العراق الجديد والسؤال عن المعنى

بعد 2003، اندلعت إلى ساحة التّناول السياسي شبكة من المفردات التي ستفسر حالة الوجدان العامة للدهماء، والتي ستكون في ما بعد مُتاحة للاستعمال داخل الفضاء العام. القاموس العاصف "العدالة الانتقالية"، "التّوافق"، "المكونات"، "الطوائف"، "الهوية"، "الوعي الانتخابي"، "جيوب التمرد"،
2015-04-09

ميثم الحربي

كاتب من العراق


شارك

بعد 2003، اندلعت إلى ساحة التّناول السياسي شبكة من المفردات التي ستفسر حالة الوجدان العامة للدهماء، والتي ستكون في ما بعد مُتاحة للاستعمال داخل الفضاء العام.

القاموس العاصف

"العدالة الانتقالية"، "التّوافق"، "المكونات"، "الطوائف"، "الهوية"، "الوعي الانتخابي"، "جيوب التمرد"، "الاحتلال"، "التغيير"، "اجتثاث البعث"، "الانقسام"، "المحاصصة"، "الفيدراليـة"، "الصحوات"، "فرض الديموقراطية قسرا"، "الديموقراطية المُتخلّقة"، "الفوضى الخلاقة"، "الميليشيات"، "القاعدة"، "المركز" و "الإقليم.. وغير ذلك من مفردات التغيير (أو التغرير!). كان هذا النوع من القاموس العاصف مرآة انعكست عليها صورة العراق الخارج من الحكم التسلّطي وفقا لأدبيات الأمم المتحدة، حيث كانت الصورة المعكوسة مفتتة إلى شظايا كثيرة وما زالت تتناسل.
ومن خلال مراجعة نتائج تلك المفردات، نجد أن الاستقرار غير مُتحقِق، وما زال إحلال الأمن مطلبا يتربع على هرم الأولويات سياسيا، واجتماعيا. وما زالت "العملية السياسية الجارية في البلاد" تجري، وفي واقع الحال هي تجري على منحدر حاد يحيط بها الخطر من كل صوب ويجعل الساحة العراقية واقفة ومتوترة على "منصة طوارئ".
وبالطبع لا ننسى المفردة التي تعمل وحدها بحجم عاصفة، وقد اتخذ العراق مكان العين منها، وهي "الإرهاب". ومن الضروري القول ان الجهد العسكري الأميركي تكفّل بتفكيك البعث كنظام حكم دام أكثر من ربع قرن. ولم يكن التّفكيك في عمقه إلاّ تفكيكا لرموز نظام. وبقي الأمر الأكبر شُغلا لم تتقدّم الثّقافةُ العراقيةُ بعدُ لتسميته بشكل واضح.

