متى وكيف انهارت الصناعة السورية؟

بيت الخسارة الفسيح هو عنوان إقامة الصناعة السورية منذ العام 2005، ما يجعل اختصارها بأحداث السنوات الثلاث الماضية تعسفياً وغير صائب. وبالمقابل، وبالتأكيد، زادت الآلة العسكرية المتدحرجة على الخسارة قيمةً مضافة، كما عمقت العقوبات الاقتصادية الدولية مذاقها «التراجيدي» اللاذع. الأرقام القليلة المتوفرة من وزارة الصناعة مقلقة للغاية، كما تبدو مقيّدة لنمو أي تفاؤل حيال تحسّن حال هذا
2014-02-19

أيمن الشوفي

صحافي من سوريا


شارك
خزيمة علواني ـ سوريا

بيت الخسارة الفسيح هو عنوان إقامة الصناعة السورية منذ العام 2005، ما يجعل اختصارها بأحداث السنوات الثلاث الماضية تعسفياً وغير صائب. وبالمقابل، وبالتأكيد، زادت الآلة العسكرية المتدحرجة على الخسارة قيمةً مضافة، كما عمقت العقوبات الاقتصادية الدولية مذاقها «التراجيدي» اللاذع. الأرقام القليلة المتوفرة من وزارة الصناعة مقلقة للغاية، كما تبدو مقيّدة لنمو أي تفاؤل حيال تحسّن حال هذا القطاع في المدى المنظور. 336 مليار ليرة سورية حجم الضرر الذي التصق به. منشآت القطاع الخاص الصناعي تلّقت الصفعة الأقسى، فخسائرها تعدّت 230 مليار ليرة. وتقدم مؤسسة التأمينات الاجتماعية أرقاما مفزعة عن عدد العمال الذين جرى تسريحهم من القطاع الخاص الصناعي عام 2012، وقد بلغوا نحو 70 ألف عامل، ثم التحق بهم خلال الأشهر الستة الأولى من العام الماضي نحو 130 ألف عامل... من دون أن يحصلوا على أيِّ تعويض. قوّة العمل في سوريا، بحسب أرقام وزارة العمل، تصل إلى 6 مليون إنسان، فما تم تسريحه خلال الأعوام الثلاثة الماضية يبلغ 3.3 في المئة منها. وفي تقرير للمركز السوري لبحوث السياسات، هناك 2.3 مليون سوري خسروا أعمالهم منذ بداية الأحداث. لذلك تكون نسبة البطالة قد لامست حدود 49 في المئة من إجمالي قوّة العمل في سوريا.

