لاحقاً ثار عليها، وعلى كل الرموز المادية للنظام العالمي الجديد، كلّ المستضعفين والمهمّشين، واستغرقوا عقدين من الزمن لينتصروا.واليوم نعيش في مجموعات بشرية، حين نتعب نبني بيتاً، ونتركه لغيرنا حين نرحل، نأكل من الأرض القريبة، ونربي أطفال مجموعتنا.
لا ملكيّة ولا تمّلك، نحن أناً جماعية لا ننتمي إلى أسرةٍ أو دينٍ أو جغرافيا، بل إلى الجنس البشري الجديد. لا نملك شيئاً ولن نملك شيئاً. لكن كل ما نخشاه أن نصحو ذات صباح لنجد من سيّج قطعة أرضٍ وقال لنا: "هذه الأرض لي". فنعود إلى نقطة الصفر مجدداً.
 

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...