المثلثات القاسية

نتذكر بعد 2003 كيف أنشأت الموجة الإرهابية "مثلث موت" منذ 2004 إلى صباح السابع من حزيران/يونيو 2006، حيث قُتل المجرم الشرس أبو مصعب الزرقاوي بغارة أميركية في بعقوبة. حينها أعلنت الحكومة العراقية نهاية أضلاع هذا المثلث وودع العراقيون فصلا رهيبا من هندسته القاسية. الرئيس بوش عبر عن حماسته بأنه وجه ضربة قوية لتنظيم القاعدة. وكالعادة بنى جزءٌ من الإعلام العربي سرادق عزاء وبكى بحرقة على مُجاهده! وقتها اعتبر دونالد رامسفيلد اندحار مؤسس تنظيم "التوحيد والجهاد" ولاحقا تنظيم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" بأنه انتصارٌ مهم في الحرب على الإرهاب.
وحين صعد مجاهد العرب والإسلام إلى بارئه كما يقول فهلويّو العبادات، كانَ يسحل برقبته جثث العراقيين الأبرياء. وعلى سبيل المثال لا الحصر: تفجيرات القحطانية التي أدت إلى مقتل 796 شهيدا وجرح 1562 من أبناء الطائفة اليزيدية في قضاء سنجار التابع لمحافظة نينوى. زد على ذلك ذبح مئات الأبرياء أيام نشاط التنظيم في منطقة اللطيفية أسفل بغداد. وما ظلّ يُفهم على طول الخط، أنّ الزرقاوي كان يتمتع بضيافة سخية وغامضة! ومضى مع الشباب الذباحين يرسمون للعراقيين مثلثات موت هنا وهناك برشاقة، وكان التالي بعد مثلث الموت في اللطيفية، الرسم الهندسي الجديد في منطقة النخيب وهي صحراء مفتوحة تربط كثبانها محافظة كربلاء بالأنبار. كانت قارعة الطريق في تلك الأعوام مُتحفا للجثث المذبوحة والمحروقة والممثل بها، مع قصص اختفاء مركبات خاصة وأجرة، وصهاريج وناقلات خضار وطماطم ملأى بالدماء والصراخ.
واليوم يخوض العراقيون عبر منظومة دفاع مُحمّلة بزخم السنوات الدامية معركة تكسير عظام المثلثات والمربعات والدوائر التي تحاول الدولة الإسلامية – داعش بزعيمها البغدادي رسمها بفوهات البنادق وأناشيد هادمي اللذات ومُحطّمي الثيران المجنحة. داعش كما يبدو ثالث موجة عاتية في سلم موجات الإرهاب الواقعة في غرام العراقيين، بعد "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" وفي ما بعد "مجلس شورى المجاهدين في العراق". ومنذ غزوة العاشر من حزيران/يونيو إلى هذه الأيام بدأت تتبيّن مواطن الانتصارات الصلبة والرّخوة على الإرهابيين.
لنتذكر معا: الغارة الأميركية الأولى فجر السابع من حزيران/يونيو 2006 أنهت الزرقاوي في ديالى، وفي فجر الثاني من آذار/مارس 2011 أنهت عملية اقتحام أميركية ثانية لقبت "جيرونيمو" سيده بن لادن في إسلام آباد وألقته في البحر.. ولم يبق سوى غارة أميركية ثالثة تختار أي فجر تريد لتُنهي البغدادي في الموصل أو الرقة ليركن العالم أخيرا على الجانب وُيدخّن سيكَارة الصُّعداء!

الدستور

اليوم ندخل في بداية العقد الثاني على الاجتياح الأميركي في 2003. ومن خلال التنقيب في إرث السنوات العشر الماضية ونيّف نجد أنه تم التصويت على "دستور" يفترض به أن يساعد في لملمة خراب الهيئة الاجتماعية والدفع بمشكلاتها باتجاه الحل. لكنّ الرياح تأتي دائما بما لا تشتهي السفن، حيث كان الدستور نفسه مصدرا للأزمات نتيجة تعارض التأويلات بين القوى السياسية التي تستعرض نفوذها على الساحة العراقية. وما زلنا نسمع ونقرأ ونشاهد الطبقة السياسية وهي تقول إنّ الاحتكام إلى الدستور يُعمّق الأزمات ويشرِّع الأبواب لمزيد من حالات الانقسام، لا سيما في ما يتعلق بتنفيذ مفردات البرنامج الديموقراطي (الناشئ) حول توزيع الثروات، والمساواة، ووضع المرأة، وتوفير عدالة اجتماعية.. وكل ما يتصل بإعادة ترميم قائمة الحاجات الأساسية للعراقيين.
حزام القوى الناعمة
في كتاب "soft power " (القوة الناعمة) يوضح جوزيف ناي أنها تعني أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق، ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن. والسؤال هو: هل توجد قوة ناعمة في عراق ما بعد 2003 بالمعنى الذي يقرره ناي؟ ولو كانت موجودة، فأين محطات ضغطها الفعالة التي أنجزت تغييرا في مجرى ما تنتقده تجاه طريقة الحكم، وعمل الطبقة السياسية المتنفذة؟ وما دامت القوى الناعمة تُعرّف بأنها "قوة روحية ومعنوية" يمكننا أن نسأل تباعا: ما هو الشكل الروحي الذي يستقيم عليه حزام الوجدان العراقي العريض، نخبويا وشعبيا؟
في زمن صدام حسين فقد العراقيون إلى جانب الحق الجسدي في البقاء على قيد الحياة عبر سياسات الإبادة والحروب والحصار الاقتصادي أعز وأغلى ما يملكون. لقد فقدوا كرامَتهم. لذلك لا يمكن أن تكون لحظة 2003 كما يُقال لحظة الصفر المحمية من التراكم الديكتاتوري بحيث أنها تصبح فجأة قادرة على التعرف على وجدان صحي يمكن له أن يديم وضع المقاومة النقدية للأخطاء الجسيمة التي يمارسها السياسيون القابضون على مصدر القرار والمتحكمون به.