من الخسارة إلى الهجرة

بقيت غرفة صناعة دمشق وريفها صائمة طيلة النصف الأول من عام 2013 عن إصدار تقريرها السنوي للعام 2012. الحجة العلنية هي خروج رئيسها باسل الحموي إلى دولة الإمارات لمزاولة أعماله من هناك. جارتها ونسيبتها، غرفة تجارة دمشق، قالت في تقريرها السنوي لعام 2012 إن الصناعة من أكثر القطاعات الاقتصادية تضرراً خلال الأزمة. وأشار التقرير كذلك إلى خروج اليد العاملة من سوريا، وإلى هجرة العديد من رؤوس أموال حلب وريف دمشق. هذا الخروج لم تصنّعه أزمة الأعوام الثلاثة الماضية، لكنها عمّقته لدرجة التعميم، جعلته منهج تفكيرٍ غايته النجاة من جحيم الموت والإلغاء. بين عامي 2011 و2012 دلّت تقديرات هيئة الاستثمار السورية أن حجم استثمارات السوريين في الخارج قاربت 140 مليار دولار. أرقام مؤسسة الشفافية العالمية وهيئة النقد الأوروبية جاءت أقل بنحو 40 مليار دولار عن رقم الهيئة. «مجلس رجال الأعمال السوري ـ المصري» كان على حق حين توقع بلوغ حجم الاستثمارات السورية في مصر 1.5 مليار دولار خلال الأعوام الثلاثة للأزمة. أكثر من 300 مستثمر سوري قصدوا مصر. لاحقاً ظهرت قائمة بأسماء 37 مستثمرا سوريا ينوون نقل استثماراتهم إلى منطقة العاشر من رمضان. معظمهم جاء من قطاع الغزل والنسيج. مصطفى البديوي، رجل أعمال سوري هو الأشد حماسةً بينهم. أراد إنشاء مجمع لصناعة الغزل والنسيج تبلغ كلفته الاستثمارية في مرحلته الأولى 150 مليون جنيه، ويستهلك يومياً نحو 150 طنا من القطن المصري.
قائمة أخرى حددت أسماء الشركات السورية الخاصة التي طلبت حق اللجوء الاستثماري إلى مصر، منها الشركة الحديثة للغزل، والشركة السورية للغزل والنسيج، وشركة إيجي قطن، والشركة العربية للغزل والنسيج، وشركة سيسيك، وشركة الشامة للغزل والنسيج، والشركة السورية للأجهزة المنزلية، والشركة الشامية للبلاستيك ومواد التجميل، وشركة فور أم تكس.في الأردن، تم توثيق قدوم نحو مئة مستثمر سوري خلال الشهرين الأولين من العام الماضي فقط. وفي العام 2012 كان قد بلغ عددهم 388 مستثمرا. هذا العام، جزم حسين المجالي وزير الداخلية الأردني بانتقال أكثر من 350 منشأة صناعية واستثمارية سوريّة إلى الأردن. وبين عامي 2011 و2012 فاق حجم استثمارات السوريين في الأردن 25.2 مليون دينار. 
تركيا لها حصتها أيضاً من رأس المال السوري النازح، بعدما ازداد عدد الشركات السورية في اسطنبول وحدها بنسبة 218 في المئة خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2012، مقارنةً بالفترة نفسها من العام 2011 وفقاً لإحصائيات غرفة تجارة إسطنبول. وقد تم إنشاء 14 شركة استشارية، و11 شركة سياحية، و10 شركات اتصالات، و6 مصانع للنسيج، و6 مصانع للمنتجات الغذائية والزراعية، و5 شركات للإنشاءات، وشركات أخرى في مجالات التعدين والآلات، والحديد والصلب، والمجالات الصحية والتربوية... الأرقام التركية أحصت في العام 2012 أسماء 89 شركة بات يملكها سوريون هناك، قيمتها 2.824 مليون ليرة تركية، ما يعادل 1.7مليون دولار.