النقاش المركزي

شاع الجدل بعد 2003 حول التعارض الحاد بين "الاحتلال" و "التغيير". وفي كل ذكرى سنوية يتصاعد هذا الجدل بذاكرته إلى السطح. أعقب ذلك الصخب العالي الذي يدول حول مفهومي "الهوية"، و "الأقليات، وحاليا "المثقف الطائفي"، و "الحريات". إلى جانب ذلك يشيع تبرّم واسع الطيف بسبب الفساد المالي والإداري والديكتاتورية البيروقراطية، والفساد الذي يخترق جوهر التشريعات. كل شيء ينقسم، وينقسم على نفسه في المتن الاجتماعي العراقي نتيجة الموجة العاتية من العنف والتهام الحدث للحدث الآخر على الساحة. إن الأمر ليس أشبه بعاصفة، بل هو عاصفة ضارية تكدس الخسائر تلو الخسائر في الأموال والأنفس والمفاهيم وضياع البوصلة باتجاه الرغبة في صناعة برنامج داعم يفرض الاستقرار والأمن في البلاد.
الإعلام
في مجال الإعلام، لا يمكن الفخر بتاتا بأنّ العراق بعد 2003 أنتج تجربة "إعلام حر مُستقل". وحتى لو تأسفنا على فقدان الكثير من الصحافيين في التفجيرات والاغتيالات وحوادث الخطف، إلا أننا سنتأسف أكثر على نوع الجهات التي تدير دفة الرأي العام، والتي كان يعمل فيها الصحافيون الذين قضوا نحبهم. فالإعلام العراقي، شأنه شأن الدستور، مولد أزمات، ويستثمر في المرجعيات المناطقية والجهوية والطائفية. لكل منبر إعلامي وتره الحساس الذي يراه ويروح يضرب عليه صباح مساء. وبما أن العراق هو ساحة لتصفية الحسابات، نجد الإعلام العراقي في غالب الأحيان جوابا لذاك الإقليمي والدولي لتفصيل تجربة العراق وديموقراطيته "الناشئة" على مقاسات وزوايا نظر متعارضة. لنأخذ مثلا حدث "إعدام صدام". فطريقة إعدامه سببت انقساما بين من اعتبرها تتسق مع "جوهر العدالة"، ومن اعتبره استجابة لـ "طبيعة الثّأر". إنّ هذا الارتباك، والوضع المحرج الذي مرت به العدالة يعد استجابة لمفهوم "العدالة الانتقالية" أصلا الذي لم تحسن الطبقة السياسية التعامل مع حساسيته في العراق. الإعلام العراقي، ونحن في بداية العقد الثاني من ذكرى الاجتياح الأميركي، هو أحد المُسهمين في زراعة الحيرة وتشتت الجمهور والتدليس في نقل المعلومات، وبالتالي بناء نوع من عدالة مثيرة للدموع!