حقيقة مصاهرة التجارة قبل النزوح 

منذ عام 2010، انخفضت الحصة السوقية الداخلية للصناعات السورية بنحو 30 في المئة. تسببت بذلك المنافسة التي رعتها وشجعتها اتفاقية منطقة التجارة العربية منذ العام 2005. الحكومات السورية المتعاقبة دفعت بصناعة بلادها إلى الماء عن قصد، وتركتها أمام خيار تعلّم السباحة أو الموت غرقاً. تصريحات الصناعيين السوريين رجحت الغرق بل اعتبرته مؤكداً، ولامت الدولة لعدم رميها طوق نجاة لهم كما تفعل أي دولةٍ عاقلة. طوق النجاة كان تخفيض كلف الإنتاج لتصير مماثلة لنظيراتها في الدول المنافسة. بدل ذلك رفعت الحكومة الدعم عن أسعار حوامل الطاقة عام 2008 ما أدى إلى ارتفاع كلف الإنتاج في الصناعات النسيجية إلى 25 في المئة عما كانت عليه. في العام 2010 تحوّل جزء من النشاط التوظيفي لرأس المال الصناعي إلى التجارة. فاروق وهيثم جود اللذان يملكان معمل «مندرين» للمشروبات الغازية توّجها نحو العمل التجاري، حيث حصلا على وكالات تجارية لمستحضرات «بانتين» و«أولاي»، وبعض ماركات مستحضرات التجميل. غازي وكيلاني لديهما معمل للشوكولا، فصارا يعملان منذ عام 2010 في تجارة العصائر والبسكويت بين اليمن والسعودية وسوريا. لقد باتت عائدية التوظيف في الصناعة السورية أقل من 2 في المئة، بينما هي في العمل التجاري تتجاوز 10 في المئة، وتصل أحياناً الى 12 في المئة.
منذ عام 2008، بدأ العديد من أصحاب مصانع الأجهزة الكهربائية المنزلية يهجرون عملهم الصناعي، ويصاهرون التجارة في العمل. المنافسة غير المتكافئة بين ما ينتجون وبين المنتجات الصينية أو حتى في الجوار، دفعتهم إلى ذلك. فيما بقيت الحكومة السورية تنظر إلى المواد الداخلة في صناعة الأجهزة الكهربائية المنزلية على أنها مواد نصف مصنعة مثل محركات الغسالات والبرادات، وبالتالي تصل رسومها الجمركية إلى 50 في المئة. قبل أربع سنوات، كان كبار مصنعي الألبسة الجاهزة يؤكدون انقلاب 30 الى 40 في المئة منهم إلى مستوردين. ثمة من حوّل معمله إلى مستودعٍ للتخزين بعدما تقلص عدد ساعات العمل لديه من 16 ساعة في اليوم إلى 6 ساعات. كما انخفضت الطاقة الإنتاجية لدى أغلب معامل وورشات صناعة الألبسة الجاهزة إلى النصف تقريباً. المؤكد أن كلف الإنتاج في سوريا تزيد بنحو 20 الى 30 في المئة عن كلف الصناعات المنافسة في دول الجوار. إضافةً إلى أن مستلزمات العمل الصناعي لا تزال مرتفعة لجهة الرسوم وكلفة البنية التحتية. لقد باتت معظم الوكالات التجارية في السوق السورية بأيدي صناعيين. صادرات الصناعة السورية واظبت على تراجعها بنسبة بلغت نحو 95 في المئة خلال الفترة الممتدة بين الربع الأول من عام 2011 والربع الأول من عام 2013، كما تراجع إجمالي المستوردات بنسبة 88 في المئة. قبل هذا التراجع، وضع التقرير الاقتصادي العربي لعام 2009 سوريا في أدنى مرتبة بين الدول العربية لجهة نمو صادراتها، وكانت النسبة وقتها 10.3 في المئة.

أسباب عالمية وأخرى محلية

لكن متى بدأ تقهقر الصادرات السورية، ومتى بدأ تشخيص موتها سريرياً؟ الصناعيون في قطاع الألبسة الجاهزة يقولون إن الصادرات السورية من ألبسة الأطفال انكمشت بعد العام 2005 إلى النصف تقريباً. لم يكن ذلك نتيجة خسارة أسواق بعينها، بل جرّاء انخفاض الطلب على المنتجات السورية، والتوجه نحو البضائع القادمة من شرق آسيا ومن الصين.
كان العقد الممتد بين العامين 1995 و2005 قد أوصل عدد معامل وورشات صناعة الألبسة الجاهزة في سوريا إلى نحو 3000، تشغّل قرابة 200 ألف عامل. لكن بداية هجران هذا القطاع حدثت بعد العام 2005. حينها سافر نحو 100 صناعي سوري إلى الصين، وأسسوا فيها معامل لصناعة الألبسة الجاهزة وصاروا يصدرون إنتاجهم إلى دول الخليج كما اعتادوا، وإلى السوق السورية أيضاً. عام 2005 أيضاً هو العام الذي تدفقت بعده الاتفاقيات الثنائية غير المتوازنة، والتي جعلت سوريا سوقاً لتصريف المنتجات. المعامل السورية الصغيرة والمتوسطة، ومعظمها عائلي، أو فردي الملكية، سجلت الضرر الأكبر. يصر الصناعيون السوريون على خوضهم نقاشات عديدة مع الحكومة حول وضع ضوابط للمستوردات السورية بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008. لكن من دون الخروج بأي نتائج. معاهدة التبادل التجاري الحر مع تركيا عام 2009 شكّلت هلعاً نفسياً لكل صناعات القطاع الخاص في سوريا. حظوظ المنافسة كانت ضئيلة. تركيا تدعم صناعاتها وسوريا لا. مع أن الاتفاقية ألغت الرسوم الجمركية على الصناعات التركية المنشأ التي تدخل السوق السورية، لكن ضريبةً تراوحت بين 40 إلى 43 في المئة، غايتها بناء مساكن للفقراء في تركيا، بقيت تلازم الصادرات الغذائية السورية إلى السوق التركية، رغم أنف المعاهدة. كل البضائع التركية كانت تدخل السوق السورية من دون أي رسوم جمركية. 
بعد 2009، عام العسل السوري التركي، تضررت نحو 2000 ورشة للصناعات النسيجية والألبسة الجاهزة في سوريا، يعمل في كل واحدةٍ منها نحو 20 عامل، وخرج ما يبن 25 ألفا إلى 30 ألف عامل من سوق العمل.