لافتات

موضوع التظاهرات التي برزت في مناطق كثيرة من البلاد يتطابق مع صورة العراق المتشظّي، والباحث عن معنى ما ينْظم عملية الشهيق والزفير الكبرى لتقويمه العاصف. في هذا الصدد نرى أنّ الإشكال القائم المتمثل بمحاربة "داعش" ينتج من أزمة تظاهرات وسياسات طائفية مُتّبعة، وحيص بيص الاعتصامات. داعش اليوم هو جماع هذه وتلك وغير ذينك من أسباب خارجيّة. فقد تولّد من خلال موجة الاعتصامات في المحافظات الغربية، ونجد في الوقت نفسه أنّ التظاهرات في حياته الداخلية تنبعُ من عملية "إذلال خصوم"، وسيُضاف إليها لاحقا ثمّ أضيفت إليها لاحقاً فرقعة البنادق الجهادية. ويتقدم هذا النوع من التظاهرات في أتون زمننا الهائج مدعوما بالزّيت والنار الإقليمي، وما تضخه عليه لعبة كسر العظام لمحاور الصّراع في المنطقة.
في الأفق القريب قد يحضر التساؤل بشأن تحوّلٍ ما ربّما يجري في الدّماغ العراقي العام، خصوصا في ما يتعلق بتوليد ثقافة احتجاج، تقرأ التراكم بصيغة مثيرة للدموع، لأن التظاهرات المتعاقبة سارت على منوال "في الحركة بركة"، وامتلأنا بالحزن لكونها بقيت عبارة عن حبل من الرمال يتلاشى عند البرم بسبب عدم وجود إطار أو نموذج عملي لطريقة الرفض ورفع المطالب. يُضاف إلى ذلك وجود جمهور متبرم يعيش يومياته القاسية بلا خطابٍ حاملٍ لبرمه.. كما إن المجتمع المنكسِر إلى مكونات يتجلّى على شكل وهم ويتمدد أمامنا على نحو سائل، ولا يتصلب إلا أمام ما يقدم له من خطاب ثأري متوتر الأوداج وما يسمعه من عزف متحوّش على الوتر الطائفي. واليوم نجد أنّ القوى المتنفذة ماضية في صنع ثروتها الخاصة، تملك القرار السياسي وعشبة الخلود معا، زد على ذلك أنها تـفصّل لنفسها قوانين، في حين ليس للأفراد قانون، وتعاني هيئتهم الاجتماعية من الضرر الجسيم. هل يقول العراقيون بنحوٍ أوبرالي اليوم: نحن يائسون من ديموقراطيتنا؟ أو لا يحبون قول شيء كونهم خارجين من جمهورية خوف إلى ديموقراطية الذبح والتهجير والنزوح والخراب الزّاهر! إن محطّات التظاهر التي نعبرها وتعبرنا بين آونة وآونة ونُغيّر جلدَها كالأفاعي، يتضاءل فيها على الدوام ذلك الحسّ الاجتماعي الذي يخلبُ لبَّه ضياعُ الحقوق، وهدرُ الدم، والاستخفافُ بالكرامة.

أين البوصلة؟

لا توجد على الساحة العراقية أحزاب بالمعنى السياسي لهذه المفردة. بل هناك قوى متنفذة، وتحالفات سياسية بنيت على اقتسام ساحة المعنى بين أسر وقبائل سياسية كبيرة في كل مرة تقوم بإرجاء التصويت على "قانون الأحزاب" إلى دورة برلمانية تلو أخرى. يضاف إلى ذلك تحكم بالقرار السياسي من قِبل التدخل الخارجي عبر مسارَين أمريكي – إيراني، وما يتفرع عنهما من أصداء. في ظل ذلك يتم في كل مرة إلقاء مهمة التغيير على عاتق "الناخب العراقي". وفي واقع الأمر هناك فجوة واسعة بين صندوق الاقتراع وناخبه. وإلى الآن لم تتوطد هذه العلاقة وتنمو بشكل صحي، لأنه في واقع الأمر، لا وجود لـ "وعي انتخابي" بل يوجد "حماس انتخابي" يمارس فعله كلما يستجيب لطبول مصير الطائفة، وخطر ضياع القرار من المذهب أو المكِّن. وبطبيعة الحال، لا يأتي للناخب وعي اقتراع متقدم كونه انتقل بشكل مفاجئ من لحظة "الزحف الكبير" في زمن صدام حسين، إلى انتشار "الصناديق الناشئة" واندلاع "ثورات بنفسجية" فارغة المحتوى من التراكم الحيوي الذي ترفده "ثورات قيمية" تكون إطارا رافعا لقوة الاختيار والتصويت الواعية.

للكاتب نفسه

الموصل.. ثمن البداية من صفر جديد

هواجس ما بعد تحرير الموصل: أين المشروع الوطني القادر على تجاوز الكوارث المتلاحقة، وآخرها ما جرى للموصل وفيها، وتداعياته المستقبلية. وهل يتشابه زلزالا الاحتلال في 2003 وهذا الحدث الاخير؟