دعم الصادرات 

العقدة النفسية من دعم دول الجوار لصناعات بلدانها يمكن تشخيصها بلا قلق لدى كل الصناعيين السوريين. عام 2010، تقرر أن يكون دعم الصناعة السورية عن طريق «شيكات ضريبية» هدفها تخفيض الرسوم والضرائب المباشرة، وتم الحديث عن مبلغ زهيد لا يتجاوز 15 مليار ليرة ممتد على خمس سنوات، على أن تبدأ مصفوفة الدعم بصادرات المنتجات الزراعية المعلبة وزيت الزيتون، ثم الصادرات النسيجية. مبلغ الدعم المخصص لكل صناعي مصدِّر مرتبط بالقدرة التنافسية لسلعته بعد دراسة تكاليف إنتاجها ومقارنتها مع كلف إنتاج نظيراتها الإقليمية المنافسة. مع بداية العام الحالي، وزّعت «هيئة تنمية وترويج الصادرات» مستحقات الدعم الصناعي عن عام 2012. مبلغ الدعم وصل إلى 152.5 مليون ليرة سورية، وعدد المؤسسات المستفيدة منه 52 فاعلية اقتصادية، تستثمر في زيت الزيتون والكونسروة، والألبسة الجاهزة. في الثمانينيات، كانت حركة الطلب في السوق السورية أكبر بكثير من حركة العرض. الاقتصاد كان موجهاً، ورغم أزمة توافر القطع الأجنبي، لكن الصناعة السورية كانت تعيش عصرها الذهبي. أرباحها كانت تتعدّى 125 في المئة، إنْ كانت تصدر بضائعها إلى الاتحاد السوفياتي ضمن ما كان يسمى «باتفاقية المدفوعات». كما كان نظام «المخصصات الصناعية» من المواد الأولية بمثابة شكل من أشكال الحماية للصناعة السورية. استمر ذلك حتى العام 2005. والعقد الأخير كان شاهداً على تآكل هذا القطاع وفقدانه معظم أسباب بقائه.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

في سوريا: العمل بالأمل؟

ما بعد الانتخابات هو ما قبلها حرفيّاً، إن لم يكن أسوأ. فها نحن نسير من شبه إفلاس إلى إفلاس، من شبه حصار إلى حصار، من شبه جوع إلى جوع، ترفدنا...

ما بعد الخمسة آلاف ليرة سورية...

سوّغ حاكم المصرف المركزي طرح تلك الفئة النقدية الجديدة، بربطها باستبدال العملة التالفة، ونفى أن تكون كتلةً نقدية تضخمية. غير أن المزيد من العملات شبه المهترئة من فئتي الألف، والخمس...

راس السنة، أصابع ملوثة بالحبر

خلال العام الماضي، ظهر العراق والصومال كوجهتين استمالتا السوريين الراغبين بالسفر، والقادرين عليه. فالراغبون بأعمال هامشية في المطاعم والفنادق استحصلوا على "فيزٍا" إلى أربيل، أما الأطباءُ متوسطو الدخل، والقادرون على...